كتبت سناء أبو شرار للإنسان علاقة وطيدة مع المكان ، قد تكون علاقة حب أو ألم ، تعلق أو نفور ويكفي أن يسأل أي منا من حوله أين يرغب ان يعيش ، وهل يحب المكان الذي يعيش به كي تنهال الإجابات ، لأنه سؤال يمس الذات الدفينة لكل منا. ولكن علاقة الكاتب بالمكان هي العلاقة الخاصة جداً ، فبعض الكتاب لا يكبت إلا في مكانٍ محدد ، بعضهم يتوقف عن الكتابة حين يسافر لمكان ما ، وبعضهم تلهمه المدن بل والقرى وربما القفار. من المدن التي حصلت على إمتياز رغبة الكتاب بالحياة بها باريس ونيويورك ، كتاب " باريس كانت لنا" (Paris was ours) للكاتب بينلوب رولاندز ، يوضح هذه الصورة ؛ لقد جمع الكتاب حوالي 32 شهادة شخصية لكُتاب قرروا أن يعيشوا في باريس من شتى أنحاء العالم ، منهم من أمريكا- كندا- بريطانيا - العراق – ايران- وكوبا وغيرها . بعض ما ورد في شهاداتهم أن باريس تنتمي لكل شخص بطريقة مختلفة ، وأنه في باريس يبدو أن طعم الأشياء مختلف وأن باريس غيرت حياة هؤلاء الكُتاب ، ويجدون بها الإلهام المنشود. أما المدينة الأخرى شديدة الجاذبية للكُتاب فهي نيويورك مركز الحياة الثقافية في أمريكا بمسارحها وبكونها أول مدينة أمريكية وُلدت بها الفنون الأفريقية السوداء ، وبالأعداد الكبيرة للمهاجرين من كل دول العالم وبكونها مركز صناعة الموسيقى الأمريكية بكافة أنواعها ، وحالياً تبدو نيويورك مركز عالمي لسوق الفنون ، بمتاحفها ومسارحها ، وهي ثاني أهم مدينة أمريكية لصناعو الأفلام بعد هوليوود. أما عن الكتب فنيويورك هي أو مدينة وُجدت بها الكتب الكوميدية منذ عام 1930 . حتى أن إدارة الشؤون الثقافية في نيويورك هي الأكبر من بين جميع الولاياتالأمريكية . وبالطبع تبدو هذه المدينة بشوارعها الواسعة والتنوع السكاني الواضح وبناياتها الشاهقة مدينة مُلهمة للكُتاب لإحتوائها على تنوع انساني ثري وملحوظ ولأنها تجاوزت محدودية العروق والأديان بل والطبقات أيضاً. وهناك موسكو ، بمظهرها المحافظ ومقاهيها القديمة وأبنيتها الأثرية والتي تبدو لشدة جمالها كلعب أطفال وليس أبنية حقيقية ولكن موسكو لم تكن محط أنظار الكتاب من كل دول العالم ولكن اقتصرت أهميتها على سكانها المحليين أو الكُتاب من دول الأتحاد السوفيتي سابقاً . أما على الجانب الشرقي ، فالمدن الثقافية العربية تخضع دائماً للتحديات السياسية ، تتقدم ثم تتراجع ، تعلن هوية ما لها لعام حين تُختار كمدينة للثقافة ثم يختفي ذكرها ؛ ولكننا لا نجد مدينة محددة في الوطن العربي تحمل مزايا وصفات وإمتيازات مدينة ثقافية عالمية ، بمسارحها ، بمعارض الفنون ، بالموسيقى الشرقيةالأصيلة، بإستقبال الكُتاب من كل بقاع العالم ، بدعم مالي من مشاريع استثمارية للحياة الثقافية مثلما يتم ذلك في مدينة نيويورك ، بل تتناثر معارض الكتب بين الدول العربية وبأوقات متفرقة من السنة ، ويكاد ينعدم وجود مسرح خاص بالأطفال له شهرة عالمية يقدم عالم الطفل عبر عروض رفيعة المستوى للتعريف بالطفل العربي . لذا نجد أن الكاتب العربي يختار مدينة ما يحبها ، مدينة قريبة إلى روحه وقلبه ولكنها ليست بمواصفات مدن ثقافية عالمية حيث يكون له وجود وإنتماء وإلهام ومجتمع كامل يتخاطب معه ويشعر بأن له هوية اخرى تختلف عن جواز سفره ؛ لأننا نفتقر لهذه المدن ذات الصفة الثقافية البحتة ، هذه المدن التي تجعلنا ننسى الحياة اليومية وتصحبنا معها إلى عالم الجمال ، جمال الأماكن ، المتاحف ، المسارح ، الموسيقى الأصيلة ، الكتب ، البنايات الشرقية ، مدينة ذات هوية ، ذات هدف ومدينة تقدم نفسها بكل الجمال ، بكل الإنتماء النفسي والروحي ؛ فهل تعجز كل الأموال العربية على أن تؤسس مثل هذه المدينة التي كانت كذلك فيما مضى تتمثل في بغداد و القاهرة أو دمشق. الثفاقة ليست شيء كمالي ، وهي لا تقتصر على الكاتب ، بل حاجة أساسية في روح كل انسان ، حتى الشخص الذي يقول عن نفسه بأنه ليس رومانسي يرغب أن يكون جزء من هذا العالم الثقافي شديد الجمال ، لأن هذا العالم لا يقتلعك من عالمك اليومي بل يُغريك بأن تترك كل مشاغلك ، كل همومك على باب متحفٍ ما ، أمام أوراق كتابٍ ما ، أو حين سماع مقطوعة موسيقية شرقية بألحان الماضي الجميل. الكاتب الحقيقي لا يكتب عن نفسه فقط ، بل يكتب عن الأماكن من حوله وعن الأرواح والنفوس والقلوب التي تسكن هذه الأماكن ، ولابد أن يحرص الكاتب على إيجاد الجمال من حوله لأنه هناك من سيقرأ له ، لذا لابد أن يكون الجمال العنصر الأساسي فيما يكتب حتى ولو كتب عن الألم. والمكان يؤثر في الكاتب ويمنحه مساحات من الإبداع كما أنه قد يسلبه كل الإبداع ؛ وبعض المدن العالمية تمنح إقامة مجانية للكاتب المشهورين كي تضمن أنه سيكتب عن مدينتهم وعن حياة هذه المدينة لأن الكاتب يموت ولكن ما كتبه لا يموت ، فهو يُخلد جمال المدينة عبر ما يكتب . ومن ناحيةٍ أخرى ، إذا كان الكاتب صاحب موهبة أصيلة ومتألقة ، فلا يهمه المكان ولا الزمان ، لأن الكاتب صاحب الرؤية النيرة يستطيع أن يتجول في كل الأماكن عبر الخيال والشعور والفكرة ، لا يمكن لكل كاتب أن يرحل لمدن ثقافية عريقة كي يكتب ، ولكن أي كاتب يرى العالم عبر البصيرة وشفافية الروح يستطيع أن يتجول في كل الأماكن ، ويكفي أن يجلس مع ورقته وقلمه كي تبدأ رحلاته مع كل الوجود وليس في مدن الثقافة فقط، وتتحول مدن الثقافة بالنسبة له إلى إنعكاس لعوالم موجودة أساساً في شعوره ، عوالم من الجمال ، من المعرفة ، من الإتساع الإنساني ومن التنوع الثقافي بأن يرى بأن كل ثقافات العالم تنتمي له وينتمي لها . ويكفي أن أجمل ما في الثقافة هو حرية الإنتماء هذه لأنها ترفض العروق والجنسيات والإنتماءات ولهذا تصدرت بعض المدن العالمية هذه المكانة في العالم ، وكذلك لابد أن يكون الكاتب ، بهذا المنظور واسع الآفاق وبرؤية انسانية أعلى من اعتبارات المكان والعرق ، أن يرى انسانيتة قبل أن يرى موهبته ، أن يشعر بإنتماءه للوجود بشموليته وليس بمحدوديته ، ويرى الوجود كل الوجود بين ورقة وقلم ، ساعتئذٍ يمكنه أن يؤسس ليس لمدينة الثقافة بل يبني في صدره مملكة الثقافة ، فمملكة الثقافة لا تحتاج إلى أموال بل تحتاج إلى روح تنشد الكمال وتبحث عن الجمال في البشر والأماكن ثم أوراق وقلم ، فينثر أفكاره ومشاعره على أوراق تتوجه للإنسانية جمعاء بل للوجود بأكمله ، وحينذاك يستوي جمال الأماكن بجمال النفس ، وتكف النفس عن البحث المُضني عن الإلهام لأنها حين تجده بأعماقها يصبح الوجود الخارجي لكل شيء مجرد مُكمل لعملية الإبداع الداخلية. دولة القانون أم عصر القانون لقد كانت الدولة دائماً وأبداً هي من يُشرع القانون عبر مؤسساتها المتخصصة، لذلك يمكن أن تُسمى أي دولة لها شرعية دستورية بأنها دولة قانون، ولكن إلى أي مدى يمتد نفوذ الدولة لبسط القانون في زمننا المعاصر؟ وهل نفوذ الدولة ببسط القانون أدى إلى التقليل من حجم الجرائم أو إختلاف أنواعها ودرجاتها؟ وهل تدرك الدولة أن مسؤوليتها تجاه القانون في هذا العصر أكثر تعقيداً منها في عصور أخرى بسبب التعقيدات الإجتماعية والإقتصادية بل والفردية أيضاً؟ لم يعد يكفي أن تستعين الدولة بكفاءات وخبرات قانونية لتشريع قانون ما، بل لابد من تكافل خبرات متنوعة لإصدار قانون ما، لأن وضع المجتمع والفرد إختلف عن الأزمان السابقة، ملامح الفرد والمجتمع تغيرت بشكل متسارع وكذلك وعي الفرد تغير والتعقيد هو أن هذا الوعي قد يكون سلبياً وقد يكون إيجابياً ؛ لأننا بعصر التكنولوجيا الحديثة أصبح لكل منا وعي بمستوى معين وبالتأكيد هو متطور عن الوعي في المجتمعات السابقة، ولكن نوعية هذا الوعي تشكل بحد ذاتها نقطة نقاش؛ لذلك تبدو الدولة بمواجهة تيارات فكرية متعددة، متضاربة، مشتتة وربما عدائية لقيم المجتمع ذاته. وإن لم تدرك الدولة هذا التغيير الجذري الذي طرأ على الفرد والجماعة فهي سوف تبقى دائماً بحالة قصور عن الإلمام بجميع زوايا الموضوع الذي ترغب بإصدار قانون بخصوصه، لأن التغيير الذي طرأ على المجتمع يتجاوز المفاهيم الثقافية والفكرية بل والدينية أيضاً، حتى الإنتماء أصبح يتأرجح بين ما يرغب به الفرد وما لايرغب به ، أو ما ترغب به جماعة معينة على الفيس بوك أو لا ترغب به. إستقراء المجتمع والتغيرات التي تطرأ عليه بصورة موضوعية وواضحة وصريحة لم تعد مهمة شكلية، بل أساسية في البنية القانونية للدولة وإلا ستبقى قوانينها تسير بطيئاً خلف مجتمع تسير التيارات الثقافية والفكرية والمادية به سريعاً. لذلك تبدو مهمة الدولة بالغة التعقيد، لأنها بحالة وضعها للقانون لا تضع القانون فقط بمساعدة خبراء القانون بل أيضاً لابد من إشراك فئات أخرى من تخصصات مختلفة لإيجاد تطبيق شمولي لنصوص القانون مبني على أسس علمية وواقعية. ولكن هل يعتقد أي منا بأنه يمكن أن يحيا بهذا العصر دون معرفة ولو متواضعة لنصوص القانون؟ لم يعد هذا خيار بالنسبة لأي فرد في المجتمع، لأن القانون لم يعد يُمارس في أروقة المحاكم فقط، بل أصبح جزء هام من حياة أي فرد عادي في المجتمع؛ وكلما زادت الثقافة القانونية للفرد خفف ذلك من أعباء الدولة بحماية الفرد من أخطاءه أو أخطاء غيره. لم يعد القانون مجرد نصوص جافة في الكتب المتخصصة، بل هو إنعكاس لكل حركة في المجتمع. في السابق كان يمكن لأي فرد أن يعيش حياة بسيطة دون أدنى معرفة بالقانون، ولكن في الوقت الحالي، تشابك العلاقات، وتطور النزعات الإجرامية وتنوعها، وتعقد الحياة العملية لبعض المهن، وإرتفاع نسبة المطالبة بالتعويض عن الأضرار المادية أو المعنوية في المجتمع، كل ذلك أنتج مجتمع مركب متشابك ومتعدد المصالح وبالتالي متعدد الصراعات، وفي هذا المجتمع لم تعد تكفي المعرفة الدنيا بالقانون حتى بالنسبة للشخص العادي. حتى في حال إستخدام التكنولوجيا الحديثة هناك سلوكيات يعافب عليها القانون ويجهلها الشخص العادي، فكيف له أن يشعر بالحرية الكاملة في مجالٍ ما وبنفس الوقت يجهل تمام الجهل ما يجب أن يفعله وما لا يجب أن يفعله في هذا المجال، أي أن المعرفة التكنولوجية تترافق بجهل مُطبق بالقوانين المتعلقة بها، وبذلك حتى السلطة التنفيذية تبدو أحياناً مترددة أو حائرة بخصوص الجرائم الإلكترونية لعمق الجهل بأحكامها وقوانينها من قبل مُرتكبي هذه الجرائم. المجتمعات العربية مثل أي مجتمعات أخرى في العالم تتغير وتتأثر بعوامل محلية وعالمية، ولكن المجتمعات العربية من أبطء المجتمعات في إستيعاب النصوص القانونية ، ليس بسبب عدم القدرة على ذلك، ولكن لأن العقل اللاواعي للفرد العربي يرفض وبصورة صامتة التقيد بالقانون، لأن الدولة هي من فرضته وبعقله الواعي لا يعتبر نفسه شريك مع الدولة بتطوير المجتمع، بل يقف موقف المتشكك والحذر تجاه أي قانون تفرضه الدولة. لابد من بناء علاقة جديدة بين الفرد العربي والدولة من ناحية تشريع القانون، لأن هذه الفجوة الواسعة بين المواطن وبين التشريع تجعله دائماً في دائرة الحذر بل والرفض الضمني. وتوطيد روابط هذه العلاقة يبدو ضرورياً لأننا نسير بإتجاه مجتمعات مدنية معاصرة بكل ما تحمله المعاصرة من تعقيدات سلوكية وفكرية تنعكس على الحياة السياسية وكذلك المادية. لابد أن نعترف بأننا لم نعد نعيش في دولة القانون فقط بل في عصر القانون حيث ستضطر الدولة إلى تقنين وتقيد كل تصرف بمواد قانونية صارمة، لأنه مع إتساع المجتمع المعاصر والمدني يبدأ الوازع الديني بالإنسحاب، وهو ما نلاحظه منذ الآن، لقد كانت مخافة الله قاعدة ومبدأ ونهج حياة فيما سبق، ولكننا الآن نتحدث عن مجتمعات فتحت أبوابها ونوافذها لكل الإتجاهات والملل، فلم تعد المحافظة على الهوية الدينية أو الثقافية من أولويات الدولة، بل أصبحت الأولوية هي المحافظة على أمن وإقتصاد وتطور الدولة ، لذلك تتجه المجتمعات العربية وبتسارع شديد نحو عصر القانون، حيث تصبح كل تصرفات الفرد محكومة بمنظومة كاملة من القانون، مثلما يحدث في الغرب، ولكن الفرق هو أن المواطن في الغرب تمت تنشأته وتربيته وتثقيفه وتوعيته بأن القانون جزء لا يتجزأ من وجوده وأن إحترام القانون ليس عبء عليه بل يجعل حياته أفضل وأكثر رفاهية؛ بينما في المجتمعات العربية، قد تتكدس القوانين التي تحاصر تصرفات الفرد وتنظمها ، ولكنه يجد صعوبة بالإنصياع لها إما لأنها تتعارض مع مصالحه الخاصة، أو لأنه لا يزال ينظر بحذر للقانون الذي هو وليد وصنيعة الدولة، ناسياً أو متناسياً بأن كل كل قانون يُفرض عليه يمنحه في المقابل مكتسبات أخرى قد لا يراها أو يتجاهلها. في زمننا المعاصر قد لا تكفي جهود دولة القانون دون وعي فردي وجماعي بأننا فعلاً دخلنا عصر القانون وأننا لسنا فقط رعايا في دولة القانون.