تشد الفنانة التشكيلية أمل نصر اللوحة إلى الأبعد دائما، وتبحث في تفاصليها وأبعادهاعن نقطة اتزان خاصة للذات والوجود معا، فاللوحة في الداخل، تفيض عنه، وهي مسكونة بما يمور به من رؤى وعواطف وانفعالات، كما أنها تحوِّم في فضاء بصري مفتوح على مصادفة التجريد وارتجالية التكوين. ليس ثمة موضوع أو مضمون محدد يؤطرها، ومع ذلك توحي دائما بأن ثمة مادة لموضوع ما يتخفى في طواياها وطبقاتها الصورية والنفسية، أن ثمة حالة أو مشهدا أو لحظة خاصة، تنحل فيها العقد والفواصل السميكة في الزمن والأشياء، وفي تعارضات الروح والجسد. يبرز هذا على نحو لافت بالنسبة لي في معرضها الجديد المقام أخيرا بمركز الجزيرة للفنون بالقاهرة.. فاللوحات تقف دائما على حافة الغموض والوضوح، وتتحرك في منطقة وسطى ما بين البوح والصمت، بينما تستمد العناصر استقلاليتها وحريتها من مقدرتها على التعايش وسط الكل، ككتلة، تتفرق وتتحد، وتتفاعل في انبثاقات إيقاعية خاطفة عبر اللون والسطح والخط، مكونةً مساقط ومسارب مباغتة للضوء، فهو يومض بخفة ويغمر الأشكال من اتجاهات شتى؛ تعززه مهارة فائقة ومرنة في تنويع ضربات الفرشاة وإثراء العجينة اللونية بالتنوع بين ألوان الماء وأقلام الحبر والباستيل والأكريلك أحيانا، مما يكسب السطح قواما تجريديا خاصا، حيث لا يسعى فقط إلى التسطيح والاختزال لإنهاء سطوة السطح الإنشائي التصويري، وإنما يسعي أساسا إلى أن تحتفظ الأشكال بشفافية أبعادها، لذلك تخترق الأشكال في تجاورها وتباعدها وتقاطعها بعضها بعضا بألفة وحميمية.. وتنفجر كعناقيد من الشظايا وومضات ذات رنين، وكأنها صدى لشحنة عاطفية كتومة، تلامس حيوات خاصة بها. ومن ثم فكل شكل له علاقة بالآخر يكتشفها فوق السطح، أو يتقاطع معها في مسام الفراغ، أو يصادفها في تراكبات الألوان المنداحة بمستويات من الوهج والخفوت والثقل والخفة. فاللون هو محور الإيقاع في اللوحات، ينزلق برهافة شديدة على السطح، وقد يمتد بتدرجاته الرشيقة ليغطي التكوين كله، ناسجا خيطا من الوصل /القطع بين الأسفل والأعلى، بين الأمام والوراء، بين الأفقي والعمودي، وفي الوقت نفسه، يترك للشكل حرية التنفس واللعب بحيوية في فضاء اللوحة. تتحاشى أمل نصر الألوان البراقة الصاخبة وتنحاز إلى الألوان ذات الغلالة المعتمة والكابية كالأسود والرمادي والبني الغامق والأخضر الداكن والأبيض المخلوط الشائب، تقطعها وتطعمها في الكثير من اللوحات بمساحات من الأحمر والأزرق، تتراءى أحيانا على شكل كتل لونية صريحة، وأحيانا ينسرب اللونان في تجاويف التصميم في شكل لطشات وخربشات وحزوزات خطية شفيفة. وفي ظني أن هذا الانحياز رغم أنه يعكس بعفوية احتفاء ما بالصورة المجردة كوسيط تعبيري لمقاربة الداخل المثقل بمساحات غامضة من التوتر والهموم والانفعالات، إلا أنه مع ذلك يعكس نوعا من الوعي اللإرادي، أو ما يمكن أن أسميه جدلية التسطيح والاختراق، خاصة مع اللوحة وخلفيتها، فهناك لحظات تنعجن فيها اللوحة بالخلفية، وهناك لحظات تحتفظ فيه اللوحة بمسافة ما بينها وبين الخلفية، وهذه المسافة رغم عشوائيتها إلا أنها تضمر نوعا من الضرورة الفنية. فإذا كان الانعجان يشي بالوصول إلى ذروة درامية ما، فأيضا تحفظ المسافة للذات مساحة لإعادة القراءة والتأمل وطرح الأسئلة والهواجس من جديد على الموضوع نفسه. إضافة إلى ما ينجم عن كل هذا من ثقل تشكيلي مسلط بدرجات متفاوتة على الشكل وعلى المضمون، وهو ثقل يبدو أثره قويا في تلوين هويتيهما وتنويع مسارات تحركهما، فالشكل لا يتحرك في اللوحات في نسق تشكيلي محدد، فهو ليس هندسيا أو رمزيا صرفا، وكذلك المضمون ليس روحيا أو ذهنيا محضا. بل إن كليهما (الشكل والمضمون) يتشكل من تواشج وتضافر كل عناصر ومقومات اللوحة فنيا وفكريا ونفسيا، على نحو يشي دوما بالانصهار والتوحد. في ضوء هذا، تحكم طاقة الانفعال بدفقها الوجداني العاطفي مدارات حركة الشكل في اللوحات، كما تنعكس بقوة على شخصية الخط وحضور اللون والتكوين، فالخط ينبض دائما بنسق إيقاعي متغيِّر ومتبدِّل، يشف على السطح، ويخلف تأثيرات عميقة في قلب التكوين، إنه ينبسط ويسترخي في انبثاقات حركية متنوعة، تستمد قوامها وفعاليتها من اللون نفسه، كما أنه يتخلى عن قوامة اللوني السميك الغليظ، ويتحول إلى غابة من الخطوط المسننة الرفيعة المتوترة المتشابكة تصنعها أقلام الحبر تارة بالأسود وتارة بالأزرق، تقبع في زوايا معينة من التكوين، وكأنها نبضة وجود معطلة في جسد اللوحة والذات معا، أو كأنها رسائل شعرية تتناثر على مسطحات ضحلة في دفتر الحياة. ومن ثم ، تجابه أمل نصر السطح المجرد بنظائر تشكيلية متنوعة، ويبدو لي أنها تتحرك عمليا في فضائه الأبيض الأملس بمحض المصادفة الفنية البحتة، والتي يتضافر فيها تراكم وعي الخبرة والممارسة، بما هو غامض ومتوتر في اللاوعي. وعلى ذلك تبدو هذه المجابهة وكأنه لحظة اكتشاف مفتوحة على شتى حدوسات المعرفة الإنسانية في الفن والواقع والحياة، ربما لذلك تتعدد مراكز الرؤية البصرية في اللوحات، فلا تنطلق من مركز واحد، وإنما تطل على الماضي والحاضر والمستقبل من نافذة اللوحة نفسها، فهي حينما تعود إلى مرتكز أو مقوم فني سابق، لا تعود إلى الشيء نفسه، وما يحتويه أو يدل عليه، وإنما تخلق له زوايا نظر مغايرة، ومجالات إدراك جديدة في اللوحة، مثقلة بنثار من الشجن والدراما. بهذه الروح تروِّض أمل نصر مناوراتها التشكيلية على السطح وتثريها باستعارات سردية وفنية لرموز من موروثات وتراثات شكلت منعطفات مهمة في تاريخ الحضارة والفن.. فبعين طفلة وباختزالات مكثفة، تحرر هذه الرموز المكتنزة الصغيرة من آثارها الغيرية، كما تغسلها من أية قيمة زخرفية، ثم تغرسها في جسد التكوين وكأنها شتلات وبذور تنمو في تربة جديدة. توسع أفق خيال المتلقي، وتشده في حوارية شيقة إلى تخوم لا تنتهي من التأويل. فبوسعنا أن ننظر إلى الكثير من هذه الرموز على أنها استعارة لأشكال من التراث اليوناني والمصري القديم، أو أنها أيقونات خاصة بلحظات منفلتة من قبضة الزمن، أو أنها عناصر ومقومات من تراث البيئة بزخمها الشعبي الخاص ومفردتها الطبيعية من نباتات وأشجار وبشر وطيور وحيوانات ، أو أنها تشكل تلخيصا لمشاغل ومفارقات الجسد والروح في مرآة اللوحة. أو هي حروف متناثرة جلبتها غواية التسطيح والتجريد إلى جدران اللوحة، من منطلق أن الحرف نفسه هو في جوهره قيمة مسطحة. تثري هذه الرموز بتأويلاتها المتعددة السطح، وتحيِّد مشاعية الفراغ، وتبرز بقوامها الشكلي الهلامي حضور اللون، كحاضن لها في طبقات التكوين، كما تفتح للأشكال المجردة نافذة خاصة على فضاء الذاكرة والحلم. مما يجعل فعل الرسم فعل معايشة، تكمن لحظاته الاستثنائية في قدرته علي الاستجابة لنوازع العاطفة وحساسية الانفعال، وأيضا في الثقة بأنه ليس مطالبا بتبرير النتائج، ولا كيف يضع حدودا للمسته وفرشاته فوق السطح. فاللوحة قد تمتد أبعد من حدود القماشة، وقد تبني صيرورتها في مربع أو مستطيل صغير. لكنها مع ذلك تخطف العين إلى مغامرة بصرية شديدة التميز.. راودني هذا الإحساس بقوة وأنا أتأمل لوحات المعرض بأحجامها الصغيرة. ورغم هذا شعرت بنوع من الحميمية والتعاطف الشديد، خاصة أن أمل نصر نجحت في أن تتجاوز قيود هذا الحيز ، واستطاعت من خلال حساسية مرهفة باللون أن تبني الشكل، وألا تجعل الإحساس به مرتبطا بالحجم ، وإنما بكيفية تفاعل كل عناصر اللوحة مع بعضها بعضا، وكأنها في حالة ميلاد مستمرة. يتضافر مع كل هذا وعي الفنانة بجملتها التشكيلية، وأنها حين تستسلم لبراح اللون ونزق التداعي الحر المفتوح على تخوم البدايات والنهايات، تعيد ترتيب الأشياء واستثمار مصادفات اللاوعي في علاقات مثمرة، تتحول فيها البداهة وسذاجة العاطفة، ومشاحنات العقل إلى معاول بصرية، لا تسعى من خلالها إلى التمييز بين الوهم والحقيقة، وإنما ليصبح منطقة التجريد هو منطق الحلم ، وكلا الاثنين يصعب قياسهما بمنطق الزمن ومعادلاته الفيزيقية المباشرة. لكن، تظل من الأشياء الشيقة في مغامرة أمل نصر التجريدية أنها لا تغيب الحضور الإنساني، بل تحتفي به، وتحتضن لحظات ضعفه وحيرته، وكأنها التجلي الأعمق للذات في اللوحة.. يمكن أن أحس بالبكاء في خضرة اللون، أن أحس بنشوى مجروحة وأحلام منسية ومسروقة في خربشات الأزرق، وتموجات وتعرجات الخطوط، يمكن أن أحس بفرح هارب وناقص ومشوَّه في الصعود المباغت للون الأحمر على حافة التكوين، يمكن أن أحس بافتقاد البهجة في طوايا الرمادي الساجي، يمكن أن أحس بالزهد والشعور بعدم الامتلاء والصفاء في حنايا الأبيض المخلوط بشوائب متعددة.. يمكن أن أحس بالتمرد على برودة الحياة الساكنة في توتر ضربات الفرشاة ونزقها اللاهث فوق السطح.. إنها إذن دعوة للتأمل، لاكتشاف الطاقة وحيوية الخلاص المطمورين في النفس البشرية، بعيدا عن صمم الداخل والخارج معا.