أخذ دكتور " شتاين " أكثر من عشر دقائق ليتغلب على الصدمة التي أصابته لرؤية وجه " باتريك تولز " الشاحب المخيف .. حدق في ملامحه الوسيمة التي طمسها الشحوب إلى حد ما كثيراً جداً .. كان " شتاين " يريد أن يسبر أغوار " باتريك " ويتعرف على طبيعة حالته العقلية بالتأمل الهاديء في ملامح وجهه وهو الفن الذي تعلمه من أستاذه الإسكتلندي العظيم " تشارلز بريسكوت " علامة علم النفس والتحليل النفسي الذي لا يشق له غبار ..ولكن " شتاين " فشل هذه المرة .. والسبب إنه كلما مضي في تأمل ملامح " باتريك " أكثر كلما أحس بالذعر ينمو داخله أكثر ! وهو شيء لم يعرفه من قبل طيلة عمله في مجال الطب النفسي المرهق العصيب ! أخيراً أستجمع دكتور " شتاين " أعصابه ورسم ابتسامة متكلفة عن وجهه وسأل " باتريك " : " يبدو أنك تحب علم الفلك ؟! " فأجابه " باتريك " بصوت منفعل غريب : " أكره الفلك ! لا أكره شيئاً في حياتي قدر ما أكره الفلك ! " " ولكن الفلك علم عظيم ! " " علم العميان !! " أجاب " باتريك " غاضباً " العميان ؟! " سأل دكتور " شتاين " مندهشاً ثم أردف : " الفلك علم عظيم لا يقل أهمية عن علم الطب أو الكيمياء أو الجغرافيا أو البيولوجيا .. كلها علوم وسعت مدارك الإنسان ! " " وأعمت قلبه ! " هتف " باتريك " محتداً وواصل بصوت مليء بالسخط : " أنظر يا بني .. القمر عبارة عن حجارة صخرية وصحراء جرداء معتمة ، والبحر حوض واسع مليء بالماء المالح ، والإنسان مكون من مجموعة من الأجهزة والأعصاب والعضلات والخلايا .. والفأر أصبح فأر لأنه يفتقد خمسة عناصر لم تمكنه من أن يصبح قط !! " ابتسم دكتور " شتاين " لتعليق " باتريك " الظريف الحاد وهتف قائلاً محولاً تلطيف الجو : " يبدو أنك كنت تكره مادة العلوم في المدرسة ؟! " فأجابه " باتريك " بغل واضح : " أنا أول دفعتي في الكلية يا سيدي .. كلية علوم الفلك ! " ذهل الطبيب لهذه الإجابة المفاجئة .. الأول على كلية علوم الفلك ؟! إذاً لابد أن العلم هو الذي قضي على قواه العقلية هذه المرة ! بدأ " باتريك " يتململ فأدرك دكتور " شتاين " أنه يتوجب عليه متابعة الحوار مع هذا المريض العجيب قبل أن ينصرف عنه ثانية ويغرق في متابعة ورصد حركات القمر .. وكان أول سؤال خطر على بال دكتور " شتاين " هو : " لابد أنك عرفت الكثير من المعلومات عن القمر في كليتك ؟! ها ؟! " في الحقيقة أن " شتاين " سأل هذا السؤال لسبب بسيط للغاية .. إنه لم يكن يصدق حتى هذه اللحظة أن هذا المخلوق الواقف أمامه هو أول دفعته في كلية علوم الفلك .. بالحقيقة لم يصدق أن هذا المعتوه قد ورد على جامعات أصلاً ! ولكن في اللحظة التالية أنفتح " باتريك " قائلاًَ في سيل من الكلام لمتتابع : " القمر يا سيدي ؟! نعم سأقول لك ما قالوه لنا عن القمر ... " وفي ثلث الساعة اللاحقة استمع دكتور " شتاين " لسيل من المعلومات عن القمر أنهمر على رأسه كماء الدش دون أن يستطيع إيقافه .. معلومات علمية دقيقة جداً وصعبة جداً وعويصة جداً لدرجة تحتاج لعقل عبقري ليستوعب ربعها .. المصيبة أن دكتور " شتاين " وجد نفسه عاجزاً عن إيقاف " باتريك " اللعين هذا عن الإسترسال في سرد معلوماته العلمية المعقدة .. ولكن في النهاية ألتقط " باتريك " أنفاسه وقال لدكتور " شتاين " في هدوء : " هذه هى فقط نصف المعلومات المتاحة عن القمر .. هذا لتتأكد فقط من أنني كنت طالباً في تلك الكلية القميئة .. ولتعرف أننى لست مخبولاً جداً كما يهيئ لك !! " دهش " شتاين " لقول " باتريك " الآخير وأدرك أنه يجب أن يكون حريصاً جداً في مناقشته معه . إن شر أنواع المخبولين هو المخبول الفطن عالي الذكاء !! وبعد لحظة صمت سأل دكتور " شتاين " " باتريك " بينما كان الأخير يلتقط أدوات صغيرة غريبة الشكل من فوق إحدي المناضد ؛ المتناثرة هنا وهناك ؛ ويبدأ في تركيبها معاً بخفة ومهارة عالية : " هل تؤمن بوجود الرب يا " باتريك " ؟! " " نعم " أجاب " بتريك " بسرعة وإخلاص شديد " لم ؟! " " لأنه موجود بالفعل .. ولا جدوي من إنكار ذلك ! " أجاب " باتريك " وهو يرسم علامة غريبة بيده في الهواء " أتعني أنك تربيت على فكرة وجود الإله فلم يسعك بعد إن كبرت إلا أن تقبلها ؟! " تجاهل " باتريك " سؤال الدكتور الثاني وأتجه نحو الشرفة المفتوحة على مصراعيها وفرد ذراعيه على إتساعهما نحو القمر وهتف بصوت مسرحي : " القمر ! القمر قال لى إن هناك إله لهذا الكون وأنا أصدقه ! " بدت علامات الإنزعاج على ملامح الدكتور شتاين وسأل " باتريك " بصوت حذر : " هل تعتقد أن القمر إله ؟!! " " لا لا ! " أجاب " باتريك " بسرعة وبلهجة قاطعة : " القمر ليس إله .. ولكنه روح سامية .. روح بيضاء نقية تطل علينا من أعلي وترعانا .. القمر يرعاني لأنه يحبني ولأنه يعرف أننى أحبه ! " أنتهي النقاش عند هذا الحد لأن " باتريك تولز " أمتنع بعدها عن إجابة أى سؤال آخر من أسئلة دكتور " شتاين " وأتجه نحو الشرفة ووقف تلقاء القمر وأتخذ وضع العابد المتبتل حينما يناجي ربه أو العاشق الولهان عندما يناجي معشوقته وأخذ يردد بصوت يملؤه الشجن والإخلاص : " حينما أنفصل عن أمه الأرض كان وحيداً صغيراً تائهاً .. ظل خائفاً شريداً حتى جذبته أمه الأرض إلى حضنها وأمسكت بيده الصغيرة وأدخلته إلى مداره وقالت له : هنا مدارك وبيتك يا قمري العزيز الصغير فلا تغادره حتى لا يصطدم بك أحد تلك الكواكب الكبيرة الشريرة .. وأستمع القمر لنصيحة أمه الأرض وبقي في مداره يضيء ويشع نوراً وبهجة .. لكنه لم ينسي تلك اللحظة العصيبة حينما أنفصل عن أمه .. كانت لحظة قاسية .. لحظة الضياع والشعور بالوحدة ( ثم وضع " باتريك " يده على قلبه وواصل ) لم يشعر أحد بمشاعرك في تلك اللحظة .. آلامك العزيزة ظلت تهيم في الفضاء .. لم يرها أحد ، لم يسمعها أحد ، لم يشعر بها أحد .. ولكنني رأيتها وسمعتها وشعرت بها .. شعرت بآلامك يا قمري العزيز .. لذلك عندما أموت ستدور روحي حولك .. سأبقي في مدارك وسأدور معك .. سندور معاً للأبد .. وهناك لن أجد صحراء ولا صخور ولا وجه صخري أجرد كما يقول أولئك العلماء الأشرار .. بل سأجد أرضاً من المرايا وأنوار بهية لا نهاية لها وخيول من النور تقود عربات من النور وتركبها مخلوقات من نور ... " ......................... أوصي دكتور " شتاين " بدخول " باتريك تولز " مصحة نفسية لمدة خمسة عشر يوماً لوضعه تحت الملاحظة .. وكتب في تقريره أن المريض لا يعاني من مرض نفسي محدد بل لديه مجموعة من الأوهام والضلالات المتعلقة كلها بالقمر .. وبالفعل دخل " باتريك " المصحة مرغماً ومكث هناك الخمسة عشر يوماً المقررة ثم خرج بعد أن بدأت حالته النفسية تتوازن وتستقر كما أكد دكتور " شتاين " .. وسُمح له بالعودة إلى بيته .. على أن " باتريك تولز " وقد أعتدل في إهتمامه بالقمر وبدأ يبدي إهتمام أكبر بزوجته وطفليه كان مقدر له أن يحظي بإنتقام بشع من معبوده وحبيبه .. من القمر !! ............................... حدث هذا بعد عودة " باتريك " إلى البيت بعشرة أيام .. كانت الليلة ليلة إكتمال القمر والبدر المكتمل يطل على الناس من أعلي متباهياً بجماله ونوره الوهاج .. وفي تلك الليلة أصابت أعراض غريبة " باتريك " جددت مخاوف والدته وزوجته من أنت تكون حالته المرضية المتعلقة بالقمر قد عادت إليه ثانية .. فطوال ذلك اليوم لم يتناول " باتريك " لقمة واحدة من الطعام .. بل شرب أكواباً عديدة من القهوة والنسكافية السادة بدون لبن ؛ رغم إنه لم يكن يشربه عادة إلا ممزوجاً باللبن ؛ وظل طوال اليوم ساكتاً تماماً يأبي أن يحادث أحد أو يحادثه أحد .. ثم ؛ وفي قرب الساعة السابعة مساء ؛ وعندما أشرق القمر بكامل نوره على الأرض أصيب " باتريك " بحالة حكة غريبة في كل أنحاء جسده .. أخذ يهرش ويهرش في كل أنحاء جسده بطريقة منفرة حتى لكأنه أصيب بالجرب .. ونصحته زوجته بالإستحمام ليتخلص من حالة الحكة هذه .. ولكن ورغم أن " باتريك " صدع بنصيحة " بث " وأستحم ثلاث مرات متوالية .. إلا أن حالة الحكة زادت و تفاقمت ساعة بعد ساعة ! وفي النهاية فوجيء كل أفراد الأسرة ب" باتريك " يغادر مجلسه وسطهم فجأة ويهرع بسرعة عجيبة ؛ وكأن الشيطان يطارده ؛ إلى غرفته القديمة .. العلية التي أزال سقفها ليتمكن من مراقبة القمر .. وهو بالضبط ما كان يخشاه الجميع !! .......................... ما الذي حدث بالضبط ؟! لا أحد يعرف .. لا أحد من عائلة " باتريك " يعرف .. ولا حتى " باتريك " نفسه يعرف ! فكل ما يذكره هو أنه أسرع نحو العلية المغلقة المتربة وأقتحمها بعد أن حطم القفل الذي وضعته والدته علي بابها ودخل ليجد طبقة خفيفة من الغبار تغلف صور القمر العزيز وتغلف كل شيء .. ماذا حدث بعد ذلك ؟! فتح " باتريك " الشرفة على مصراعيها ليجد القمر الحبيب يطل عليه من أعلي أبيض نقي شفاف كالبللور لامع كالألماس .. ولكن بياض القمر ونوره كان يشوبه شيء غريب .. بقع صغيرة .. بقع حمراء داكنة تبدو كأنها بقع طلاء .. أو بقع دم !! وماذا حدث بعدها ؟! لا شيء إلا أن " باتريك " قرر أن ينام الليلة في حضن القمر العزيز ! وهكذا أحضر وسادة وملاءة وجهز لنفسه فراشاً في الشرفة في مقابل القمر .. ثم أستلقي ووجهه في وجه القمر .. القمر الحبيب المخلص .. الغيور !! ......................... " حينما أنفصل عن أمه الأرض كان وحيداً صغيراً تائهاً .. ظل خائفاً شريداً حتى جذبته أمه الأرض إلى حضنها وأمسكت بيده الصغيرة وأدخلته إلى مداره وقالت له : هنا مدارك وبيتك يا قمري العزيز الصغير فلا تغادره حتى لا يصطدم بك أحد تلك الكواكب الكبيرة الشريرة .. وأستمع القمر لنصيحة أمه الأرض وبقي في مداره يضيء ويشع نوراً وبهجة .. لكنه لم ينسي حينما أنفصل عن أمه .. كانت لحظة قاسية .. لحظة الضياع والشعور بالوحدة لم يشعر أحد بمشاعرك في تلك اللحظة .. آلامك العزيزة ظلت تهيم في الفضاء .. لم يرها أحد ، لم يسمعها أحد ، لم يشعر بها أحد .. ولكنني رأيتها وسمعتها وشعرت بها .. شعرت بآلامك يا قمري العزيز .. لذلك عندما أموت ستدور روحي حولك.. سأبقي في مدارك وسأدور معك .. سندور معاً للأبد .. وهناك لن أجد صحراء ول صخور ولا وجه صخري أجرد كما يقول أولئك العلماء الأشرار .. بل سأجد أرض من المرايا وأنوار بهية لا نهاية لها وخيول من النور تقود عربات من النور وتركبها مخلوقات من نور ... " أخذ " باتريك " يترنم في نومه بينما كان يري القمر الحبيب يهبط أسفل فأسفل حتى صار يراه أمامه بكامل نوره وبهائه وسلطانه .. وغضبه ؟! نعم كان القمر غاضباً جداً من " باتريك " الذي هجره شهراً تقريباً تاركاً إياه يهيم في مداره وحيداً دون رفيق .. لذلك فلم يكد " باتريك " يقترب من وجه القمر حتى ابتسم له القمر إبتسامة غادرة وتلقاه بين ذراعيه .. ثم برزت من جنبه يد شفافة بيضاء تشع نوراً وأخذت تداعب وجه " باتريك " .. " باتريك " الذي أخذ يضحك ويزقزق تماماً كما كان يزقزق حينما وضعته أمه بغتة وسط حقل الذرة في ليلة قمرية كهذه .. وضعته في ليلة القمر وفي الشهر الثامن من الحمل ؛ وهو الشهر الذي يسيطر عليه القمر ؛ وتحت رعاية القمر ! ولكن فجأة بدأت يد القمر الناعمة تخدش وجه " باتريك " .. تخدش وجهه وجلده بوحشية وشراسة لا يملك لها دفعاً ! وتعالت صرخت " باتريك " في البيت .. وأيقظت كل النيام ! ........................... أمام منزل عائلة " تولز " كان سيارة إسعاف تولول سارينتها وتدور إشارتها الحمراء حول نفسها صارخة مولولة حتى كأنها أصيبت بالسعار .. أو كأنها تشارك عائلة " تولز " في مصيبتهم الفادحة ! الجيران من ناحيتهم لم يستطيعوا مشاهدة أى شيء يروي فضولهم .. اللهم إلا رؤية محفة خارجة من داخل المنزل وعليها يرقد جسد مغطي بملاءة عليها بقعة كبيرة مخيفة من الدم الأحمر الطازج .. " هذا " باتريك تولز " ! " قال أحد الجيران ذلك في ثقة .. ولكن هذه كانت آخر مرة يري فيها أحد من جيران آل " تولز " أبنهم الأصغر " باتريك " أو يسمع عنه بعد ذلك !! ........................ وهكذا مضي " باتريك تولز " ؛ بعد هروبه من المصحة التي تم إيداعه فيها عشرة أعوام متواصلة ؛ يجوب الولايات ويعمل في مختلف الحرف ليكسب رزقه القليل .. ورغم بشاعة وجهه والتشويه الفظيع في ملامحه إلا أن الناس كانوا يحبونه لبساطته وصدقه وأمانته .. والأهم مسحة الجنون والخبال التي كان يتميز بها وتميزه عن كل الآخرين وفي نهاية اليوم كانت " باتريك " يأوي إلى أى مكان بسيط يتاح له ولا يجد فيه من يرفضه أو يشمئز منه بسبب عاهته وتشوهه الفظيع .. لم يكن مهم المكان الذي يبيت فيه .. المهم أن يكون مفتوحاً على السماء ليتمكن من رؤية معبوده القمر .. كان " باتريك " يستلقي على فراشه كل ليلة ووجهه في وجه القمر ليسأله لماذا غدر به .. ولماذا.. لماذا فعل به هذا ؟! تمت