بعد قليل.. مستقبل وطن يعقد اجتماعا تنسيقيا مع ممثلي الأحزاب المشاركة في القائمة الوطنية لانتخابات الشيوخ    وزيرا الزراعة والإسكان يتفقدان محطة التجارب البحثية لتحلية مياه البحر بالعلمين الجديدة    توقعات بتراجع واردات مصر من القمح 20% بعد فرض قيود على تصدير الدقيق    يائير جولان يتهم حكومة نتنياهو بالمماطلة السياسية في صفقة الأسرى    رويترز: الولايات المتحدة تخطط لعقد محادثات نووية مع إيران في أوسلو الأسبوع المقبل    أوكرانيا: قتيلان و3 جرحى في ضربة صاروخية روسية جديدة استهدفت أوديسا    الأهلي ينعي جوتا وشقيقه    حازم إمام: بشكل نهائي لا يوجد لجنة تخطيط في الزمالك    بعد غرق البارج البحري.. قرارات عاجلة من وزير البترول لمواجهة الحوادث والحالات الطارئة    محافظة شمال سيناء تحذر المصطافين من نزول البحر بسبب الدوامات البحرية وتغير الطقس    اختتام المهرجان القومي للمسرح المصري بالإسكندرية.. وتكريم المواهب    حفل توقيع سرب الكتب الطائرة لمحمود أبو عيشة بقصر ثقافة الطفل ببنها    الهلال الأحمر يستقبل وزيرة خارجية النمسا مستعرضًا جهود مصر لأزمتي غزة والسودان    ترشيد استهلاك الكهرباء في الصيف.. نصائح عملية من جهاز تنظيم الكهرباء    بقدرة 650 ميجاوات.. استمرار العمل بمشروع الوحدة الثالثة ب محطة كهرباء الوليدية في أسيوط    كل ما تريد معرفته عن تحركات الأهلى فى الانتقالات الصيفية    43 وحدةً بالطرح الأول.. «الصناعة» تعلن طرح 36 وحدةً صناعيةً للمستثمرين ضمن الطرح الثاني للمرحلة الثالثة بمدينة الروبيكي للجلود    وكيل لجنة المشروعات ب مجلس النواب: بيان 3 يوليو أعاد بناء مؤسسات الدولة.. ورسم ملامح الجمهورية الجديدة    القبض على مالك شركة للنصب على المواطنين بالسفر للخارج    هل كانت مصر تحتاج إلى إنشاء حزب الجبهة الوطنية؟.. بهاء أبوشقة: تفعيل للمادة 5 من الدستور    أسعار الدولار مساء اليوم الخميس 3 يوليو 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض الفيوم للكتاب.. وورش الأطفال تخطف الأنظار    فرصة لمحو ذنوب عام.. تعرف على فضل صيام يوم عاشوراء    من يتحمل تكلفة الشحن عند إرجاع المنتج؟.. الإفتاء المصرية توضح الحكم الشرعي    "أسوان تنضم رسميًا إلى منظومة التأمين الصحي الشامل.. خطوة جديدة نحو تغطية صحية شاملة لكل المصريين"    بيومي فؤاد يفتح قلبه في "فضفضت أوي": أعتذار لكل من أسأت إليه دون قصد    نقيب المحامين: الامتناع عن الحضور أمام المحاكم والنيابات يومي 7 و8 يوليو    الحماية المدنية تسيطر علي حريق داخل مخبز بمنشأة القناطر    صدمة جديدة.. نجم الأهلي يجري عملية ويغيب عن الفريق شهرين    فريق طبي بمستشفى بنى سويف التخصصى يعيد الحياة لركبة مريضة خمسينية    إصابة طالب بمغص معوي خلال امتحانات الثانوية العامة بقنا    تواصل أعمال البحث عن 4 مفقودين في حادث غرق حفار جبل الزيت    برلماني: فرض إسرائيل سيادتها على الضفة انتهاك صارخ يُشعل الشرق الأوسط    وزارة الرياضة توافق على طلبات الأهلي والزمالك والإسماعيلي والمصري والاتحاد السكندري    برواتب تصل ل11 ألف.. توافر 1787 فرصة عمل بمشروع محطة الضبعة (رابط التقديم)    صندوق النقد يراجع موقفه من إصلاحات مصر.. مفاجآت تهدد صرف «الدفعة الخامسة» من القرض    بالشراكة مع «الجهات الوطنية».. وزير الثقافة يعلن انطلاق مبادرة «مصر تتحدث عن نفسها»    ابتدينا.. أم أكملنا؟ قراءة رقمية في تكرار الأسماء وراء صوت عمرو دياب بأحدث ألبوماته الغنائية    خالد تاج الدين يدافع عن شيرين عبدالوهاب: «حافظوا عليها» (فيديو)    جدول وظائف المعلمين وفقًا لمشروع قانون التعليم الجديد.. 6 درجات    السيارة سقطت في الترعة.. إصابة 9 أشخاص في حادث تصادم بالمنيا    وفاة وإصابة 11 شخصًا في انفجار خزان ضغط هواء في الدقهلية    محافظ المنوفية يسلم سيارة ميكروباص جديدة لأسرة مالك سيارة حادث الإقليمي    نقابة الموسيقيين تُقيم عزاء للمطرب الراحل أحمد عامر    ليفربول ناعيا جوتا: صدمة مروعة ورحيل لا يُصدق    حرائق مدمرة تجتاح غابات إزمير بتركيا.. وقرى تُخلى بالكامل    أمين الفتوى: التدخين حرام شرعًا لثبوت ضرره بالقطع من الأطباء    مجدي الجلاد ينتقد تعليقات التشفي بعد وفاة المطرب أحمد عامر: هل شققتم عن قلبه؟    مطروح تحتفل بالذكرى ال12 لثورة 30 يونيو المجيدة.. صور    جيش الاحتلال يعتقل 21 فلسطينيا في الضفة الغربية بينهم طلاب ثانوية    نائب وزير الصحة يتفقد مستشفى حلوان العام: إجراءات عاجلة لتقليل زمن الانتظار    افتتاح جناحي إقامة وVIP و24 سرير رعاية مركزة ب "قصر العيني الفرنساوي"    "نقلة جديدة".. أسوان تنضم رسميًا لمنظومة التأمين الصحي الشامل    وزارة الأوقاف توضح القيم المشتركة بين الهجرة النبوية وثورة 30 يونيو    مصرع 4 أشخاص وفقدان 38 آخرين إثر غرق عبارة فى إندونيسيا    ماذا قدم محمد شريف مع الأهلي قبل العودة لبيته فى الميركاتو الحالى؟    9 جنيهات لكيلو البطاطس.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    40 حكما يجتازون اختبارات الانضمام لدورة الحصول على رخصة "VAR"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يا نكَّد الله على الرخام
نشر في الشروق الجديد يوم 25 - 11 - 2010

يا أخى كلما نسينا ذكرونا. خرجت مع بعض أصدقائى نتمشى، فإذا كل شىء فى هذه العاصمة الرخامية ذو معنى مقصود ورسالة موجهة، لقد خطت لتكون مقالا لا مدينة، أراد بانوها أن يشحنوها بالرموز الدالة على عقيدتهم السياسية وما يرونه دورا لبلادهم فى تاريخ البشر.
المدينة واشنطن ومركزها مبنى الكونجرس، ويسمونه الكابتول أو الهل، أى التلة، والاسمان مأخوذان من مدينة روما القديمة، فأمريكا فى خيال مؤسسيها هى روما العصر الحديث. وتتفرع منه المدينة أربعة أرباع، بأسماء الجهات الفرعية الأربع، ثلاثة من الأرباع يسكنها السود، والربع الأخير، وسبحان الله هو الشمال الغربى، يسكنه البيض.
والكونجرس هو مركز المدينة لأنه المبنى الذى يمثل نظامها السياسى، فهو الجسم الأصيل فى الحكومة، ومنه تخرج القوانين التى يطيعها الحاكم والمحكوم، ولذلك فإن الشوارع الكبرى التى يسير فيها الناس تتفرع منه كأشعة الشمس وكل شارع شعاع يسمى باسم ولاية أمريكية ورخامية أبيض يوحى دائما بالجدة فلا يتغير لونه مع السنين كسائر الأحجار. ولا يجوز فى واشنطن أن يعلو مبنى أيا كان على ارتفاع قبة الكونجرس والتمثال القائم عليها، والتمثال لامرأة مسلحة تسمى «الحرية منتصرة».
عن يمين الكونجرس فى اتجاه الشمال الغربى، يقع البيت الأبيض، من المتعمد أيضا أن يكون أصغر وأقل فخامة، للتأكيد على تبعية الرئيس وسلطته التنفيذية للكونجرس الممثل لعموم المواطنين. وعلى يسار الكونجرس، مقابل البيت الأبيض، هناك مزار توماس جفرسون، مؤسس النظام السياسى الأمريكى، تاجر العبيد الذى كان ينادى بالمساواة، يقف عملاقا من حجر أسود محاطا بمعبد دائرى أبيض قائم على عمد يونانية الطراز.
فعلى يسار الكونجرس الرجل الذى أسس نظام الحكم، جفرسون، وعلى يمينه الرجل الذى يحافظ عليه الآن الرئيس الحالى. أما مزار الرئيس الأمريكى الذى انتصر فى الحرب الأهلية وأبقى على اتحاد الولايات التى تكون اليوم أمريكا، أبراهام لينكولن، فيكمل المربع، إذ يقع مقابل الكونجرس تماما، بين مزار جفرسون والبيت الأبيض، فيكون ترتيب زوايا المربع إذا بدأنا من الكونجرس وقرأناها كأنها نص إفرنجى من اليسار إلى اليمين: الكونجرس نقطة الأصل ثم مزار جفرسون، ثم مزار لينكولن، ثم البيت الأبيض: النظام، مؤسسه، منفذه، ورئيسه وكأنه تتابع زمنى أو رواية تاريخية، وتتابعهم من اليسار إلى اليمين يوحى بالتتابع الزمنى لأنه اتجاه عقارب الساعة.
وفى وسط المربع تقف مسلة ضخمة هى مزار واشنطن صاحب البلد وبانيها، فهو قطب الرحى وعمود الخيمة. وجماعة المبانى هذه كلها من الرخام الأبيض أو ما يشبهه. كل شىء دقيق، كل شىء محسوب وذى داع ومعنى ونظام، مدينة روحها حادة الزوايا، ودينها من رخام.
مرشوش بين هذه الأوتاد الأربعة يجد المرء مزارات للحروب التى خاضتها أمريكا، وأهمها بالطبع الحرب العالمية الثانية التى جعلتها دولة عظمى، والتى أنهتها بتفجيرين نوويين على هدفين مدنيين فى آسيا قتلت بهما مائتى ألف نفس واستوت على العرش. ويقع المزار على الخط الواصل ما بين الكونجرس ومزار لينكولن، وهو عبارة عن بركة ماء محاطة بسور كتبت عليه أسماء الولايات الأمريكية، وللسور بوابتان كتب على إحداهما «الأطلسى» وعلى الأخرى «الهادى».
وقد تفضل جورج بوش غازى العراق وأفغانستان بإضافة علمين أمريكيين كبيرين إلى هذا المزار ليذكرا بحرب العراق، وكأنها امتداد للحرب العالمية الثانية، فإنها خيضت لتحافظ الولايات المتحدة على مكانتها كدولة عظمى. وقد نقش على قاعدة كل من العلمين عبارة «لم يأت الأمريكيون غزاة بل محررين».
كنت أسير الليلة مع بعض أصدقائى بين تلك المعالم، وأفكر فى قتيل يتأمل رونق النصل وهو يحزه حزا، ويجد وقتا ودما ليدقق فى صنعة الصيقل. لم أستطع أن أدفع عن خيالى ارتباط الرخام عندنا بالقبور، وأن البياض العارم هناك يقابله خليط من الألوان فى سوق بالعراق، طين الأرض دم القتلى ألوان ملابسهم، كل لون له معنى، وكل معنى له لون، إلا الدمع فإنه شفاف ليس له إلا طعم الملوحة، وتعثر الكلام بغصة الحق.
عدت مع أصدقائى إلى حرم الجامعة، جامعة بنيت عام ألف وسبعمائة وتسعة وثمانين، عام الثورة الفرنسية، أراد أحدنا قضاء حاجته مع طول المشى بين الرخام، فأشرت إلى أحد المبانى أن فيه حماما فدخلنا وانتظرناه، وقبل أن نخرج فاجأنا الحرس، قالوا إن المبنى مغلق، وأنهم نسوا أن يغلقوا بابه وطلبوا منا التعجيل بالخروج.
قلت لصاحبى، الليلة ليلة السبت، والطلاب والأساتذة بل حتى الطيور والسناجب فى هذه المدينة تمر بالجامعة وتدخل وتخرج، وأنا أعلم أن المبانى تبقى مفتوحة، ولو كنا سكارى وشقرا لما تعرضوا لنا. قال لى أنت تبالغ، فما كاد يكمل حتى أشار نحوى أحد الحرس، قال أنا أعرفك، أنت أستاذ بمركز الدراسات العربية، قلت نعم، فكلمنى بالعربية قائلا «أنت تحجى عربى، أنا أفتهم عربى «يقصد» هل تتكلم العربية، أنا أفهم العربية» وإنما قالها باللهجة العراقية، وأتى بها مكسرة.
فعلمت أن الرجل كان بالعراق مع قوات الاحتلال، ولم يجد له عملا إلا أن يكون حرسا حين عاد. قلت له متى عدت من العراق، قال عام ألفين وخمسة، قلت له أنا متعجب لسلامتك فلا تعد. ارتبك. لم يدرك أن ذهابه للعراق عدوان على، ظن أن كلامه بالعربية تودد، ولم يفهم لماذا لم أقابله بتودد مثيل.
عدت إلى منزلى وأنا أتذكر مثلا شعبيا عن الرخام يقابل ما بين النظافة من الخارج ونقيضها من الداخل، وأتذكر أبياتا لشاعر عربى أسود البشرة خشن اليدين أمه حبشية، عن نعومة ملمس الثعبان. أردت ولله ليلة أتمشى فيها وأستريح فتبعونى جميعا، مائة وأربعة وخمسون ألفا منهم، تبعونى بين الرخام، مائة وأربعة وخمسون ألف لوح رخام، ذهبوا إلى بلاد الفسيفساء والزليج، وعادوا يمشون ورائى.
عدت إلى منزلى وأنا أقول يا حرسى نكد الله على الرخام، فقد جنى الرخام علينا.. وعليك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.