تثير دهشتي أحياناً، استطلاعات الرأي التي تنشر نتائجها في وسائل إعلامنا بين الحين والآخر، لأننا ببساطة نفتقر في عالمنا العربي كله إلى الآليات الصحيحة التي تمكن من عمل مثل هذه الاستطلاعات، لكننا سوف نأخذ ببعض منها هنا على سبيل المثال وليس التوثيق، وما أقصده هو تلك الاستطلاعات التي تؤكد نتائجها أن غالبية المواطنين لا يعترفون من الأساس بجدوى منظمات المجتمع المدني على اختلاف رؤاها وأهدافها وتكويناتها وفاعلياتها. وبصرف النظر عن دقة هذه النتائج إلا أنها تؤكد شيئاً حقيقياً لا جدال فيه، ألا وهو أننا بشكل عام، خصوصاً للأسف في البلدان التي تدعي عراقة وخبرة في ممارسات المجتمع المدني فيها، لم تنجح هذه القوى المدنية في التواصل وكسب ثقة غالبية المواطنين، واكتساب مصداقية كبيرة على أرض الواقع، ونحن هنا لن ننكر أن معوقات كثيرة قد واجهت حركة المجتمع المدني في بعض البلدان التي اعتبرت حكوماتها هذه الحركة مناقضة لها، بينما بدأت تنهض بشكل ملموس في البلدان التي تعاملت مع المجتمع المدني على اعتباره مكملاً لدور المؤسسات الحكومية. وبصرف النظر عن نتائج الإحصاءات، إلا أننا نلحظ أنه في البلدان التي عانت فيها مؤسسات المجتمع المدني، والتي هي أيضاً في أمسّ الحاجة إلى حركة ودور هذه المؤسسات حتى تنهض بشكل سريع، هناك مساحات هائلة من الفراغ المجتمعي والثقافي والفكري وبالتالي السياسي، إلى جانب ظهور نوع عجيب من عبقرية الأداء باتت تتمتع به منظمات المجتمع المدني يكمن في عدم صياغة أي رؤية واضحة للعمل في المستقبل على ضوء المتغيرات في منطقتنا والعالم كله، بل في تركيز الجهود كافة لتصيد أخطاء الآخر، في محاولة منها لنزع اعتراف بأنها موجودة وتمارس نشاطاً على أرض الواقع حتى لو كان وجوداً وهمياً أو لحظياً، حتى بدت القوى المدنية والتي يفترض أنها الملاذ الأخير في أي مجتمع متحضر، وكأنها لا تعمل إلا على تحصين نفسها حتى يجد الله لها ولنا مخرجاً مما نحن فيه وعليه. ولأننا شعوب لديها إدمان خاص بمشاهدة «التلفزيون»، لذا أصبح مفهوم «انتظرونا في الحلقة المقبلة» نتعامل به خلال حياتنا، حيث تعودنا في الفترة الأخيرة على أن كل حدث وحديث هو مبتور بالضرورة، لا أدري هل السبب في هذا يعود إلى العجز أم التخبط أم رغبة البعض في التشويق. المهم أننا أصبحنا بشكل أو بآخر في مواقفنا أشبه ما نكون بالمسلسلات التركية، طويلة وممطوطة. نعم نقرأ ونتابع كل يوم عن تهليل أو إدانة منظمات وجمعيات تصريحاً أو خبراً تتداوله وسائل الإعلام هنا وهناك، خصوصاً إذا ما تعلق بوضعية حقوق المرأة أو المواطنة، ونبدأ في انتظار الحلقة المقبلة وما يمكن أن تسفر عنه من خطوات أو تحركات ملموسة، فلا نجد شيئاً حقيقياً يمكن أن يعول عليه، فقط الجميع يتسابق على أدوار بطولة مزعومة، ومنشغل تماماً بكيفية إبراز اسمه في صدارة المسلسل الدرامي الذي نحياه. ربما علينا الاعتراف بأننا مازلنا على أعتاب قراءة ملفات مفترض أن المواقف قد حُسمت حولها من قبل، مثل الحداثة وشكل الدولة المدنية ومكانة المرأة في قلب المجتمع وليست على هامشه، والمسافات المحددة بين التطور والموروث وعلاقتنا بجيراننا والعالم من حولنا، ولو لم نعترف بهذا فستظل الخيوط كافة متشابكة ومتداخلة، ولن يكتسب المجتمع المدني أي مصداقية تذكر، وسيبقى الحال على ما هو عليه.