33) الحكمة الثالثة والثلاثون : (أصلُ كل مَعْصِيِة وغَفْلَةٍ وشَهْوَةٍ الرِّضَاءٌ عن النفًس، وأصْلً كل طاعةٍ ويَقَّظةٍ وعِفَّةٍ عَدَمُ الرضاءِ منك عنها). إذ كل من رضى عن نفسه استحسن أحوالها وغطى مساويها، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنك، لأن من اتهم نفسه، وأساء ظنه بها، ونظر إليها بعين السخط بحث عن عيوبها واستخرج مساويها. فابحث أيها المريد عن مساويك واتهم نفسك، ولا تستحسن شيئاً من أحوالها، فإنك إذا رضيت عنها واستحسنت أحوالها لدغتك وأنت لا تشعر، وحجبتك عن الحضرة وأنت تنظر. فابحث يا أخي عن عيوبك إن أردت نصح نفسك، فإذا بحثت عن عيوبها وفضحت عوراتها، تخلصت وتحررت، وتحققت، ودخلت الحضرة، واتسعت لك النظرة، واشتكت لك الفكرة 34) الحكمة الرابعة والثلاثون : (لأنْ تَصْحَبَ جاهِلاً لا يرضى عن نفسه خَيْرٌ من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فَأْيُ عِلْمٍ لِعَالمٍ يرضى عن نفسه؟ وأيُ جَهْلٍ لجَاهِلٍ لا يرضى عن نفسه؟). إذ صحبة من لا يرضى عن نفسه خير محض، لتحققه بالإخلاص، فيسري ذلك في الصاحب حتى يتحلى بالإخلاص، ويصير من جملة الخواص، وصحبة من يرضى عن نفسه شر محض، ولو كان أعلم أهل الأرض، لأن الطباع تسرق الطباع، إذ الجهل الذي يقرب للحضرة أحسن من العلم الذي يبعد عن الحضرة. وأيُ جَهْلٍ لجَاهِلٍ لا يرضى عن نفسه؟: إذ بعدم الرضى عن نفسه بحث عنها وتخلص من رقها، فصار عبداً حقيقة لله فحينئذ أحبه سيده، واصطفاه لحضرته، واجتباه لمحبته، وأطلعه على مكنون علمه، فكان أعلم خلقه. وإذا تخلص العبد من حظوظه وأوصاف بشريته، قرب من حضرة ربه، لصحة قلبه وإشراقه بنور ربه، ثم امتحق وجوده في وجود محبوبه، وشهوده في شهود معبوده. 35) الحكمة الخامسة والثلاثون : (شُعَاعُ البصيرة يُشْهِدُك قُرْبَه منك، وعُيْنُ البصيرة يشهدك عَدَمَك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجوده لا عَدَمَك ولا وُجُودَك، كان اللّه ولا شئ معه وهو الآن على ما كان عليه). البصيرة ناظر القلب، كما أن البصر ناظر القالب، فالبصيرة ترى المعاني اللطيفة النورانية، والبصر يرى المحسوسات الكيفية الظلمانية الوهمية. ثم البصيرة باعتبار إدراك نور المعاني اللطيفة على خمسة أقسام: قسم فسد ناظرها فعميت، فأنكرت نور الحق من أصله. وقسم صح ناظرها لكنها مسدودة لضعف ناظرها لمرض أصابه، فهي تقر بالنور لكنها لا تقوى على مشاهدته ولا تشهد قربه منها ولا بعده عنها، وهي لعامة المسلمين. وقسم صح ناظرها وقوي شيئاً ما، حتى قرب أن يفتح عينه، ولكن لشدة الشعاع لم يطق أن يفتح عينه فأدرك شعاع النور قريباً منه، وهو لعامة المتوجهين، ويسمى هذا المقام شعاع البصيرة. وقسم قوي ناظرها ففتح عين بصيرته فأدرك النور محيطاً به حتى غاب عن نفسه بمشاهدة النور، وهذا لخاصة المتوجهين، ويسمى هذا المقام عين البصيرة. وقسم صحت بصيرته واشتد نورها فاتصل نورها بنور أصلها، فلم تر إلا النور الأصلي، وأنكرت أن يكون ثم شيء زائد على نور الأصل: كان الله ولا شيء، وهو الآن على ما عليه كان ويسمى هذا حق البصيرة.