1 استيقظ من غفوته، يهُز رأساً يميناً ويساراً بينما يضرب بعصاه الأرض صارخاً في همهمة موسيقية واضحة: سيدنا الوليّ زارني وقال لي ما تخافش طبطب علي كتفي وقال لي ما تخافش لابس حرير في حرير زي الملوك في القصر وقال لي ماتخافش طار في السما الزرقا وقال لي ما تخافش ثم عقب هذه الهمهمة نداء طويل بصوت آخر مختلف، فيه نبرة رخيمة آمِرة ليس بها من الموسيقي نغمة، هات لي ياحماصه شاي علي حساب سيدنا الوليّ ما هو قال لي ما تخافش. وزود السكر حبيتين وخليه خفيف أو تقيل مش مهم. ما هو قال لي ما تخافش. 2 المخبول يري بعين صائبة، يعرف خائنة الأعين وما تخفي بعض الصدور. يري ما لا نراه نحن أصحاب الآفاق الضيقة والخيال الميت. هو الهداية للقرية وعلامات الرضا لأهلها الذين يؤمنون بآلائه ومعجزاته. فأصبح بإيمانهم به من أهل الخطوة وأصحاب الفضيلة والكرامات. لم يكن للمخبول عنوان ثابت، فهو موجود في الحقول يشدّ من أزر الفلاحين وقت الحرث والزرع والقلع. في المساجد يؤمن خلف الشيوخ عند ختام الصلوات وإقامة العقائق، في الوحدة الصحية ينصح الأطباء عند إشتداد المرض، مع الدايّة ليمضي بشهادته علي الميلاد وبدأ الخليقة، وفي تراب المقابر ليخفف من فجيعة الموت.المخبول كائن خيالي ولكنه ملموس كتراب الأرض. واقع حقيقي مثل الفقر والبؤس المرسوم علي وجوه أهل القرية. لا تشعر به ولكنك تستنشق رائحته كعرق الفلاح في مواسم الحصاد. تري تحركاته البطيئة المدروسة كدودة المش علي طبلية كل منزل حينما جاعت البطون. حماصه يضع الشاي أمام المخبول بأيادي مرتعشة وخشوع: قُل للوليّ حماصه غلبان يا مخبول ولسه ما إتجوزش. يرد المخبول عليه في صوت ممثل مسرحي قدير: الوليّ بيقولك ما تخفش يا حماصه، فأنت من المقربين الأخيّار. 3 تطاير خبر زيارة الوليّ للمخبول في أرجاء القرية. هناك خير قادم بلا شك، هناك خبر سعيد لتعيس من تعساء القرية. هناك ألف طلب ورجاء في إنتظار الإجابة. يتراقص المخبول في أرجاء القرية في خيلاء وزهوّ. فقد زاره الوليّ بعد إنقطاع وجفاء. آخر زيارة له كانت منذ شهور بعيدة عندما بلغه وبشرّه بأن سميرة بنت حميدة الفرّان حبلي رغم إنكار طبيب الوحدة الصحية لهذا، ولكنها رُزقت بولدها وحيد رغم أنف الطب والأطباء. يمشي في شوارع القرية في عزة المنتصر وخلفه مجموعة من الأطفال يرددون وراءه: سيدنا الوليّ زارني وقال لي ما تخافش. يمر علي جمع من كُبراء القرية يتسامرون، وفي يده عصاه، يُشير بها إليهم، ويضربها في الأرض بعنفوان فينهض الجمع تقديساً وإجلالاً كأنها عصا موسي تفلق البحر! يستمر الهتاف ، يكبر موكب المخبول مع كل خطوة. أصبح كالمغناطيس الذي يجذب الناس إليه، يزداد عدد الأطفال خلفه، يقف الرجال علي جانبي الشارع يرفعون أياديهم بإشارات متنوعة مفادها الفرحة، تبدأ الزغاريد والتهاني الحارة عندما تري النساء بشائر الموكب. 4 نامت القرية وأصبحت علي فرحة نبأ زيارة الوليّ للمخبول. بقايا البهجة الناجمة عن كرنفال الأمس لازال غبارها عالق في الأجواء والنفوس. بالماضي القريب، كانت زيارات الوليّ للمخبول متكررة، وكان الخير كثير والمعجزات آلائها يغطي فضاء القرية. قبل ميلاد وحيد إبن سميرة، كان هناك شفاء ستوتة العمياء بائعة الزبد. التي عاشت حياتها كفيفة لا تري، حتي زارها المخبول وضربها بعصاه علي رأسها فأغشي عليها. وعندما قامت، كان بصرها قد رُد إليها. وزواج نحمده بنت توحة الغجرية التي فاتها قطر الزواج من أعوام ويأست من المحيض. وقبل كل هذا كانت المعجزة الكبري التي قتلت أي شكوك في قدسية المخبول وعظمة الولي. 5 كان المرسي العطار رجل خمسيني غير قادر علي الزواج ليس لقلة مال أو جمال. ولكن لعجزه عن أداء واجبه الشرعي مع زوجته الأولي. ذاعت سيرته في أرجاء القرية الضيقة التي كان لا يجد رجالها أي وسيلة أخري للتفاخر بينهم سوي عدد المرات التي يضاجع فيها الرجل إمرأته. طلق المرسي إمرأته بحكم واجب النفاذ من شيخ المسجد، وعاش أسيراً لهمزات وغمزات أهل القرية. حتي أتاه المخبول يوماً آسفاً لما أصابه وقال له جئت أزُف لك البشري يا المرسي. سيدنا الوليّ يقول لك لا تحزن، فنصره قريب. وأمره بالذهاب إلي قرية مجاورة لا يعرفه فيها أحد وأن يطلب يد شابة إسمها عواطف بنت مأمون العواد. وكانت عواطف آية من آيات الحسن. عاد بها المرسي ودخل عليها، ومنذ هذا اليوم لا ينقطع من دار المرسي صراخ النشوة المصاحب لغنج عواطف في الليل أو النهار. 6 انتصف القمر واستدار مرة أو مرتين، ولم يظهر دليل علي وقوع معجزة جديدة للمخبول. رعشات الأمل تدُك قلوب المنتظرين. تري في العيون التعيسة رجاء أخرس وخوف موغل في الأعماق. تأخر المعجزة كان سبباً في أن يوقظ النميمة ويحرك الدسيسة بين أهالي القرية. بدأ الشك ينحر الصدور التي طالما كانت مسالمة مستكينة. تري هل تمت المعجزة وهبط الخير وإستطاع سعيدٌ ما أن يخفي الخبر خشية أن يوغر قلوب الحُسّاد؟ أين ذهب المخبول؟ منذ كرنفال البهجة ولم يظهر في أي مكان وكأنه فص ملح وذاب وترك غيابه خوفا وعكارة في النفوس. 7 جلس المخبول علي أطلال ما تبقي من الجدار الذي يحيط الساقية المهجورة الواقعة في أطراف مترامية من القرية. أساطير كُتبت عن هذه الساقية. يقال أن من كسر الجدار هو ذيل أفعي عظيمة، غضبت يوماً عندما رأت رجل وإمرأه يمارسان الحب في نهار رمضان أسفل شجرة الجميز العتيقة، فضربت الأفعي الغاضبة بذيلها ضربات سريعة متعدده لتخلع الشجرة من جذورها وتطيرها في الهواء وتهدم سور الساقية الذي لم يبق منه سوي تلك الأنقاض التي يجلس عليها المخبول. لم يري أحد من الأحياء تلك الواقعة، ولا يعرف أحد من قصها في البداية ولكنها حقيقة من حقائق القرية وتاريخها المقدس الذي لا يمكن السؤال عن أصله ومصدره. ينظر المخبول إلي التراب الكائن تحت قدميه. يرسم بعصاه علي الأرض أشكال غير مفهومة. يمسح ما رسمه بقدميه. يكتب أرقام وحسابات ورموز لا يفهمها غيره، ثم يمسحها مره أخري. حوار صامت بدون حروف بينه وبين التراب والعصا والأشكال التي يخلقها بعصاه. 8 لم يقطع خلوة المخبول عن خيالاته سوي ذلك الشبح الأبيض القادم من هناك. الحقول الخضراء ممتدة علي مرمي البصر وفجأه يظهر من وسطها ذلك الجسد ذو الملابس الفضفاضة البيضاء. ظهور الوليّ في أي مكان كان من معجزاته التي لا يُسئل عنها. يفرح المخبول عندما يستنشق نسمات الحق قادمة تهزم تعاسته الناجمة عن تعاسة أولئك الذين ينتظرون منه الرجاء. ينهض من جلسته في إستقامة خاشعه ناظراً إلي الأرض ضامماً يديه علي عصاه أين أنت سيدي الوليّ؟ كثر السائلون والرجاء عزيز كان لابد من الذهاب والغياب لكن شمس الحق لا تغيب تقلبت قلوب العباد ومع تقلب القلوب تتقلب الأحوال من قلة الحيلة الرزق مكتوب في كتاب معلوم، فلما الحيرة؟ ولكنهم لا يعلمون ومتي سيعلمون؟ عندما تشبع البطون المسافر زاده التقوي عن أي مسافر تتحدث يا مولانا؟ قاصد السعادة الأبدية الجائع لا يري أبعد من جوع بطنه ولكن القلوب بصيرة القلوب بها علّة وأصبحت لا تُبصر إذن فإسألهم الصبر والدعاء حتي يتم الدواء لن يستطيعوا معي صبراُ يا مولانا! كيف لطفل صغير لا يري سوي ثدي أمه الجاف أن يصبر، كيف لرجل عاجز أمام بكاء رضيعه أن يصبر، كيف لإمرأة لا تري سوي قهر رجلها وضيق صدره أن تصبر . كيف سبيلهم إلي المنام وفي ضلوعهم كل هذه الحوائج قُضيّ الأمر ووجب عليّ الذهاب الذهاب إلي أين يا مولانا إلي أناس أحبهم ويحبوني أولا نحبك هنا يا سيدي؟ الحب عند الحاجة ليس بحب يا طيب، بل هو وسيلة ورجاء لم ينته كلامنا بعد يا مولانا فلا تذهب - بل إنتهي يوم نفذت التقوي وجف الرضا من الصدور 9 ثم غاب الوليّ .. ذهب من حيث أتي ، كأنه يسابق الشمس في المغيب إلي نفس البقعة المسحورة التي ظهر منها في قلب الحقول الخضراء تاركاً وراءه المخبول مستنداً إلي عصاه كأنه ماض أو ذكري في طريقها إلي النسيان. يري الوليّ يتضائل حجمه في الآفاق وتضيع معه بعض من الأحلام.