إذا كانت المخدّرات آفّة تدمّر عقول الشّباب وتميت أرواحهم وتحوّلهم إلى جثث تتنفّس فالبدع والهرطقات تميت فيهم حبّهم إلى الله وتحوّله إلى فكرة أو إمكانيّة وجود، فتلغي في داخلهم الاتّصال الرّوحي معه فيستحيل الإنسان هيكلاً فارغاً خالية من نسمة الحياة. ولعلّنا في عصر تفتك فيه البدع بعقول أبنائنا أكثر من ذي قبل، وتتسلّل إليهم رويداً رويداً لتبثّ سمّها تدريجياً حتّى تخطف الخراف من حظيرة الرّبّ. فكيف لنا أن نحمي أبناءنا من هذه البدع لا سيّما أنّ الوسائل الإلكترونيّة الحديثة تؤمّن لهم الكثير الكثير من المعلومات والمعارف وقد لا يملكون القدرة على التّمييز بين ما هو صالح وما هو طالح، وعلى الأرجح لا يملكون. فلأصحاب هذه البدع، أيّاً كانت، قدرة على اجتذاب شبابنا بوسائل شتّى، وذرائع عدّة تسيطر من خلالها على عقولهم وتبدّل إيمانهم وتسوقهم إلى حظائرها المظلمة بعيداً عن نور السّيّد وبعيداً عن الحياة فيه. تعتمد التّربية السّليمة على عناصر أساسيّة أهمّها الصّلاة ثمّ القدوة، ثمّ الحوار. - الصّلاة: " إن لم يبنِ الرّبّ البيت، عبثاً يتعب البنّاؤون" ( مز 1:127). سبق لنا أن ذكرنا في جزء سابق من هذه السلسلة أنّنا كأهل لسنا كاملين وأنّنا لا نستطيع بمفردنا أو بقدراتنا الشّخصيّة أنّ نربّي أبناء الله. وبالتّالي نحن بحاجة لأن نكون على صلة دائمة مع أبيهم السّماويّ حتّى نتمكّن من السّير قدماً بحسب مشيئته فنربّي أبناءنا بما يليق بهم كأبناء لله. ولا نتحدّث هنا عن صلوات نصّيّة أو شفهيّة بقدر ما نتحدّث عن إصغاء دائم لصوت الرّبّ فينا واستقاء من محبّته اللّامتناهية وارتواء من كلمته الحيّة في الإنجيل المقدّس. عندها نتأكّد أنّنا نسير على الطّريق الصّحيح مهما واجهتنا صعوبات تربويّة، فنبني البيت مع الرّبّ وللرّبّ. الصّلاة نور العقل وبهجة الرّوح وانفتاح القلب على المحبّة الإلهيّة، تزيدنا ذكاء وانتباهاً وحرصاً على أبنائنا ويمسي المسيح السّاكن فينا هو المربّي والمعلّم. " تستطيع الصلاة الى الله ما لا تستطيعه أفعالنا." (القديس باييسيوس الآثوسي). - القدوة: علاقة الأمّ والأبّ ترسم للأبناء صورة عن محبّة الله، وإن كانت صورة بعيدة. إلّا أنّه بعلاقتهما السّويّة والمحبّة المتّسمة بالتّفاهم والحوار والثّقة تهيّئ للأبناء طريقاً مستقيماً يسيرون عليه نحو الرّبّ. التّربية قدوة قبل أن تكون عظة، هكذا عاش معنا يسوع المسيح، وكان لنا المثال والقدوة في كلّ أمر. فالمثال يؤثّر في النّفس الإنسانيّة أكثر من الوعظ، لأنّك به ترى حياة كاملة تتحرّك أمامك واختباراً حيّاً يمنحك القوّة والعزم على مواجهة كلّ أمر. فإذا واظبنا على الصّلاة سيتمثّل أبناؤنا بنا، وإذا التزمنا بحياتنا المسيحيّة سيلتزمون. من ناحية أخرى، الأبناء يصدّقون أهلهم في كلّ شيء، خاصّة في طفولتهم لأنّهم يعتبرونهم مثالهم الأعلى ومصدر ثقة عالية. فحبّذا لو نحافظ على هذه الثّقة ونبقى مرجعاً أوّلاً وأخيراً لهم، وبذلك نبعد عنهم أيّ خطر لأنّهم سيعودون إلينا في كلّ أمر. - الحوار: الحوار لغة إنسانيّة تتّسم بالرّقي والانفتاح على الآخر واحترام اختلافه وتقبّل آرائه. فالآخر قيمة إنسانيّة واجب احترامها كما أنّها كريمة في عينيّ الرّبّ ومقدّسة لديه. وأهمّيّة الحوار مع أبنائنا تتركّز في كونه مدخلاً إلى التّربية الإيمانيّة الواعية غير الاعتباطيّة. فالإيمان الاعتباطي يتلاشى مع أوّل فكرة جديدة ترفع بضع درجات العقل البشري فيحلّ مكانه الكبرياء وادّعاء المعرفة. وأمّا الإيمان الواعي فهو الإيمان المنفتح على كلّ الأفكار إلّا أنّه ثابت على علاقته بالرّبّ مهما عصفت به مخاطر البدع والأفكار العظيمة والنّظريّات الكبيرة. لا بدّ أنّ لأولادنا أسئلة كثيرة وهواجس عدّة في ما يخصّ الإيمان، وهذا حقّهم في طرح التّساؤلات وتحريك العقل لاقتبال الحقيقة. ومن واجبنا أن نصغي إليهم ونسمح لهم بطرح جميع التّساؤلات مهما كانت خطيرة، ومحاولة إيجاد أجوبة عليها بعيداً عن التربية الدّينية الصارمة الممانعة لأيّ رأي مخالف. فأغلب أصحاب البدع تلقوا تربية صارمة عمادها الخوف وتأنيب الضّمير بعيداً عن المحبّة الإلهيّة. قد لا نكون على قدر كافٍ من الثّقافة الّتي تسمح لنا بذلك، لكنّ المسيح الذّي فينا يعرف كيف يمنحهم الأجوبة من خلالنا. في الوقت عينه نحن مدعوّون كأهل أن نثقّف أنفسنا إيمانيّاً ونعيد قراءة كتابات آبائنا ونعتمد على منطق إيمانيّ واحد، منطق المسيح الحيّ. احتضاننا لأبنائنا بمحبّة الرّب ينقذهم من البدع والهرطقات ويبعدهم عن مناقشتهم عبثاً ويدفعهم إلى الغوص أكثر فأكثر في يسوع المسيح الحقيقة، والحب الحياة.