في مرحلة متقدّمة من العمر يتخبّط أطفالنا بين استغنائهم عنّا وبين حاجتهم لنا. وتستيقظ في داخلهم ثورة على كلّ ما يحيط بهم من عادات وتقاليد وأفكار وموروثات. هذه الثّورة الطّبيعيّة جدّاً والّتي غالباً ما لا نفهمها كأهل ولا نستفيد منها أحياناً، كونها تسلّط الضّوء على مغالطات عدّة يراها الشّباب بنظرة مختلفة محاولين تطويرها، تستفزّ في داخلنا سلطتنا الأبويّة. وقد نخاف ألا نعود ونمسك بزمام الأمور، ظنّاً منّا أنّ أبناءنا لم يعودوا بحاجة لنا. إلّا أنّهم ومهما كبروا واستقلّوا واتّخذوا منحى خاصاً لحياتهم، يبقى في دواخلهم ما يشدّهم ويجذبهم إلى حضننا الدّافئ واحتضاننا الحكيم والمحبّ. في خضمّ هذه المرحلة، وأعني بها سنّ المراهقة، ينتابنا خوف شديد على أبنائنا نظراً لتغيّرات عدّة ظاهريّة وداخليّة تظهر من خلال سلوكيّاتهم وتصرّفاتهم. وقد نلجأ إلى وسائل تعنيفيّة أقلّه كلاميّاً أو إلى إحاطة مفرطة مانعين عنهم بعضاً من أنفاس الحرّيّة والاستقلاليّة. والمشكلة الأبرز الّتي تظهر في هذه المرحلة ابتعاد الأبناء عن الالتزام بواجباتهم تجاه الله، وقد تأخذهم الأفكار والنّظريات الّتي تبدأ بتحريك عقولهم إلى الابتعاد عن مسيحيّتهم. وقد يتساءلون عن حقيقة وجود الله وعن حقيقة تعامله مع البشر وتأثيره الفعّال في نفوسهم، خاصّة أنّنا نعاني اليوم من أزمة كبرى عند أبنائنا اسمها اللّامبلاة والفراغ وأزمة أخرى طارئة، ألا وهي اختلاف المنظومة التّربويّة. ففي الماضي كان الجميع يربّي بطريقة واحدة تقريباً فيتأثّر الفرد بمحيطه ويندفع معه. على سبيل المثال، كانت العائلات تجتمع في الكنيسة وتواظب على الاحتفال بالذّبيحة الإلهيّة، وتجمع أبناءها لتخبرهم قصص القدّيسين والنسّاك. أمّا اليوم فالأمر اختلف وبات كلّ منّا يربّي بطريقة مختلفة، حتّى لا نقول أنّنا بدأنا نفقد الحسّ التّربويّ في غالب أبناء هذا الجيل. لذا باتت التّربية تشكّل صعوبة أكبر كونها بالنّسبة للمؤمنين أشبه بإبحار ضدّ التّيّار. من هنا، فاعتمادنا الأوّل والأخير على كلمة الله الحيّة في الإنجيل المقدّس. ونعتمدها بشكل دائم مع أبنائنا ونساعدهم من خلالها على تخطّي جميع مراحل حياتهم. فالكتاب المقدّس مرآة الحياة الإنسانيّة، فيها تتداول جميع سلوكيّاتنا، كما نرى فيها ضعفنا الإنساني ومسيرتنا نحو الكمال الّذي يرجوه الرّبّ لنا. وإن كنّا غير قادرين على جمع أبنائنا في مرحلة عمريّة معيّنة حول الكتاب المقدّس، فيمكننا أن نمرّر لهم المنهج الكتابي خلال محادثاتنا معهم، ونسترق منهم إصغاءهم لنا بحكمة وذكاء. كما أنّ علينا أن نسيطر على خوفنا عليهم الّذي يعطّل حكمتنا وتواصلنا مع الله. من ناحية أخرى، لنجعل سلطتنا عليهم محبّبة وغير متسلّطة فنكون ممسكين بزمام الأمور بمحبّة وتفاهم وليس بالقمع والصّراخ والخلافات. ولا ضير في أن نطلعهم على مخاوفنا وهواجسنا حتّى يبادرون بالمثل ويشعرون أنّنا ملجأهم الوحيد والأمين. ولا ننسى أبداً أن المربّي الأوّل هو الرّبّ، فمن اختارهم كاملين من قبل إنشاء العالم لا يتركهم ولا يتخلّى عنهم أو عنّا. وهو الّذي لا ينعس ولا ينام، ساهر أبداً عليهم معنا وبنا. " ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر "، كذا يؤكّد الرّبّ في ( مت 20:28). وقول الرّبّ يشمل كلّ حياتنا ولا يخصّص مرحلة معيّنة، لذا ينبغي أن نستمرّ قدماً ممسكين بيده واثقين من أنّه يحتمل معنا كلّ صعوبة أو مشكلة نواجهها مع أبنائنا.