كانت الأسواقُ ما زالت تُبدِّلُ أسعارَها، ولا تبيعُ أحدبَ نوتردام لجيشِ إسبارطا. وهو يأتي من هناك، تارةً بإزميلٍ حجريٍّ ومطرقةٍ من خشبٍ، تارةً بيدَيْنِ من البرونز وساقينِ من حديدٍ، تارةً بعينٍ واحدةٍ وساقٍ مُعلّقةٍ في الهواءِ، تارةً بعباءةٍ مزّقَها سريرٌ عابرٌ والرِّياحُ المشاغبةُ، وتارةً ببذلةٍ معلّقةٍ على "بابيون" وبغليونٍ ذهبيٍّ ينفُثُ غيمًا فاسدًا. في اليومِ الرّابعِ للمَطَرِ الأوّل، في ظهيرةٍ لا يذكرُها أحدٌ، عندما يتساقطُ الآلهةُ السّالفون، قطعةً قطعةً، ويعودون إلى الوحلِ، يحمِلُ ساقَهُ المعطوبةَ وإزميلَهُ الوفيَّ ومطرقتَهُ وصُداعَهُ، ويأتي. تقدَّمْنا كثيرًا. السّاحةُ مرصوفةٌ بالتّرابِ البِكرِ، والطّيورُ واقفةٌ على الرُّؤوس. لكنْ لا أحدَ يقتني حصانًا أعرجَ، ما عدا الجزّار. تبدّلت قائمةُ الأسعارِ والعرضِ والطَّلب؛ اسبارطا ذهبت مع الرّيحِ ولم تعُدْ، ابنُ الأزرق(1) خسرَ كلَّ شيءٍ عندما تعصَّبَ لكلِّ شيء، أحدبُ نوتردام(2) يعملُ مُمثّلًا بلا ماكياجٍ في العواصمِ الكبيرة، لكنَّ الخيولَ العرجاءَ ما زالت خارجَ الخدمةِ والطَّلَب. يحملُ ساقَهُ الميّتة تحت إبطِه، في اليومِ الرّابعِ للمطَرِ الأوَّل، عندَ الظّهيرةِ التي لا يذكرُها أحدٌ، ويعرُجُ إلى السّاحةِ المزروعةِ بالمجهول. لكنَّهُ يُعلِنُ، بلا صوتٍ، أنَّ النّقشَ أبقى من النّحات، والرّسمَ أبقى من الرّيشة، والإيقاعَ يعلو حينما يسقطُ المُغنِّي على مرَسِ الشّيب. سيؤثِّثُ الأرواحَ الحائرة. سينشئُ، من صخرةٍ عانسٍ فوقَ التُّرابِ المجّانيِّ، إلٰهًا عظيمًا. سيشويهِ بالنّارِ التي سرقَها بروميثيوس(3). سيحشوهُ بالهيولى وأسرارِ البدايةِ. سينقشُ على جفنَيْهِ الحجريَّيْن ضبابًا من "دِلفي"(4)وعلى رمشَيْهِ حاقَّةَ(5) النّهايةِ. سينصُبُ ساقَيْهِ على حوافِّ الأرضِ. سيرسمُ ملامحَهُ على ليلِ "الأبوريجيّين"(6)، وشفتَيْهِ على أطلالِ قهوةِ قارئةِ الفنجان. سيغرسُ عندَ حاجبيْهِ برقًا ورعدًا وخارطةَ الزّلازل. سيجعلُهُ مُقاومًا للشّتاءاتِ القادمةِ مثلَ السّاعاتِ السّويسريَّة. سيُغلِّفُهُ بحجارةِ الآجر على أسوارِ القسطنطينيّة. سيطليهِ بماءِ الذَّهبِ حينما يتوفّرُ الذّهبُ. سيدجِّجُهُ بسيفٍ من ماسٍ حين تلفظُ أفريقيا ماسَها في أقراطِ سيّداتِ الغرب. سيضعُ في جيبِهِ مجسّاتٍ رقميّةً تسبِقُ القطَطَ اللَّعينةَ في اسكتشافِ الهزّات الأرضيّة ووَيْلاتِ العربِ العاربة والمُستعربة. وسيملأُ جعبَتَهُ بسهامِ البورصا، حين يجثو العالمُ عندَ أقدامِ الرّبحِ الخاطفِ. وسوفَ يغيبُ خلفَ الجدارِ، فيما سيجثو النّاسُ عندَ الإلٰهِ المصنوعِ للتّوِّ، يُصلُّونَ ويرتّلونَ ويتقاتلون. وحين يعودُ، بعدَ خمسةِ آلافٍ واثنين وستّينَ عامًا، في اليومِ الرّابعِ للمطرِ الأوّل، عندَ الظّهيرةِ التي لن يذكرَها أحدٌ، حينَ يعودُ ببذلةٍ بيضاءَ وأسنانٍ من البلّور وأصابعَ من الزّبرجد، سيمشي الوثنُ العظيمُ من السّاحةِ المزروعةِ بالبريقِ والضّوضاء، ثمَّ ينحني ثمَّ يركعُ ثمَّ يُقبِّلُ قدَمَهُ النّاقصة. **** إضاءات: **** (1) ابن الأزرق، أسّسَ فرقةً من الخوارج بعدَ هزائمِهم، سويَّةً مع ابن أباضة. ثم انقسمت الفرقة إلى فرقتيْن، واحدة سُمِّيت بالأزارقة واشتهرت بالتعصّب الشديد والانقطاعِ عمَّن يختلفُ معهم، واندثرت. والثانية سُمّيت بالأباضيّين، وكانت منفتحة على محيطِها، وهي ما تزال قائمة لليوم في المشرق العربي والمغرب العربي. (2) إشارة إلى رواية فيكتور هوجو الشّهيرة. (3) بروميثيوس هو من سرقَ سرَّ النّار من الآلهة الأغريقية وأهداه للبشر. (4) معبد دلفي، حيث كان ملفوفًا بالغموض، وكان كهنتُه ينبئون النّاس بنبوءاتٍ مُبهمة (ميثولوجيا أغريقيّة). (5) الحاقَّةُ هو يومُ الحساب، حيثُ يظهرُ الحقُّ (قرآنٌ كريم). (6)هم سكّان أستراليا الأصليّون، ومنهم يحاول علماء الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا استنباطَ مفاهيمَ حول حياتِنا ومعتقداتِنا في العصور الأولى، باعتبارهم عاشوا حياةً بدائيّة حتى العصور الحديثة.