p style=\"text-align: justify;\"فروة شعره الذهبية الباهتة ، والتي وضح عليها علامات الترهل والعجز ، وكذلك شحوب وجهه وعينيه الذابلتين اللتين تشعان بؤسا وشقاء ، كل ذلك صنفه بالتأكيد ضمن \" كلاب السكك\" الضآلة من غير مأوى على شاكلة اصدقاؤنا \" مشردي الشوارع صغارا وكبارا \" في التجمعات البشرية ، والذين تكتظ بهم اشارات المرور ، ومواقف السيارات ، وتحت الكباري ، وارصفة كورنيش النيل ، والورش الصغيرة ، والمناطق العشوائية شديدة الفقر والعوز ، والتي تماثل فيها ظروف الحياة نفس ظروف اصدقاؤنا كلاب السكك الضالة البائسة . ومشكلتي مع صاحب فروة الشعر الذهبية الباهتة انه اعتاد ان يتمدد بمنتهى الاريحية والاسترخاء نائما على جنبه الأيسر ، مريحا رأسه على الارض ، وفاردا كامل جسده على اسفلت الشارع محتلا (كأنه متعمد) الجزء المكشوط من \" المقب \" الذي صنعه اصحاب الفيلا الفاخرة امامها لتبطيء سرعة السيارات المارة في الشارع من امامها . وقد اعتدت عند مروري بالسيارة من هذا الطريق ان اتجنب هذا المقب \" البلدي\" الرزل وأمر من الطرف القصي في الشارع حيث هناك جزء مكشوط من المقب ، وفي كل مرة يتصادف ان يكون صديقي الكلب صاحب الفروة الذهبية الباهتة نائما وبمنتهى الاسترخاء والأريحية في منطقة الكشط مغلقا بذلك منطقة مروري ، وفي كل مرة اجدني مضطرا ان اكلكس له بقوة من بعيد حتى يستيقظ ويخلي المكان ، وفي كل مرة يفزع صاحبنا من رقدته الهنية ، وينتفض منسحبا وعيناه الشاحبتان تدفعان نحوي بكمية هائلة من الغضب البائس ، ويبدأ في الهرولة بكل سرعته المحدودة من فرط ترهله وثقل جسده جوار السيارة ، وصوت نباحه الهادر يدوي بقوة مسببا الفزع لمن داخل السيارة . وكأني استمرأت لعبة التصارع تلك معه على حيازة المنطقة المكشوطة من المقب حيث اعتبرت ان من حقي المرور في الطريق المستوي من دون مطبات ، واعتبر هو ايضا ان من حقه ان ينام في المكان الذي يريحه ، وكنت الاحظ في كل مرة أفُوت ان نظرته العدائية لي وللسيارة تخفت ، كما كنت الاحظ نفسي ايضا تتصيد انفعالاته البائسة ، ونظرته الحنونة ، وكأنه يعاتبني ، ويقول \"اني سقيم جدا كما ترى ، ولم يعد لدي المقدرة على رعاية ابنائي واطعامهم\" . والذي حدث اني اكتشفت لاحقا ان الأمر لم يكن صراعا على منطقة حيازة كما حسبت منذ البداية ، بل كأنه نوع فريد من التواصل كان ينبغي ان يحدث لكي أرى \" الكلب \" صديقي على حقيقته كما هو ، وليس من خلال زجاج السيارة القاسي ، وصوت الكلاكس المزعج المريع . انها لحظة فريدة رصدتها وقد تملكتني بشغف كلما مررت من الطريق ولا ترمقه عيناي من بعيد ممدد في مكان الكشط مثل المعتاد . حينها اجدني حائرا ، شغوفا ، مشتاقا بقوة لرؤيته ، وأمُط عيني في جميع الاتجاهات بحثا عنه ، وحينما أفشل في رصده اجدني ايضا منقبضا ، كأني مهموم ومفتقد شيء عزيز . والعكس صحيح بعد ان صار ينام بعيدا عن المقب ، وكأنه قرر من جانب واحد انهاء هذا الصراع وافساح الطريق لي لكي أفُوت بسلاسة ، اجدني وقد اهتز قلبي بالبهجة والفرحة حينما تتصادم عينينا واكلكس له بفرحة ، فينظر نحوي كأنه يرد التحية . عند هذه اللحظة اصبحت متيقنا من انه تصالح مع السيارة ومعي . بل وصار ينتظر مروري حتى يرمقني بتحيته . وذات مساء رأيته واقف وسط ابنائه في ساحة رملية واسعة على مسافة بعيدة من المقب ، وبمجرد ان كلكست له بالتحية ، التفت نحوي بسرعة كأنه كان في انتظاري ، هرول بسرعته نحو السيارة ، وكان ذيله يهتز من الفرحة ، وبدا صوت نباحه هادئا ، شغوفا ، فرحا ، كأنه مشتاق . استمرت السيارة في السير ، وظل يلاحقني حتى تعب وتوقف ، وتركته خلفي يلهث . استوقفتني اشارة الميدان الضوئية ،وكان الوقت بعد الظهر ، وكانت شمس اغسطس تصب جام غضبها على الخلق في الميدان ، تحلق حول السيارة اطفال في عمر الزهور ، وجوههم متسخة ، اسمالهم متسخة ، وحتى اصواتهم ونظراتهم كانت متسخة ايضا . كانوا يحملون مناديل ورق ، وفوطه زفرة لتنظيف زجاج السيارة ، وكانوا ملتصقين بقوة على صاج السيارة ، وكانت صورة \" الكلب \" صديقي ما تزال معلقة في خيالي وهو يهرول تاركا ابنائه سعيا لتحيتي . والحق اني لم اتسمع للأطفال حيث كان زجاج السيارة موصدا بسبب التكييف ، والحق ايضا اني لم أراهم جيدا . فقد كفاني اني رأيت فيهم ذلك \" الكلب\" صديقي ، الذي يعيش في العراء ، ويأكل من صناديق القمامة التي نضب معينها في هذه الايام الصعبة ، ولسوف يعيش وحده ويموت وحده ايضا . د. احمد الباسوسي