عرف التاريخ البشري أساليب شتى لا إنسانية اعتمدها الحكام قديما للتخلّص من الأشخاص المعاقين، فمثلا في العصور ما قبل الميلاد وتحديدا في روما وإسبارطة كانت هناك نظرة دونيّة للأشخاص المعاقين والذين عايشوا في تلك الفترة الظلم والاضطهاد والقهر إلى درجة أنهم كانوا يُتركون للموت جوعا، كذلك في العصور الوسطى قامت الكنيسة بسجن وتعذيب المتخلفين عقليا لاعتقادها أنهم أشخاص ملعونون، ناهيك عن ما قامت به ألمانيا النازية تحت قيادة ” هتلر ” الذي شرع سنة 1940 في إبادة المعاقين ذهنيا معتمدا برنامج الإبادة المعروف باسم الموت الرحيم والذي لم يكن رحيما بالمرّة حيث ابتُكرت أساليب عدّة، تفننت من خلالها ألمانيا النازية في القتل سواءا بالرشّ بغازات قاتلة أو بالتجويع حتى الموت، ولم يتم استثناء الأطفال المولدون حديثا حينها والذين خُلقوا بإعاقات، تمّ أيضا التخلص منهم لتصبح الحصيلة لا تقل عن مقتل حوالي سبعين ألف انسان كانوا يعانون من إعاقات ذهنية في ألمانيا. أما اليوم ومع ظهور جائحة كورونا، تطالعنا الوقائع بتخلّي أمريكا وتحديدا كل من الولايات التالية : ألاباما وواشنطن وأريزونا، عن ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعانون من متلازمة داون والشلل الدماغي والتوحد وتركهم للموت في حال إصابتهم بفيروس كورونا وذلك بحرمانهم من الحصول على دعم التنفس الاصطناعي ومنحه في المقابل للأشخاص الطبيعيين. هذه الممارسات اللاإنسانية أعادت إلى أذهاننا ما حصل في التاريخ من انتهاك فاحش لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة بتعلّة أنهم ملعونون أو غير مفيدون أو لخلق عرق نقيّ يكون مؤهلا لقيادة العالم وهو تحديدا ما فعله “هتلر”. لئن اعتمدت أمريكا سياسة لا إنسانية ولا أخلاقية تقوم على التخلي على مواطنيها من ذوي الاحتياجات الخاصة، ففي أوروبا يبدو أن الوضع لا يختلف كثيرا وإنما لدى كبار السن هذه المرة، خاصة بعد تسجيل نسب كبيرة من الوفيات في صفوف نزلاء دور المسنين بسبب تفشّي فيروس كورونا في كل من فرنسا، إيطاليا وإسبانيا، حتى أنه تمّ العثور في إسبانيا على نزلاء بدور رعاية للمسنين موتى في أسرّتهم، فهل تعود الأسباب إلى ضعف مناعة الأشخاص المسنين فحسب ؟ أم يوجد أسباب أخرى وراء ذلك ؟ لو نتناول في بحثنا مثال فرنسا والتي تعتبر من أكثر الدول التي سجّلت نسبة وفيّات عالية لدى المسنين، نجد أسباب أخرى غير معلنة وراء ذلك، حيث تدفع عائلات كبار السنّ المقيمين بدور المسنين ما لا يقلّ عن 3 آلاف يورو في الشهر للنزيل الواحد، مقابل توفير الرعاية المنزلية والصحية والاستشفائية لكبار السن ّو تُدير دور الرعاية هذه مجموعة شركات كبرى ذات أغراض نفعيّة، نذكر من بينها شركتيْ “كوريان” و”أوربيا” الفرنسيتين، إلا أن شهادات البعض من أبناء المسنين أفادت أن هذه الشركات لا توفر الرعاية الصحية والوقائية اللازمة مقابل حصولها على مبالغ باهظة، اذ بلغت عائدات شركة “كوريان” لسنة 2017 ال 163 مليون يورو، كذلك بالنسبة لشركة “أوربيا” والتي بلغت عائداتها لنفس السنة 89 مليون يورو، هذا وتحدّث أبناء هؤلاء المسنين عن المعاملة السيئة التي تُمارس على النزلاء. في سياق متصل، حذر طاقم التمريض في البعض من دور المسنين الفرنسية وتحديدا يوم 21 مارس 2020 من تداعيات الافتقار للتدابير الصحية المناسبة على إثر إصابة البعض من النزلاء بفيروس كورونا ووفاتهم فيما بعد، وهو ما دفع بالعاملين هناك إلى الإعلان أن عدد الموتى في هذه الدور قد يصل إلى 100 ألف إذا لم يتم اتخاذ التدابير الصحية اللازمة. كشفت هذه الأزمة وبشكل جليّ عن هيمنة متعددة الأبعاد للنظام الرأسمالي القائم على مفهوم “الصلاحية” وهو مصطلح قائم على الانتقاء الاجتماعي، الذي يُميّز بين “الصالح” و “الغير صالح”، فالمواطن “الصالح” حسب النظام الرأسمالي هو المواطن المنتج والذي من المرجح أنه يخدم الاقتصاد الوطني، أما المواطن “الغير الصالح” فهو الشخص الغير المنتج والذي لا جدوى ترجى منه، و تعتبر هذه التفرقة أو العنصرية التي تميّز بين مواطن “صالح” وآخر “غير صالح” تعود في سياق تاريخي إلى تكبّر الرجل المثقف الأبيض الغربي وتعيدنا إلى ما قامت به ألمانيا النازية من شرعنة لمفهوم “التنظيف العرقي”، من أجل تحسين النسل، لذلك فمفهوم “الصلاحية” هو مفهوم شامل يتعلق بالأساس باستبعاد الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السنّ وكذلك الأشخاص الغير منتجين. كذلك فإن تاريخ النظام الرأسمالي للدولة لا ينفصل عن تاريخ “الداروينية الاجتماعية” وهي أيديولوجيا تدّعي أنها تطلق على المجتمع القانون الطبيعي لاختيار “الأنسب” أي من له الحق في الحياة. ختاما، إن الأزمات عبر التاريخ أو في الحقبة المعاصرة لا تكشف عن نقاط ضعف الأنظمة في مدى إحاطتها بالطبقات الهشة في المجتمع بل تكشف عن أكاذيبها والحجج الواهية التي تستند إليها في عدم توفير الرعاية الصحية اللازمة للمهمشين مقابل حماية رؤوس الأموال لأولوياتهم الاقتصادية. شيراز بوزيد