لم أرَ في محيّاها ما ينمّ على ارتياح لي لحظة دخلت عليهنّ، عليهم، مسلّمًًا مصافحا. لست أشكّ في أنّ مضيفتنا كانت قد أعلمتها بأني "كاتب معارض" وهي مَن هي في مجال "الإعلام الرسمي". كانت المضيفة الكريمة، وهي صديقة في التواصل، قد وعدتني منذ رمضان بوليمة في ثاني أيام العيد (الجمعة 9-8)، وشاءت أن تجمع فيها شمل صديقات لها، ولم أكن الرجل الوحيد بينهنّ، فهناك زوجها وابناها الجامعيان. كان لا بدّ من أن يُطرَح سؤال وجيه، عمّا إذا كانت الإعلامية (ب.ش) قد تأتّى لها أن تسمع باسمي كاتبًا في الوسط الثقافي الذي تمارس عملها فيه؟ أجابت بأنْ لا مع الأسف. وكان من حقي أن أعتب، كيف أنّ إعلامية، تُعِدّ وتقدّم البرامج الثقافية والإبداعية، المرئية والمسموعة، لم تسمع باسم كاتب في الوطن، أنتج أربعين كتابا، وقد تُرجم بعض أدبه إلى لغات؟ قالت: «لعلك المقصّر في حقّ نفسك!»، قلت: «كنت كلما طرقت بابا صُفق في وجهي الباب، وأسرعوا يوصدون النوافذ أيضا... وما كنت أحمل إلا قلما يرعف ألما ويسيل بأوجاع الناس الذين يعانون!». واستدركت: «ولقد كنت شفافا في انتقادي، متجنّبًا "المباشرة" الفجّة، متوسّلاً ب"الفانتازيا" التي أحلق فيها بعيدا لأقدّم نصّا قصصيا مجرّدا من المكان، ومن الزمان، ولا تعدو الأسماء فيه أن تكون حروفا... هل أروي لك منها قصة؟». ورويت... فانبسطت الأسارير وزال الغمّ كله. وتابعتُ الحديث، ونحن حول مائدة قد توسّطتها صينيّة "الفريكة"، المغشّاةُ بلحم الدجاج المحمّر، الموشّاة بالمكسّرات من جوز ولوز وصنوبر! ولاحظت أنها تعمّدت الجلوس في مواجهتي، هل لتغترف من الانفعالات الطافحة على الوجه؟ وبعد الغداء - وقد طال جلوسنا حول المائدة - قامت تجلس إلى يميني كما اقترحتُ فأنا أكثر سماعًا باليمنى! وهكذا تغيّر الرأي عندها مئة وثمانين درجة، وتهاوت الفروق "الإيديولوجية" والمزاجية! ومما زاد في ذلك أن تعلم أنّ ابنتيّ "سهير" و"خلود" تمارسان الفن التشكيلي عربيًّا وتطلان به على ما هو أرحب. واقترحت أن تستضيفني في اثنين من برامجها، هذا الذي تقدّمه والآخر الذي تُحضّر له. وما كان كريمُ ما تعرض ليمنعني من الاعتذار بأني لا أفضّل الظهور في الإعلام الرسمي في هذا الزمن الحزين. ثمّ إنها تساءلتْ كيف السبيل إلى أن تقرأ لي، وأن تقتني كتبي؟ قلت: الآن وليس غدا، نمضي إلى بيتي، فتُكرميني بأن تقبلي مني ما يتيسّر. لما وطئت قدمها أرض الحديقة أسرع لسانها يعبّر عن إعجابها بجمال الطبيعة. وفي الداخل - والمكتبات تغطي الجدران - قالت إنها تجد نفسها في "بيت أديب حقيقي". ولم تكتم استحسانها لحديث ابني الطريف، عن أنه أنجب ثلاث بنيّات قبل أن يرزق بوحيده "فاضل الصغير"، "مقلّدا" في ذلك أباه الذي أنجب ثلاثا قبل أن يأتي هو إلى الدنيا! ورأيتها تستعجل طلبَ الصداقة في التواصل الاجتماعي، بأن أرسلت الطلب من جهازي باسمي... إليها. وخرجتْ مودّعة، وفي يدها أعمالٌ لي، وعمل عني، وسِفر حول الأندلس ألفه مَن تولّت نشرَه الدارُ التي أعمل فيها بغير ضجيج. في تلك الليلة، أيها الأصدقاء... انتظرت قبول الصداقة... وانتظرته في اليوم التالي... وهي ذي أيامٌ سبعة تتقضّى! أغلب الظنّ أنها عندما تجوّلت في صفحتي، ورأت ما رأت وقرأت ما قرأت، أسرعت تستردّ الدرجات المئة والثمانين التي منحت، وذهب هباءً كلّ ما كان من طيّب الحديث، ونحن أمام صينية الفريكة، تلك المغشّاة باللحم، الموشّاة بالمكسرات المقليّة بالسمن العربي! إني... الآخرُ... مرفوضًا!