فتح العرب إسبانيا وسمَّوا هذا القطر الذي دخلوه «الأندلس» (تسمية استمدّوها من اسم إحدى القبائل التي سبق أن حكمت إسبانيا والشمال الإفريقي الفندال Vandals)، وقد كانت الأندلس ذات طبيعة من أجمل ما في بلاد المسلمين لا يضاهيها إلا بلاد الشام، التي منها جاء الفتح في عهد الخليفة الأموي السادس "الوليد بن عبد الملك". أقام الفاتحون في الأندلس حضارة زاهرة على مدى ثمانية قرون من عمر الزمان. وإذا كانت المؤلفات التي كتبوها مودعةً في المكتبات العربية والعالمية، يخرج بعضها إلى النور بين الآونة والأخرى مطبوعا بما يليق، فإنّ ما شيّدوا فوق الأرض من صروح باهرة يشكّل اليوم مصدرا هامّا من مصادر الدخل القومي في إسبانيا. ما أودّ أن أقوله الآن أنّ "دار إشبيلية" بدمشق (التي تخصّني)، نشرت في مطلع العام 2009، كتابا من تأليف الباحث المغربي المتمرّس في الشؤون الأندلسية، البروفسور أحمد الطاهري، عنوانه «الأندلس في عصر بني عبّاد»، هو الحصيلة العلمية لدراسة اشتغل عليها بضعة عشر عاما. وقد كان لي الحظّ في أن أقدّم للكتاب بصفحات ضافية... أقتطِف منها الآن صفحة تجلو وجهًا مضيئا من وجوه الحضارة التي أشاعها أهلونا هناك، والكتاب - بصفحاته التي تجاوزت الخمسمئة - يتحدث عن زمن يعود إلى القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر الميلادي). قلت: ويتحدّث الدكتور أحمد الطاهري عن الريف، الذي (عمّره الأندلسيون بالفنادق والمطاعم والحمّامات والحوانيت والأسواق، ممّا يحتاج إليه التجار والمسافرون من خدمات على طول مسالك السفر، وقد بلغت من الكثرة في ربوع الأندلس حتى شاع الخبر في الآفاق بأنّ المسافر «حيثما سار من الأقطار يجد الحوانيت في الفلوات والأودية ورؤوس الجبال، لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت [السمك] وغير ذلك»... ويشير المؤلف إلى تحسّن معاش الفلاحين ورُقيّ مظاهر حياتهم العامة، يتجلّى ذلك في الخصائص المعمارية لمساكنهم التي غدت، خلال عصرَي الخلافة [الأموية الأندلسية] والطوائف [عصر بني عبّاد]، «نهاية في الجمال لتصنُّع أهليها في أوضاعها، وتبييضها لئلا تنبو العين عنها». ويبلغ إنطاق التاريخ حدّ الشَّدو والتغريد، حين يحدثنا المؤلف عن "وادي إشبيلية" [نهرها]، عن الرصيف المحتضِن للمراسي والمقصود بالتجارات وأصناف المراكب المحمّلة بالسلع والخيرات، وقد حُصِّنت مداخله بالأبراج والمنارات، حتى قيل «وليس في معمور الأرض أتمّّ حسنًا منه». وعن كثافة الملاحة النهرية على طول مجرى هذا النهر يقول: وكانت القوارب تسير فيه – عدا النقل والتنقّل - «للنزهة والسير والصيد»...). وقد قلت معلّقًا على هذا: «أليس من حقّ الإسبان اليوم، الأكثر وعيًا للحِقَب التاريخية التي مرّت بها بلادهم، أن يحزنوا لأنّ الأندلسيين، أرقى شعوب أوروبة في القرون الوسطى، قد تعرّضوا للتهجير إلى الخارج، وللتدمير في الداخل، ممّا جعل عملية التقدّم في إسبانيا الأندلسية تتوقف، على حين استفاد الأوروبيون من كلّ المنجزات الحضارية التي قدّمها الأندلسيون؟!». فاضل السباعي من تقديمه لكتاب "الأندلس في عصر بني عبّاد، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة والاقتصاد" دار إشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق 2009، ص 11 و12. أقول: ومثل هذه الحضارة أنجز أهلونا في بلاد الشام، غابرًا وحاضرًا... ولكنا نرى اليوم تدميرًا يتجاوز إبادة الإنسان إلى تدمير البنى التحتيّة... واأسفاه!!