وإنما كانت الخيول تنطلق وراء الجمل الوحيد, إلى الخلف: إلى خلف الخلف! غادرت العربة الزرقاء ، بصيدها الثمين وفى الفراغ الشامل بقيت مطروحًا وحيدًا ، موحشًا ، وقتًا لم استطع تحديده ولكنه كان قرنًا طويلاً مملاً ، فارغًا ، وشيئًا فشيئًا بدأت تعود إلى ذاكرتي المسلوبة، وتذكرتُ تفاصيلَ خيبتي وكل ما حدث لي من لحظة دخول السيارة منافذي الأمامية إلى لحظة خروجها طائرة بشمس وصرتُ لا أشعر بشمس ولم يستطع الفراغُ الذي ملأ مكانها بقلبي أن يملأ عقلي بشيءٍ له معنى الحقيقة أو طعم الأمل ولم يبق لي من الحطام غيرُ مئات الكتب المخبوءة بتلافيف مخي ، وتركها وفدُ العربة دون مساس، قلت : " سوف أملأ بها فراغي المطلق " وفجأة ، أيضًا، وأنا غارق في محيط حزني تنبهت على أصوات : ظننتها أصوات سيارة قاسية العجلات، ولكنها لم تكن أصوات سيارة ، كانت ، وبدأت أنتبه للأشياء حولي ، أصوات حوافر، حوافر حمير ؟! ولكنى تبينت- لما اقتربت منى- أنها حوافر خيول ، وقد استطعت الآن أن افتح عيني على رؤيتها: كانت خيولاً تشبه الأشباح، هزيلة وضعيفة، ويتقدمها جَمَلٌ وحيد، ولم اعرف بالضبط عددها حين أحاطت بي دائريًا، وظلت تدور، وبسرعة هائلة وتأكدت الآن أنها لم تكن أشباحاً وأنها، أيضًا، لم تكن هزيلة ولا ضعيفة وأن أبصاري – أنا عبد البر – هو الذليل الضعيف، وشعرتُ بأن العالم يدور معي ويدور بي ولولا أنهم كفوا عن الدوران لاستسلمت لإغماءة نهائية، لكنهم كانوا قد ثبتوا وتسمروا، ومازالوا في الوضع دائريًا وبقيت لفترة دائراً حولي حتى ثبتني صوتٌ يشبه صوتَ خطيبٍ خرج لتوه من العصور الوسطى: " أنت عبد البر عبد الواحد ؟ " " نعم يا سيدي أنا عبد البر " " أنت الذي زارتك السيارة ؟ " "نعم يا سيدي " "هذه أول مرة نزورك فيها؟ " " نعم يا سيدي هذه أول مرة تشرفني فيها خيولكم " و .. " سوف نملأ فراغك وننتقم لك من أعدائك "، ولما كف خطيبُ القرون الوسطى بصوته الذي اخترق أعماقي وخدر وصلاتِ أعصابي تبينته : كان رجلاً متوسط الطول ، بديناً، جهمًا، ذا لحيةٍ شعثاء وقوراً للنهاية، وفوق جمله الوحيد قابعًا وفارسًا – واكتشفت أن جميع الرجال فوق الخيول كانوا ذوى لحى سوداء شعثاء، وتثير الرعب أكثر مما تثير الاحترام، وتأكد لي من طريقة التفافهم حول راكب الجمل أنه قائدهم – وعند ذلك صرخ ضخم الجثة وله رائحة ثقيلة " سوف نقوم بإجراء وقائي لتطهيرك أولاً "، وقبل أن تنتهي كلمته كانت الخيول قد قفزت داخلي، ومن نفس الأماكن التي دخلت منها السيارة من قبل، وصاح واحدٌ يرتدى سروالاً بالكاد يصل إلى ركبته ( ولكن ما لونه ؟ ) : " انطلقوا إلى المخ بأقصى سرعة "، وأمسك شابٌ تبدو لحيته كما لو أنها لم تنبت إلا منذ لحظة، بألجمة الخيول فصهلت صهيلاً سمعته أذناي صليلاً، ونبهه أحدهم، وكان نحيفاً كهيكل، ولكن صوته كان حادًا جدًا ( كيف يخرج هذا الصوت من قفص العصافير هذا ؟) : " انطلق إلى المنطقة الخلفية، ليست معنا خرائط، وعليك فقط أن تتبع آثار عجلات السيارة فسوف أرشدك أنا طوال الطريق " " تتبع أدق الآثار فوق رمال مخه "، صاح العصور الوسطى من فوق جمله الوحيد .. و .. أخذوا يقصون آثارَ رمالِ مخي، وبعد سويعات وصلت الخيولُ إلى المنطقة الجنوبية ولم تصادف أية عقبات معطلة، وأذهلني أن قائد الخيول كان يعرف بالضبط مكان الحفرة الصغيرة التي حفرها فأس إمام مسجد حارتي فتجنبت الخيول المأزق الذي حدث للسيارة وسمعتهم يتبادلون كلمات غامضة مبهمة وعلى مسافة تمتد أمتاراً توقفت الخيول خلف كثيب دهني هائل، وفى لمح البصر أمر ذو الجمل ثلاثة مساعدين فتحركوا ، كأنهم قد تلقوا إلهاماً سماويًا، وفى اقل من لمح البصر اخرج احدهم أصابعَ متوسطة الطول أشعلها آخر وبعدها كانت الخيول تطير مخلفة ورائها سهلاً منبسطًا خاليًا من أية كثبان معوقة حتى وصلت الخيول- أخيراً- إلى أقصى جنوب جنوب مخي وأخرج قصيرٌ مطواة وراح يتعامل مع قطاع عريض من نسيج تالف، ولم أشعر بأي ألم على الإطلاق، وتقافزت الخيول ثم تحلقت حول أحد آثار السيارة العميقة وحفرت، بحوافرها الصلبة، عند هذه النقطة ونزل واحد قاسى الملامح وأخرج لفافات الكتب التي أحتفظ بها في مركز معلوماتي وأرشيف ذاكرتي، وتبينتُ- على الفور- المصيرَ الذي ينتظرها فثرت وحاولتُ أن أشرحَ لهم أن هذه الكتب هي أنا عبد البر عبد الواحد وأن أي إتلاف أو إحراق لها هو إحراق لشخصي، إنها جزء منى ثم .. ولكن صوت العصور المتجهمة قطعني نصفين: " نحن نطهرك " ، وحين لم أجد بدا قلت " إذا اتركوا لى كتب الفلسفة التي أعشقها ولا أحد يمس بسوء أرسطو أو ابن رشد أو كانط ولا أحد يقترب من ابن حزم " أما المعلم الأول فقد صنعوا له بحرا وأغرقوه فيه وقالوا أته انتحر غرقاً لأنه لم يستطع أن يعرف أسباب المد والجزر، أما الشارح الأعظم فقد نفوه من قرطبة إلى إليسانه ونصبوه إماماً للملحدين في حين ظل ابن حزم يحارب – كدنكوشوت- طواحين الرياح، ولكن كانط – مثل سقراط – دسوا له السم وهو يتأمل السماء المرصعة بالنجوم من فوقه والقانون الخلقي بداخله, : "إذاً اتركوا لي مجموعتي النادرة من الروايات والمسرحيات والأشعار والقصص", ولكن هوميروس قبل أن يلقي بنظرة غضب هائلة كانوا قد أصابوا عينيه الجميلتين بالعمى, وأدخلوا شكسبير إلى مستشفى المجانين, و... دفنوا الآخرين في رماد أعمالهم المحترقة: "إذا فاتركوا لم مقتنياتي الفنية واتركوا لي شرائط الموسيقى .. وقلت لهم.. وقلت لهم.. ولكن شيئًا صدئًا طويلاً أنزل صوتي من عنان روحي مسحوقًا إلى أسفل حذائي, ومارس صوتُ الجمل تأثيرًا سحريًا هدأ من روعي: " كونوا عادلين, وأنتم أعدل من في الأرض ", و.. "لا تنس أننا سننتقم لك من أعدائك ", وعلى الفور تخلصت من شعور بالإحباط والخيبة وعاد لساني إلى فمي ولكنه لم يجرؤ على النطق, وبعدها رأيت الخيولَ تبتلع كل رجال الفلسفة والفن والشعر مثل قطع السكر, ولم يتبق إلا كتب علماء الدين وظننت أنها سوف تلقى مصيرًا مختلفًا, لكنهم عاملوا الأئمة العظام - أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد - نفسَ المعاملة العادلة, وأشعلوا الجحيمَ بداخلي, ولم يبق كتابٌ على الإطلاق, وبقيتُ خاليًا وصحراويًا وبدأ نباتُ الصبار يحتل مساحاتٍ شاسعةً من تربة مخي وقبل أن يحتل الصبارُ كلَ المساحة المتبقية أسرع أحدُهم وحمل حقيبة من القماش كانت كبيرةً وثقيلةً وهمس لي " هدية لك ! " فتحتها وكدت أجن فرحًا: كانت الحقيبة تحتوي كتبًا: كتبًا حقيقية؟ غير الكتب التي ذهبت, ولكن المدهش أنها كانت تحمل اسمًا واحدًا لمؤلف واحد فقط, ولما احترت أنحنى من فوق جمله بتواضع جم: " مؤلفاتي, ويحفظها عن ظهر قلب أبنائي هؤلاء وسوف تحفظها أنت بدورك", ورحت أقلب بشغف عظيم فيها ( أنها كتب على كل حال وأنا مهووس بالكتب), ولكنها لم تكن كتلك الكتب التي كنت أقرأها؛ فقد لفت انتباهي أن جميع أغلفتها سوداء سوداء, وأشار المؤلف – الوحيد - إلى راكبي الخيول وفي سرعة مذهلة كانت كتبه تُزرع، وفي ذات الأماكن التي كانت تقبع فيها كتبي الذاهبة وعندها صرخوا بفرح جنوني: " نجحت مهمتنا ", و... انطلقت الخيول, ليس إلى الخارج كما ظننت, ولكن إلى قلبي - حيث كانت تقيم شمس متربعةٌ فوق عرشه الحالم- وحيث الآن ( آه الآن ! ) لا شيء سوى الفراغ وراحوا بسرعة ومهارة, يملئون فجوات قلبي بكل ما كانوا يحملونه فوق خيولهم وخلف ظهورهم, وبعدها امتلأ قلبي بترسانة كاملة من كل أنواع السلاح, وتكدستُ بسبعة آلاف نوعٍ من الحقد الأسود على العالم كله, وهنا رأيت أنهم لم يتركوني ملقى بالعراء, ويسكنني الفراغ الشامل, كما فعل أصحاب السيارة, بل ملئوا فراغي تمامًا فصحت, بصوت تردد في الكون عاليًا: " اللعنة على الكل ", وعندها رأيت, وللمرة الأولى، أن العصور المتجهمة قد ابتسمت: "صرت مطهرًا تمامًا , وكواحدٍ منا، ويحق لك الآن حمل شارتنا وركوب خيولنا ", وأعطوني ميدالية حزينة اللون, على شكل جمجمة, وأركبوني مهرًا, وبأقصى سرعة انطلقت الخيول إلى مجهول لا أعرفه, ولكني تعلمت أن أحقد عليه من أعماقي, ومددت يدي وأخرجت من قلبي شيئًا يشبه الرشاش أو المسدس أو البندقية, أو أصبع بيانو عملاق أو جيتار يطلق أنغامًا قاتلة, و أمسكت اللجام بيميني ورفعت الشيء بيساري ولكن ليس إلى الأمام, هل يخيل لي, وإنما كانت الخيول تنطلق وراء الجمل الوحيد , إلى الخلف: إلى خلف الخلف! ولكن شيئًا ما ومن نفس المكان الذي كانت تتربع فيه شمس كان ينبعث ومن بقعة صغيرة جدًا , سنتيمترات قليلة, ضوء حنين بدأ ينتابني, رغم كل شيء, رغم سرقة شمس واختلاس كتبي, رغم انتهاكي وانقيادي, رغم تعليمات الكتب التي تخز كالإبر بعقلي, ورغم الحقد الذي أسكنوه بقلبي- كنت أهمس مناديًا شمس: " يا شمسيَ الدفيئة ", " يا ضوءَ عمري ", "يا نهار مستقبلي ", "تعالي, تعالي" , وخُيل لي أن صوتًا خافتًا, شاحبًا وهزيلاً, ومن بعيد جدًا, من أعماق سحيقة يأتيني – كان صوتًا يشبه صوتَ شمس ويقترب ببطءٍ هائلٍ مني.