افتتحت دورة المعرض العام الرابعة والثلاثين مساء يوم 29 ابريل 2012 ، وهو الحدث الذي ارتقبه الفنانون ومحبي الفن بشغف في هذه الدورة بالذات، ليتعرفوا علي ما طرأ من تغيرات في مجال الفنون البصرية المصرية، شكلا وموضوعا، بعد ثورة 25 يناير 2011، ولاسيما بعد تصاعد الآمال في أن يكون مناخ التغيير قد طال الحركة الفنية لدينا. فماذا أخبرنا المعرض العام الحالي؟.... للأسف وجدت وآخرون معي أن الحال محبط ويظل علي ما هو عليه، وينطبق عليه المثل العامي القائل ( ثم عادت ريما إلي عادتها القديمة)، وأعرض فيما يلي عدد من الملاحظات، أعرضها في تعليقات تلغرافية حتى لا أثقل علي القارئ بفقرات إنشائية طويلة. واضح أن القوميسير الفنان طارق الكومي بذل مجهودا شاقا ومضنيا نشكره عليه، لكن يبدو أنه، في نفس الوقت، واجه تحديات صعبة وضغوطا محرجة متنوعة، فوقع في الفخاخ التي كنا نأمل أن تختفي في العهد الجديد. كما تعودنا من قبل، يتم الافتتاح ولا يصدر الكتالوج المسجل للحدث، ويبدو أن تلك الظاهرة أصبحت عرفا وعادة، نأمل تلافيها مستقبلا، وقد وُعِدْنَا بصدور كتالوج المعرض خلال الأيام القادمة، وأرجو أن يصدق الوعد. الشعور العام الذي خرجت به، هو أن صالون الشباب الذي أقيم منذ عدة أشهر كان أكثر حيوية وأصدق تعبيرا من المعرض العام الحالي الذي يعطي الانطباع بالمحافظة علي أساليب القرن الماضي والبعد عن المغامرة والتجريب، لدرجة التجمد بما لا يتفق مع روح العصر الذي نعيشه شكلا وموضوعا. واضح أن لجنة تحكيم الأعمال المشاركة لم تطبق قواعد عادلة تسري علي الجميع، فكثير من الفنانين ذوي الأسماء اللامعة والتاريخ الحافل ضربوا عرض الحائط بكل القواعد المفروض احترامها، وتلك سقطة ما كانت لتحدث في المناخ الديمقراطي الذي ننشده. عرضت الأعمال بقاعدة الرص المتجاور بشكل مكدس أفتقد التنسيق المريح للمنطق والبصر، الأمر الذي جعلني أترحم علي الفنان الراحل أحمد فؤاد سليم الذي كان يدس أنفه في كل معرض يقام ويُغْضبُ الآخرين بدكتاتوريته، لكنه كان يصنع من الفسيخ شربات ويعطي المعارض رونقا وجاذبية، افتقدناها في المعرض العام الحالي، ولعل ذلك الأمر يدعو قطاع الفنون التشكيلية التفكير جديا في تدريب كوادر من منظمي المعارض تدريبا عاليا، ليكونوا علي دراية بمثل تلك الأمور. لاحظت أن المشاركين من الفنانين الأساتذة بأكاديميات الفنون، وكذلك أصحاب المناصب بالأجهزة الرسمية بالدولة، حجزوا لأنفسهم أماكن الصدارة في العرض، بغض النظر عن مستوي ما قدموه من أعمال، وكأن الهدف من المعرض العام هو تأكيد مكانتهم بغض النظر عما قدموه من أعمال. بعض الأعمال العالية المستوي، والتي كان من الواجب إبرازها، وضعت في أماكن معتمة، أو في أركان قصية من قصر الفنون، بل علق بعضها علي جدران بير السلم، مما لا يليق، ولا يتفق مع مستواها. القليل من الأعمال المعروضة ضعيف المستوي للغاية، لم يكن من اللائق قبولها، وهنا يظهر عامل المجاملة الشخصية التي كان من الواجب اختفائه، وحتى أكون صريحا ودقيقا، فعل سبيل المثال هناك لوحتان عرضتا في قاعة نهضة مصر(متحف مختار) أحدهما بالفحم لمنظر إناء به ورود، وتحتها لوحة بورتريه بالقلم لأحد المشاركات، ومستوي اللوحتان ضعيف للغاية في مقدور أي طفل بالمستوي الابتدائي ممن يهوون الرسم انجاز أفضل منهما. واضح أن السيادة في المعرض لا زالت للوحة الحائط والوسائط التقليدية، أما التعبير بالأساليب والوسائط الفنية الحديثة فقد كان محدودا للغاية، منها فيلم فيديو وحيد ظهر في يوم الافتتاح ثم أختفي بعد ذلك في الأيام التالية، ولا أدري لماذا؟ أما الأعمال التركيبية فهي لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ومنها العمل الذي قدمه الفنان حاتم شافعي. عرض عدد لا بأس به من أعمال النحت، يتبع معظمها النهج التقليدي من حيث الأسلوب والخامة، وغالبيتها ذات أحجام صغيرة ومتوسطة، والعمل الوحيد الذي وجدته يساير الاتجاهات التركيبية المعاصرة هو ما قدمه الفنان محمود المنيسي بمكونات غير تقليدية، وقد جاء العمل حاملا نفحة مصرية فرعونية لا تخفي عن المشاهد والعمل الآخر الجميل الذي نصادفه خارج قصر الفنون، ويتمثل في جمل كبير الحجم، مكون من قطع وأسياخ الحديد الملحوم، فهو يشد الانتباه، ويذكرنا بأن هذا الفنان يسير علي الدرب الذي بدأه الفنان القدير صلاح عبد الكريم في ستينيات القرن العشرين ( أي منذ أكثر من خمسون عاما). ضمن أعمال النحت المعروضة جمل آخر للفنان نيثان دوس قُطّعَتْ أوصاله عن قصد، وبقي منها الرأس والأربع أقدام فقط، نحتت من حجر الجرانيت الوردي، ولكنها وضعت بشكل مهمل وعشوائي خارج القصر بشكل لا يتفق مع البراعة التي نفذ بها العمل، فلم يلتفت إليه إلا القلة القليلة من الزوار. وقبل أن اترك الحديث عن النحت لا يفوتني الإشارة إلي ما قدمته الفنانة نيفين فرغلي وقد جسدت شهيدا مطروح أرضا كونته من شرائح معدنية، ووضعته في تجهيز داخل قاعة مظلمة تحلق في سقفها طيور تحوم فوق الجثمان وتنعكس ظلالها علي الجدران، ومع دوران الطيور ينطلق شعاع أحمر يتحرك ملقيا بضوئه علي جسد الشهيد، ويرمز التجهيز بمكوناته إلي صعود روحه الطاهرة إلي الأعالي، ولقد كان هذا العمل هو الوحيد من بين المعروضات الذي ينتمي إلي التجهيزات المتحركة ( الكنيتك آرت )، وكم كنت أود لو أوجدت الفنانة وسيلة تتحرك بدلا من المحرك الميكانيكي الكهربائي الذي يصدر ضوضاء عالية تقلل من الجلال والمهابة التي يستحقهما المشهد، الصمت فيه يكون أبلغ، أو علي الأقل بث موسيقي مناسبة هادئة وحزينة، مستوحاة مما تردد في ميدان التحرير من أغان. تمثال آخر لفت الانتباه، وهو ما قدمه الفنان مختار النادي، وفيه الكثير من الملامح التي استقاها من تمثال نهضة مصر لمثالنا العظيم محمود مختار، وفيه تقف الفلاحة المصرية ( مصر) تعترض وتدفع بيدها الممدودة شيء لا ترضي عنه وكأنها تقول " كفاية"، وكنت أفضل لو أعطي الفنان بعض الحيوية والحركة ليدها الممدودة المتصلبة، وجعلها تبدو مرنة تعترض برشاقة ووقار فتستميل تعاطف المشاهد معها، ويرفع من القيمة الفنية للعمل. لفت انتباهي لوحة صغيرة الحجم للفنان مجدي عبد الغفار استخدم فيها أسلوب طي الورق لعمل تكوين تجريدي رقيق و دقيق، والعمل ممتاز ومتفرد في أسلوبه، ولكن موقعه في وسط زحمة الأعمال المكدسة الأخرى طغت عليه جعلته يتوه وسطها ولم تلتفت الأنظار لأسلوبه المميز. من الأعمال المعاصرة القليلة ما قدمه الفنان سعيد سيد حسين، والعمل يتكون من مسطح مثقوب بشكل منتظم هندسيا، طولا وعرضا، ثم يدخل الفنان في بعض تلك الثقوب قوائم خشبية ملونة بعضها عال عن السطح والبعض الآخر غائر بدرجات متفاوتة، فيتمثل لنا العمل مجسما، ويمكن إدراج ذلك العمل تحت مجموعة الأعمال الفنية التي يستطيع الفنان - وفي بعض الأحيان جمهور المشاهدين - تبديل وضعية القوائم الخشبية فيتغير شكل العمل وتتواجد بذلك أشكالا مختلف ومتعددة مع كل تحريك لمكونات اللوحة. ومن الجدير بالذكر أن الأعمال المميزة والمعبرة عن العصر الذي نعيشه قليلة، وأبرزها عملان الأول ما قدمه الفنان وائل درويش وفيه تجهيز في الفراغ صور بأسلوب رمزي حديث مصابي الثورة وقد رقدوا علي أسرة مصفوفة يعالجون في مستشفي نتيجة إصابتهم برصاص وخرطوش اخترق أجسادهم. ويلاحظ أن طريقة معالجته للموضوع تنم عن فهم ووعي بالأساليب الحداثية المعاصرة والتي تصل إلي وعي المشاهد، وتحرك فكره، وتدفعه للتفاعل مع الحدث الذي يعبر عنه الفنان. أما العمل الثاني المميز فهو للفنان فارس أحمد فارس وهو عبارة عن تجهيز وضع معلقا ومستندا علي الحائط يصور بشكل رمزي شهداء ومصابي ثورة يناير2011 ، والجديد في هذا العمل استخدام الفنان للصفائح والعلب المعدنية كخامة لتجسيد العمل، فجعل العمل الفني أكثر ارتباطا بالواقع المعاش، وخرج به من الأطر التقليدية المحافظة التي كانت تصلح للصالونات الخاصة والمغلقة. كم سبق وأن ذكرت فإن اللوحات المعلقة عل الحوائط ما زالت لها مكانتها في الحركة الفنية المصرية، ولم تتطور كثيرا، بل أن بعضها جاء متشابها - و ربما متأثرا بأعمال لآخرين، فعلي سبيل المثال عرض الفنان علي سعيد لوحة ثلاثية المقاطع تصور عنف جماعة مسلحة ضد جماعة من المستضعفين، ومن الوهلة الأولي استحضرت في ذهني لوحة للعظيم بيكاسو صور فيها أهوال الحرب الكورية، وأدهشني مدي التشابه الكبير بين اللوحتين سواء في الخطوط أو المعالجة التكعيبية للشخوص داخل اللوحة، ولكن ذلك لا يمنع من أننا أمام فنان لديه من القدرات والتقنية التي تمكنه من أن يطر لنفسه أسلوبا يخصه. بالتأكيد هناك أعمال أخري لفنانين لهم مكانتهم توضح اقتدارهم وتميزهم واستمرارهم في تقديم أعمال علي ذات المستوي العال الذي اشتهروا به، ومن بينهم جاذبية سري، رمزي مصطفي، عمر النجدي، زينب السجيني، صالح رضا، عصمت داوستاشي، عبد السلام عيد، فاروق وهبة، محمد شاكر، رضا عبد السلام، عبد المحسن عبد الوهاب ....وغيرهم ، ولكن بخلاف هؤلاء الفنانين فهناك آخرون من المعروفين محليا ودوليا، من أجيال الكبار و متوسطي السن، أحجموا عن المشاركة في المعرض العام بعضهم تعففا، أو منعا للحرج، أو لتيقنهم أن المشاركة لن تعود عليهم بأية إضافة أو فائدة معنوية كانت أو مادية. علي أي الأحوال، فالمعرض العام وتلك من خصائصه، هو مهرجان كبير تتنوع فيه الاتجاهات والأساليب ويضم الغث والسمين، ويعكس في ذات الوقت الحالة العصيبة الراهنة التي يمر بها مجتمعنا، وهو ما استشعرته بالفعل، ويمكن تلخيصه في عدة كلمات ( مرحلة انتقالية - عدم وضوح رؤية - تخبط وعشوائية - استئثار بالسلطة - تمسك بالماضي - مقاومة التغيير - عدم استقرار - محاولات غير ناجحة للتملص من قيود الماضي) وأخيرا الشكر كل الشكر للقوميسير، وأقول له : كان الله في عونك، فلم يكن في الإمكان أبدع مما كان، آخذين في حسباننا الظروف المالية الضاغطة، والعادات والعلاقات الاجتماعية المتشابكة، والتعقيدات الإدارية المستفحلة، والتي في المجموع تشكل عقبة أما أي فرد يتصدي لتنظيم معرض قومي عام. وكل عام وانتم طيبون،،،