حتى لانتوه دائما تقوم الثورات من اجل ازاحة نظام قديم، متمثلا في طبقات اجتماعية شاخت وانتهى دورها التاريخي، ولها مصالح اقصادية واجتماعية وسياسية أصبحت تعوق تقدم المجتمع وتطوه، واقامة نظام جديد، متمثلا في طبقات اجتماعية جديده وصاعدة، لها دورها في الحاضر والمستقبل، ولها مصالح اقتصادية واجتماعية متعارضة مع استمرار سيطرة الطبقات السائدة القديمة، وتملك افكارا وايدلوجيات واخلاق وقيم جديدة، اكثر تقدمية وانسانية، ولا يمكن بناء هذه المنظومة الجديدة، الا بعد ازالة النظام القديم. وما اود ان القي الضوء عليه هو الشق الخاص بازالة النظام القديم، وتتمثل في مخلفات الانظمة السابقة، من طبقات وفئات اجتماعية ظالمة وفاسدة ومستبدة، وايدلوجيات وسياسات وافكار وثقافات وقيم اخلاقية رجعية ومتخلفة، وهي مخلفات كثيرة للدرجة التي يصعب حصرها في مقالنا هذا، لذا سنركز على المخلفات الاكثر تاثيرا والاكثر الحاحا بعد الثورة المصرية. اولا: الراسمالية الطفيلية، وهي راسمالية غير منتجة، وتلك السمة الرئيسية لها، بالاضافة الى فسادها، وكونها الحاضنة الاجتماعية للفساد وللاستبداد، الضامن لوجودها واستمرارها، ونشاطها يتركز في النشاط الريعي في الاراضي، والعقارات، والتوكيلات التجارية، والمضاربة المالية والعقارية، وفي الانشطة السياحية (راجع مقال للكاتب عن الثورة المصرية والنظام الراسمالي، على نفس الصفحة)، والسؤال الان، كيف يتم تحجيم هذه الراسمالية الطفيلية، وبناء البديل الموضوعي لها وهو الراسمالية الوطنية المنتجة، وأري ان نموزج التنمية المستقلة، هو النموزج الافضل للحالة المصرية، وهو يتركز على تنمية الصناعات المحلية المنتجة، الصغيرة والمتوسطة، ودعمها، ودخول الدولة بقوة في التصنيع، وخاصة الصناعات كثيفة العمالة، والصناعا الاستراتيجية، والاعتماد على تنوع مصادر التصنيع، والتكنولوجيا، ووضع رؤية شاملة لمستقبل التصنيع في مصر، وان تترجم الرؤية الي سياسات وخطط وبرامج للتنفيذ، ون تقسم الى خطت زمنية محددة، ولا مانع ان يتم طرحها للاستفتاء عليها من قبل الشعب، باعتبارها ايدلوجية الدولة لمدة لمدة زمنية طويلة ومحددة، بحيث تلتزم الاحزاب المتعاقبة على السلطة، بالالتزام بالخطوط العامة لتلك التنمية المستقلة، وان تطرح كل الاسئلة الكبرى، المتعلقة بهذا المسار، مثل دور ومستقبل الصناعات التابعة للقوات المسلحة، ودورالقطاع العام، ومدى امكانية دمج القطاعين العام والتابع للقوات المسلحة، ومدي امكانية قيادتهم للصناعة في القطاعين العام والخاص، ومدي امكانية اقامة صناعة وطنية منتجة في وقت زمني معقول، مع مراعات ان تكون الخطة الشاملة لبناء هذه القاعدة الصناعية المنتجة عادلة جغرافيا، وان تكون هناك معايير علمية حقيقية لهذا التوزيع الجغرافي، كأن تكون حسب عدد السكان في كل اقليم او محافظة،على ان يترافق ذلك مع حصر كامل ودقيق لكل ثروات مصر بجميع انواعها، حتى يكون البناءعلى اسس علمية، وان تخرج مصر من عصر العشوائية في كل تفاصيل الحياة بلا استثناء. ثانياَ: كبار البيروقراطيين الفاسدين، فلا يوجد مبرر على الاطلاق لان يبقوا في مواقعهم، ويجب ان تصادر جميع املاكهم لصالح الشعب المصري، وان توضع معايير علمية حقيقية لشغل تلك المناصب، ولا يمكن تصور اي اصلاح بوجود هذه الفئة الفاسدة، والتي تعوق اي تقدم حقيقي للثورة الى الامام، ولا توجد ثورة اجتماعية او سياسية، في التاريخ لم تطيح بتلك الفئة قبل البدء في بناء النظام الجديد. ثالثا: تجارالمخدرات والسلاح، وهنا يجب ان نعرف ان الحاضنة الاساسية لوجودهم وتسيدهم، هي منظومة الظلم والفساد والاستبداد، ووجودهم بقوة وفاعلية في المجتمع يعتبر عنوان بان المجتمع في أسوء مراحلة تخلفا وانحطاطاً، ويجب ان يكون هدف القضاء عليهم اولى اهتمامات الاجهزة الامنية، والتي تستطيع عمل ذلك، ولم يعد من الممكن اقناع احد بغير ذلك. رابعاً: تيارات التأسلم السياسي، وهذه من اهم مخلفات النظام البائد، وقد وضع الدستور المصري الجديد اسس الدولة المدنية الحديثة، وحظر قيام الاحزاب على اساس ديني، واقر حريات عامة وشخصية رائعة، ويبقى ان نرى مدى تنفيذ هذا العقد الاجتماعي الجديد على ارض الواقع، وهذا في رأينا يعتمد على طبيعة السلطة القادمة بعد خارطة المستقبل، وما اذا كانت ستسعى لتحقيق اهداف الثورة (العدالة الاجتماعية، والحرية، والاستقلال الوطني)، ام ستلجأ لإتباع نفس السياسات السابقة، ومنها بالطبع التحالف مع الجناح الاكثر تخلفا ورجعية وظلامية في الائتلاف الطبقي الحاكم، لمجابهة قوى الثورة الاجتماعية والسياسية، ومدى ادراكها لعواقب تكرار ثنائية الاخوان مبارك، ومدى تعلمها من الدروس السابقة، ومدى توفر الارادة السياسية للتغيير الحقيقي، الذي يحقق اهداف الثورة، ولا يؤدي الى ثورة اجتماعية شاملة. خامساً: الاعلام الحكومي، وبعض الاعلام الخاص، وكبار الصحفيين المستفيدين من الانظمة السابقة والمتعاقبة، وتتحمل هذه الفئة المسئولية الاول عن تسويق النظام السابق، ودعمه بكل اشكال الكذب الخداع والتضليل، ومهاجمة خصومة، ومحاربتهم وتشويههم، وشيطنة افكارهم الداعية للتغيير، وهم سببا رئيسيا في حالة التجريف السياسي والفكري والثقافي والفني، التي سادت في مصر لعقود من الزمن، والتي ما زلنا نعاني منها حتى الان، وليس هناك اي سبب لاستمرارهم في مراكزهم الاعلامية، وقد يؤدي استمرار وجودهم الى نتائج كارثية، وخاصة اذا استطاعوا بتصرفاتهم الحمقاء، ان يفقدوا الشعب المصري الثقة في امكانية التغيير السلمي للسياسات القديمة، وذلك قبل اعطاء الوقت الكافي لاختبار جدية السلطة الجديدة التي ستتشكل حسب خارطة المستقبل، التي وضعها الشعب المصري بنفسة، هذا علاوة عن الارتباط الوثيق لهم بدوائر الفساد والافساد داخل دولاب النظام القديم، واذا كان فسادهم يخص القضاء، فان المسؤلية السياسية والاخلاقية تحتم اسبعادهم فورا عن مواقعهم في الجهاز الاعلامي. سادساً:العشوائية، وتعتبر العشوائية من اهم كراكيب النظام السابق، فهي ليست من النوع السائد في مجال معين او نشاط اقتصادي معين او في خدمة معينه، بل هو نظام حياة ملتسقة بشكل كامل بالطبقات السائدة، وهي لم تاتي من فراغ، بل هي المرادف الطبيعي لطبيعة انشطتهم، المبنية اساسا على العشوائية والنهب والتخريب والعدوانية، ولذلك كانت العشوائية هي الاصل في كل شيء، والتي اصابت المجتمع بنفس الداء العضال، وامتدت لتصيب القوي البديلة اجتماعيا وسياسيا، حتى اصبحت ثقافة عامة، وتكاد تكون من اهم اسباب تعثر الثورة المصرية، بسبب العشوائية التي تم بها تناول كل مراحل الثورة، ولن ينتهي هذا الوباء سوى بخطوة اولي جادة وحقيقية لعمل استراتيجية كاملة شاملة مدروسة ومتوافق عليها للاصلاح الشامل لجميع نواحي الحياة، اي بناء رؤية شاملة لمستقبل مصر، حتى لو تطلب الامر وضع التفاصيل الخاصة بجميع المراحل، تفاديا للعودة للعشوائية مرة اخري. سابعاً: التبعية، وليس المقصود هنا التبعية السياسية فقط، وانما المقصود هو التبعبية الكاملة لدول مركز الراسمالية العالمية، والتي ندور في فلكها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى الان، والتي بدأها السادات وسار على نهجها مبارك ومرسي بالكامل، وهي تبعية موضوعية، اي انها توجد مع الارتباط غير المتكافيء مع تكتل دول عظمي تتبع نظام اقتصادي راسمالي احتكاريا بطبعة، وان استمرار الاسواق الخارجية كسوق دائم لها، واستمرارها ايضاً كمصدر للمواد الخام الرخيصة، جزء اساسي من تكوينها الامبريالي في هذه المرحلة، وهي بهذه الطبيعة معادية لاي تنمية مستقلة في بلدان الاطراف التي نحن منها، ولذلك يعتبر التخلص من التبعية الاقتصادية والسياسية لتلك الدول بداية اي تنمية حقيقية يكون الهدف منها خدمة مصالح شعوبها، وليس خدمة الدول العظمى وعملائها بالداخل. ثامناً: اتفاقيات كامب ديفيد، معاهدة الشؤم والخراب على مصر، وبداية تخلي مصر عن جميع الثوابت الوطنية والقومية، والتي وصفها البعض باتفاقيات الخيانه العظمى للسادات ونظامه، وقد اجمعت كل القوى السياسية في مصر على ضرورة التخلص منها، او على الاقل تعديلها بشكل اساسي، وخاصة البنود المتعلقة بالمنطقة (ج) والمنطقة(د) داخل اراضي سيناء، ويرى البعض بان الجيش المصري لا يجب ان ينسحب من الحدود الشرقية بعد الانتهاء من ضرب اوكار الارهاب هناك، وتعتبر هذه الاتفاقيات بشكلها الحالي، وصمة عار على جبين مصر، ويعتبر التخلص منها ضرورة اساسية وجوهرية لتحقيق الاستقلال الحقيقي لمصر، وتعتبر من اهم مخلفات الانظمة السابقة. واود ان القي الضوء على بعض المخلفات الاساسية، التي تخلص منها الشعب المصري، ربما لانها بيد الشعب نفسه، وليست بيد النظام او السلطة، وهي تتمثل في امرين. اولا:السلبية، فقد استطاع الشعب المصري ان يكون إيجابيا ومشاركا ومتابعا ومراقبا للسلطة، بشكل فاق كل التوقعات، ويزداد كل يوم يقظة وحرصا على المشاركة في كل الفعاليات والاحداث السياسية، وهذا امر متفقاً عليه من جميع المراقبين والمتابعين للاحداث في مصر، منذ الثورة المصرية في موجتها الكبرى الاولي في 25 يناير 2011م، وحتى الان، وكان السبب الرئيسي لتخطى الثورة اهم عقباتها على الاطلاق، وهي خطر الفوضى، وخطر التقسيم. ثانيا: الوعي السياسي والوعي العام لدى الشعب المصري، وقد ترك النظام السابق الشعب المصري في حالة غيبوبة ثقافية وسياسية وفكرية لا مثيل لها، كانت تضرب بها الامثال، نتج عن تخريب كل مؤسسات التعليم والثقافة والفكر والفن والابداع في مصر، واستطاع الشعب المصري في فترة وجيزة اقرب الي المعجزة، ان يعي ماحدث له اثناء غيبوبتة، ويدرك الفجوة التي فصلته عن العالم المتقدم والمتحضر، وان يتخطى ذلك الى الوعي البناء والمثابر، واثبت اكثر من ذلك عندما اسقط نظام الاخوان المسلمين في خلال عام فقط، محدثا صدمة لأعتي دول العالم، والتي لم يفيقوا منها حتى الان، وقد تم انهاء هذا الارث البغيض (الوعي العام المتخلف) بسبب انه بيد الشعب فقط. تلك هي اهم مخلفات الانظمة السابقة، كراكيب عفنه، لا تصلح للاستعمال، ولا تصلح للترقيع، ولا يمكن لاي عاقل سواء كان شخصاً او نظاماَ ان يستعملها، بعد موجتين عاتيتين لثورة عظيمة، مازالت جارية، واحتمالات نموها وتطورها واردة بنسبة مائة في المائة. ففي حالة التخلص من تلك المخلفات باقصي سرعة ستكون سبباً رئيساً في انجاح السلطة القادمة، وبداية لبناء مصر الجديدة على اسس سليمة، وسوف تجعل كل مجهود يتم، يبنى طوبة في طريق الخلاص، وكل فكراً جديداً، يشعل نورا يضيء الطريق، وكل خطوة تضيف جديدا على طريق المستقبل. وايضا في حال ترك تلك المخلفات، سوف تكون مقبرة السلطة الجديدة، ومصدر ضياع اي مجهود للبناء، وفناء اي فكر جديد يولد، ولن تنجح سوي في احداث موجة ثانية كبرى للثورة المصرية، في صورة ثورة شعبية تطيح بكل كراكيب الانظمة السابقة، لتبني نظاما جديدا يحقق اهداف الثورة المصرية. فيا ايها الحكام الحاليون والقادمون، ان تلك المخلفات والكراكيب العفنة، عاراً على من سبقوكم، وان رعاة تلك المخلفات هم من قادوهم الى سلة مهملات التاريخ، وهم عبء كبيرا عليكم، ولا ندري الي اين سيذهبوا بكم، ان هم بقوا في اوكارهم، وهم كارثة كبري لمستقبلنا نحن اصحاب المصلحة في التغيير، لما يمارسوه من تخريب وتدمير، وفساد وافساد، وظلم واستبداد، ونهب منظم ومنهجي لثروات شعب باكمله.