نهضَ من فراشه ، لبس وجهه الصمتْ ، توجّه نحو المدينة التي تبعد عن قريته مسافة عشرة كيلو مترات ، عيناه تمتصّ ضوء الشمس كالأفواه ، وتزرع في قلبه الأسى كالمقابر ، كان همّه العثور على عمل ربّما لم يكن بمقدوره الحصول عليه لأنّه صغير السنّ ترك المدرسة المتوسّطة العام الماضي ، بسبب الحمى الشديدة التي ألزمته الفراش طويلاً ، جالت بذاكرته يوم كان والده عاملاً في معمل للنسيج ، ويوم كانت الأمور تسير على مايرام ، أمّا الآن فقد ترك العمل لأنّه أصيب بالشلل النصفي بعد خدمة دامت عشرين سنة من العمل المتواصل المرهِق ، وها هو ذا ممدّد على بساط بالٍ في باحة البيت المتآكل الجدران بفعل قسوة الزمن عليه ،لم يبقَ لهم سوى كمّيّة قليلة من الدقيق ، كان يسرع تارة وتارة أخرى يسير ببطء بدأ التفكير يؤرّقُه بقدر الخوف الذي يشعر به كان بحّاراً بلا دفّة ، إنّ القلاع تنشر أردية الرعب في طريقه ، لقد خاف من الحياة كما خاف من الموت ، بعد جهد شاق وصل المدينة ، طاف الطرقات ، الأماكن العامة ، البيوت ، المقاهي ، المحلات العامة دون جدوى ، لم يحصد سوى الخيبة والطرد مثل الكلاب . قال يخاطب نفسه : أي شيء تبحث عنه في الدرب رؤاك ؟! سوف لن ترى إلّا بعض الأشياء بعثرتها الريح كي تخنقك ،أمّا الصبر فعبارة عن شيء ما لابدّ أن يفرض عليك دون رضاك .. راح يلعن حظه العاثر ، سحقاً للفقر .. لماذا لم تلدني أمّي في بلد مثل العراق ، عراق الكرامة ، الشعب العريق ، بلد الخيرات ، التراث والحضارة ، هذا ما يقوله أبي دائماً .. وينفجر ينبوع اليأس وتظلّ الأجوبة كنقطة لبداية المَهَمَّات مملوءة بالنقاط والتعابير ، أحسَّ بالتعب والجوع والحزن فاستلقى على الأرض .. شعر برغبة حادة للنوم ، بعد لحظة غاص في نوم عميق ، رأى أحلاماً كئيبة ، كتفصيل قامته ، كان يسير ببطء وكانت المسافة شاسعة جداً راحت العمارات والأشجار تحجب عنه السماء وتتحوّل إلى قبر واسع بدأ يتقلّص عليه فيضيق عليه الخناق ، وثمّة أصوات خيول مسرعة وقرع طبول تسيطر على رأسه الصغير ، فهبَّ مذعوراً ، رأى الظلام يفرش جناحيه على المدينة نظر إلى السماء فشاهد سرباً من الطيور ، تمزّق السكون بأصوات غريبة ، فدب الرعب في قلبه وكوى الحزن فؤاده ، واستولى اليأس عليه كبادرة أخيرة فيخفتْ الضوء .. وتضعف العيون ، فيتهدّم الأمل فافترسته وحشة شرسة غادر المدينة طاوياً الطريق المؤدي إلى قريته وكان قلبه ورأسه مثقلين بالهواجس ، دلف إلى داخل البيت وجد والده ممدّداً كما تركه وإلى جواره أخوته الصغار واضعين رؤوسهم في أحضانهم تزاحمت الأسئلة في رأسه لكنّه ظلّ صامتاً دون حراك ، نظر إلى والدته فشاهد وجهها الشاحب المصفر وعيونها مليئة بالدموع ، نظرتْ إليه قرأ الأجوبة على وجهها أغمض عينيه فأحسّ أنّ في داخله مئات من الأجنحة ، وشعر بأنه خفيف كالقش .. وأنّه يطير .. يطير في سماء واسعة رحبة بينما نجوم من الأرض راحت ترتفع نجماً بعد نجم لتضيء القرية وتغمر القلوب بالسعادة .. سعادة الضعفاء .. (كتبت في شمانينات القرن الماضي )