عندما وجد الشعب المصري أنه غير قادر على العيش في ظل النظام السائد ، الظالم والفاسد والمستبد، وأصبح هذا النظام غير قادر على إرضاء أغلب الجماهير، واستنفذ كل وسائل القهر في إخضاعه قصراً وجبراً، لطاعته او الاستمرار في السكوت عليه . وبرغم عدم وجود طليعة ثورية قوية، تقوده الى التغيير كما كان سائداً لقروناً من الزمن، وذلك لأسباب كثيرة ، وعندما طال انتظارها، ولم يبدو في الأفق قدومها، هنا ثار الشعب المصري، وسطر أروع صفحات تاريخه، بل وأروع صفحات تاريخ الثورات في الكون كله، ثورة أبهرت العالم عن حق ، خرج فيها عشرات الملايين، في منظر أضاء سماء العالم كله، وهز عروش الاستبداد في كل مكان، وأعاد وجه مصر الحقيقي، وجوهر الشعب المصري النفيس، وكان الشعب المصري بثورته، ينفض غباراً كان يغطي جوهرة نادرة، ضاربة في جذور الحضارات، بل هي أصل الحضارات . هذا الشعب أول من أقام حضارة في التاريخ البشري، فهو أول من زرع، وأول من حصد، وأول من كون أسرة، وأول من عبد الهً واحداً، وأول من عرف الطب والهندسة والرياضيات والفلك والتحنيط، وأول من عرف الكتابة والقراءة، وأول من بني دولة، وأول من أقام وطناً، وأول من كون دولة موحدة، وأول من أنشأ سلطة مركزية، واحتكر مركز الحضارة لأكبر فترة في تاريخ البشرية، ومازالت أثار الأجداد شاهدة على أكثر من هذا، وما زالت تبهر العالم حتى الآن . هذا هو الشعب الذي قرر أن يكون كما كان، وكما يستحق أن يكون، لا كما يريد الأغيار من خارجه، او الأندال من داخله . واستطاع الشعب الثائر الحر أن يكسر حاجز خوف طال حقباً من الزمن، واستطاع أن يعرف ويبصر ما كان خافياً عنه، في فترة وجيزة أقرب إلى المعجزة، حتى صار الوعي السياسي والثقافة العامة لديه في أرقى ما يكون، واستطاع أن يكتشف نفسه بعد ثباتاً طويل، واستطاع أن يرى ويعي ما حدث أثناء غفلته، ويدرك الفجوة التي فصلته عن عالم جديد، اكتسبت فيه الشعوب كثيراً من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ما وفر لشعوبهم قدراً من العدالة الاجتماعية والحريات بجميع أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحقق لشعوبهم استقلالا وطنياً ، يصنع مظلة وحماية ووقاية من جميع الأخطار لأوطانهم . استطاع أن يفرز بين ما هو غث وما هو ثمين ، في الفكر، والممارسة السياسية والثقافية، نمى زوقه الفني وأصبح كل ما هو راقي وجميل وإنساني أقرب اليه وإلى زوقه، وحلق في السماء كل من كان صادقاً في فنه أو شعره أو قلمه أو أدبه أو صدقه السياسي، واندثر كل نشاز وهمجي وقبيح وكاذباً، سواء في السياسة أو الثقافة أو الفكر أو الأدب، ودائما تكون تلك بدايات أو جذور حضارة جديدة، ونهضة عظيمة، وخطوة للأمام في طريق تحقيق آمال الشعوب وتطلعاتهم في الحرية والتقدم والرخاء والسعادة . ولأنه دائماً تقوم الثورات من أجل إزاحة نظاماً قديماً، وإقامة نظاماً جديداً، يحقق مصالح الطبقات التي ثارت في المجتمع، بدأ الشعب في إزاحة رأس نظام كان من يراه قبلها ببرهة، يتخيل ان الخلاص منه مستحيلاً، ولكن بزجة منه أرداه ذليلا في قفص المهانة، وبدأ يخلخل جسد النظام العليل، ولكنه جسداً ضخم وأخطبوطي، اكتسبهما من طول الرقاد فوق رقاب العباد والأوطان . إنه أخطبوط بوجهين كبيرين منتفخين، هو يعرف جيداً وجهه العاري المكشوف القبيح الندل، وعاشره عمره كله، وعزم على استئصاله، والوجه الآخر غريب عنه، وعن طبعه ، وعن سماحته، ووسطيته، وحلاوة معشره، وبشاشة وجهه، وخفة دمه، وضميره الحي، وحبه لوطنه، وعشقه للحرية، وليس هو قائده المنتظر، او ضناه المأمول، او طليعته المخلصة، ولكنه الأكبر والأضخم، بكبر وضخامة الوجه الآخر..... فلنجرب ، نعم فلنجرب ربما يكون أفضل . وكانت الكارثة انه أسوء بمراحل، انه يفعل كل شيء مثله تماماً، في جشعه تماماً، في بشاعته تماماً، في قبحه تماماً، في ندالته تماماً، في اللاضمير، واللاأخلاق، واللاإخلاص للوطن، وبل وزد على ذلك إنه يخنقنا، ويكتم انفاسنا، يحاول أن يقضي على روحنا التي ظلت آلاف السنين، وعاشرة كل الطغاة والمستبدين، وظلت كما هي، هو يستهدفها، يحاول طمسها، يستهدف هوية وحضارة آلاف السنين، يا له من غبي، أحمق ، حلوف، لا يدري إنها أشياء لا تنتزع، ولا تقتلع، ولا تمحى، ولا تنسى، إلا اذا أزالوا الأرض والبحر والنهر والسماء والتاريخ والبشر .... وهل هذا ممكن ؟ أدرك الشعب الثائر الحر ان الخلاص من تلك الغمه ( بضم الغين )، يحتاج إلى نفس الهمه ( بكسر الهاء )، وثار بموجة ثانية عاتية، زلزلة كيان المغرور، أردته مجنوناً، مخبولاً، شارداً طريداً، أمام الشعب و التاريخ، وأرقدته في سلة مهملات التاريخ . ولكنه شعب حلمه كبير وأمله أكبر في استكمال ثورته، وفي نباء مشروعه الحضاري، وفي تحقيق أهدافه في العدالة الاجتماعية والحرية والاستقلال الوطني، هو مستمر، ولكنه أصبح في عامه الثالث بعد السبعة آلاف، أكثر نضجاً وأكبر حلماً، وأنضج وعياً، وأكثر حكمة، وأكثر حيوية ونشاطاً، وأكثر يقظة، نعم هو مستمر في ثورته لتحقيق كل أهدافه، أصبحت الثورة علي كل قبيح هو طبعه، والدعم لكل جميل وراقي وإنساني هو صفته . أدرك ان رفض الظلم والفساد والاستبداد أينما وجدوا هي الثورة المستمرة، وأن تبني العدل والحرية والاستقلال الوطني ودعمها اينما وجدوا، وفي اي وقت كانوا، هي الثورة المستمرة . رفع شعارة ( عيش حرية عدالة اجتماعية )، ليحيا بهم، ويسعى دوماً لتحقيقهم و للحفاظ عليهم، لا ليسجلهم في كتب المدارس، أو ليرفعهم في الأزمات و المناسبات، ولا ليكتبهم على اليافطات، أو يغنيهم في الأناشيد و الراديوهات والتليفزيونات، أو يرسمهم في الأفيشات . يواصل نضاله وكفاحه ضد الظلم والاستبداد، يحقق النصر ويحافظ عليه، ويليه بنصر جديد ويحافظ عليه، ويواصل معاركه لكسب مزيد من الحقوق، ويثور موجة بعد الأخرى تزلزل الكون، ويصبر كثيراً، ويسامح احياناً، ويعطي الفرص بسخاء ، ويحسم الأمر عند اللزوم، هكذا أصبح طبعه، وهكذا تكون الثورة المستمرة، كما عرفها وترجمها وهضمها ومارسها بأروع صورها . يراقب طليعته الثورية القديمة الوليدة، يعطيها الدرس بعد الآخر، ينجز المعجزات بدونها، ليقول لها أريدك وأتمني ان أكون شريكك وحليفك ورفيقك، ولكن لن أموت بدونك، سيكون الثمن أكبر والوقت أطول ولكن لن أقف ولن أموت، وعند اللزوم سأنجب غيرك، وأرفع من قدر وشأن غيرك، وأرافق من هو أخلص منك، وأشجع منك، وجسور وثائر وحر وذو بصيرة ويستحقني، ومازلت أنتظرك، ولكن بشكل يليق بي، أريد أن أراكي ، قائدة ، موحدة، منظمة ، ثابتة الخطوات، واثقة بالنصر، مصرة على تحقيق كل الأهداف، بل والاستمرار في المحافظة عليها، ترسمي طريق الوصول بكل أمل وتفاءل، بمعرفة وتفاني وإخلاص وقوة وثقة وثبات . مارس الثورة المستمرة بعفوية وفطنه وبجمال وعشق، صنف اعداء ثورته، فهذا فل من فلول، وذاك خروف من خرفان، وتلك واهم من واهمين، نعم الواهمين، يتربص بهم، هم أيضا لم يعو الدروس، يتوهمون أن الزمن يعود للوراء، أو أن الفرصة سانحة للانقضاض على الفريسة، وهي لم تعد فريسه، بل أصبحت صياداً ماهراً للطغاة، والمستبدين، والظالمين، والأندال،وأيضا للواهمين، ليس تكهناً أو توقعاً او ظناً او رجماً بالغيب، بل حقيقة تؤكدها معجزاته التي لا يفصل إحداها عن الأخرى سوى خطوة واحدة، هو لا يفصح عن شكل المعجزة أو وقتها، ولكنه حتما يفعلها، وفي أنسب أوقاتها . هذا هو المعني الإنساني للثورة المستمرة بلا نزق أو حفلته أو زربنه أو مكلمه، هي السعي المستمر لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، هي السعي لكسب الحقوق واحدة تلو الأخرى والحفاظ علي ما أكتسب، والاستمرار في تحقيق باقي الأهداف، والسعي إلى الرقي والتقدم باستمرار، وتطوير الأهداف باستمرار، حسب ما يصبو اليه الإنسان من رقي وطموح جديد، فهي ليست وصفة جاهزة، أو خلطة سحرية، او تشطيب مفتاح، بل هي أهداف تفاعلية، تحتاج معارك كثيرة، ومتواصلة، فمنها ما تحقق، ومنها ما يتحقق الآن، ومنها ما يتحقق غداً، ومنا ما يتحقق بعد سنة، ومنها ما يتحقق بعد سنوات، ومنها ما يحتاج إلى أجيال لتحقيقه . الثورة المستمرة هي التحديد الجيد لمن يجب التحالف معهم، وتحديد من يجب الائتلاف معهم، وتحديد من يجب التجبيه معهم، وتحديد من هو خصم وعدو لأهداف الثورة . الثورة المستمرة هي الحفاظ على الوهج الثوري، بكل الطرق والاشكال المتعددة، ابتداء من التواصل والتفاعل المستمر بين رفاق الثورة، والراغبين في اكمالها، وكسب رفاق واصدقاء جدد، والوقفات الاحتجاجية، والمظاهرات، والإضرابات، والاعتصام المدني السلمي، والعصيان المدني السلمي، ولكن الاهم هو متى نستخدم كل وسليه من وسائل النضال، وكيف نستخدمها، وما هي الوسيلة الاجدى في الظرف الحالي، وأن تكون حسب الاولويات التي تتفق مع الطريق الى تحقيق اهداف الثورة، والا ننساق وراء اجندات احدى اطراف اعداء الثورة ( اليمين الديني المتطرف الفاشي، واليمين المتطرف الفلولي ) في صراعهم على الاستيلاء على السلطة لصالح نفس السياسات، وخدمة نفس الطبقات، ولكن بقيادة اشخاص مختلفين في الشكل، مستخدمين في سبيل تحقيق ذلك، كل اساليب التضليل والكذب والمراوغة، واستغلال نقاء ومثالية بعض الثوار، وضعف الخبرة السياسية عند البعض الاخر . الثورة المستمرة هي التحديد الجيد للطبقات صاحبة المصلحة في التغيير، ومعرفة تجمعاتهم، وطبائعهم وخصائصهم ، وإمكاناتهم الكامنة، ومعرفة تاريخهم النضالي في كسب حقوقهم، والارتقاء بوعيهم وتوحيدهم، والتحرك معهم في كسب حقوقهم، وتبصيرهم بدون تعال أو انعزالية، ورفع الشعار المناسب دوماً . الثورة المستمرة هي التعلم باستمرار من أخطاء الماضي لتفاديه في المستقبل، هي التطوير باستمرار في وسائل تحقيق الأهداف، هي معرفة طبيعة المرحلة التي نعيشها لرفع الشعار المناسب لها، هي عدم اليأس أو الإحباط أو الملل، هي الحياة دوما بروح الثورة، البناءة والخلاقة والمبدعة، والواثقة بالنصر دوماً .