شموس نيوز – خاص عندما يفتح المسرح القومي أبوابه لموسم العروض المسرحية؛ فإننا نسعى إلى أن نكون ضمن جمهور المشاهدين؛ وبخاصة حين يكون العرض لمسرحية من نتاج إبداع الكاتب المسرحي ورئيس أكاديمية الفنون الأسبق أ.د.سامح مهران؛ صاحب التجربة العريضة في عالم الدراما المسرحية؛ وصاحب درجة الدكتوراه في الدراما عن “مفهوم الحرب في المسرح ” بتقدير امتياز . يقدم لنا وجبة دسمة مما يطلق عليه فقهاء المسرح اسم “الكوميديا السوداء”؛ والتي تعتمد على كسر”التابوهات” أو الخوض في تقليب “المسكوت عنه” وبخاصة داخل المجتمعات الشرقية، من قصص الحب والعشق والعنوسة والعنف والخيانة، والبحث عن الثروة والنفوذ، وهي كوميديا معقدة ليس من السهل تناولها على المسرح بالشكل الذي يفي بذوق المتفرج المصري أو الشرقي بوجهٍ عام، إلا إذا تصدى لها “مخرج” متمكِّن .. يجعل المشاهد يضحك حد البكاء ! ونجح في هذا إلى حدٍ كبيرالمخرج الشاب احمد رجب .. وسعادتي كانت في المكسب الكبير من العرض؛ هو مجموعة الشباب الذين استعان بهم في تابلوهات برقصات تعبيرية رائعة؛ ويُعد هؤلاء نواة لنهضة مسرحية كبرى؛ نأمل تحقيقها على مدى السنوات القادمة؛ لإيجاد شريحة جديدة تنشر الذائقة الجمالية التي نبحث عنها بين الجيل الصاعد؛ وسط خضم الحروب والهجمات التي نعايشها حاليًا على الفن والفنانين، ولعل اختيارالعنوان : “المعجنة” جاء ترجمة لما يعانيه المجتمع المصري الآن من اختلاط المفاهيم عن التراث والمعتقدات الدينية والسياسية. بعد هذه المقدمة الضرورية كتوطئة للحديث عن المسرحية؛نستعرض معا شخصيات العائلة التي جسدها الممثلون باقتدار ومهارة شديدة حيث يخبىء كل فردٍ فيها فتاة أحلامه، أو فتى أحلامهن “تحت السرير”؛ خوفًا من الأب الباطش “عبده/ناصر شاهين”؛ الذي يحرِّم هذه العلاقات على ولده “مفتاح/مروان عزب” بينه وبين فتاته ” هدية/إيمان رجائي” وعلى ابنته “حكاية/أسماء عمرو”، مع “سمير/محمد فاروق” بعد خروج الأم “انشراح /هايدي عبد الخالق “مطرودة من المنزل لأسباب العجز الاقتصادي أو أية أسباب أخرى من أسباب العجز المكذوب أو الحقيقي، ليخطف الأب حبيبة ابنه ويضمها في حوزته بغرفته العلوية؛ وحفُل هذا المقطع من المسرحية بالكثير من الألفاظ المفتوحة المعنى والدلالات في العُرف الشعبي عن الجنس ومشهياته؛ والتدليل على أن “القدرة” لاتأتي إلا عن طريق التعاطي الدوائي وليست النابعة من الذات؛ وهذا إسقاط على عجز المجتمع وسقوطه واندماجه في “المعجنة “؛ لافكاك من الانفصال عنها؛ بعيدًا عن الاعتماد على قدراته الذاتية؛ والاستعانة ربما بقوى خارجية تساعدة على تلك القدرة أو المقدرة المرجوَّة ! وفي وجود الابنة الصغيرة “تحفة/مريم إسلام”، التي قد يكون وجودها كمعادل موضوعي للمأمول تحقيقه في المستقبل، وكان استخدامها كفتاة “الباتيناج” على المسرح، ربما لرغبة “المخرج” في وجود الحركة الدائمة على المسرح لكسر الجمود والتفرق والتشرذم بين الجميع؛ التى يسعي كل واحد منهم إلى تحقيق ذاته دون النظر إلى صالح بقية الأسرة، واستعجال التخلص من حياة “الأب” طمعا في الثروة التي يظنون أنه يخبئها في مكانٍ ما ، ويريد كل منهم الاستئثار بها. ويموت الأب في مشهد درامي بعد استجابة الأقدار للدعاء عليه من تحفة برع في تجسيده بشكل مبهر “عبده/ناصر شاهين” ؛ ويهرع أفراد الأسرة إليه لا لإنقاذه؛ ولكن لاستجوابه عن مكان الثروة المخبوءة، ولكنهم لايحصلون على إجابة شافية.. ويخرج الأب من الحياة في محفة على الأكتاف في مشهد جنائزي؛ مع لحن خلفي حزين يقول “أبونا ماااات”؛ وهو يعود بأسماعنا إلى اللحن الجنائزي الذي أنشدته الجماهيرمع الشيخ إمام “جيفارا مات” .. ولكن أنشدته المجاميع هنا على المسرح على تيمة وإيقاع :” الوداع ياجمال .. ياحبيب الملايين”! وليتبادل الجميع عبارات تفيد بالتخلص من فترة الحكم الجبار من الأب المقتِّر برغم ثرائه؛ والتركة المثقلة بالهموم والفقر والتخلف أثناء حياته .. وقد يؤخذ على هذا من البعض أنه ظلم بيِّن لفترة من أنصع الفترات في تاريخ مصر. وبعد موته .. تتوحد الأسرة ربما لأول مرة للاتفاق على ضرورة وجود شيخ لإطلاق البخور وقراءة التعاويذ بالمنزل بحسب المعتقد التراثي في العقول ليدلهم على مكان الكنز المخبوء الذي يعتقدون بضرورة وجوده في مكانٍ ما بين أركان المنزل؛ أو بين طيات ملابسه الرثة ! ويأتي “الشيخ الأعمى” الذي يقوم بالتحرش بالفتيات دلالة على سوء النوايا وارتداء عباءة الورع والتقوى ليطلب مايسمَّى قطعة من “أثر” ملابس الفقيد التي تحمل أكبرزخم من رائحته، لتلقي بها يدٌ طاهرة في “طست الماء” ويقع الاختيارعلى “تحفة” لتقوم بالمهمة لتكون المفاجأة أن تستجيب الأقدار للمرة الثانية لدعاء الطفلة الصغيرة، لتنطلق الشرارة التي تقوم بإحضار”روح الأب/عبده” ولكن هذه المرة في صورة “الفرعون” للدلالة على استمرار القهر والظلم في المجتمع منذ عهد الفراعين ومعه حشد من الزبانية بلبس الحرب والحراب والسياط في أيديهم .. ليسقط الجميع مغشيًا عليهم من هول المفاجأة، وتنكشف حيلة الشيخ الذي تظاهربالعمى وهو المبصر الطامع في الحصول على جزء كبيرمن الثروة المزعومة؛ ويشير أفراد الأسرة إلى شدة مطابقة السحنة والصوت بين الفرعون والأب، ليقول لهم : أنا الفرعون الذي تقولون عنه في أحاديثكم وأمثالكم المتخاذلة : يافرعون .. مين فرعنك؟ .. قال : مالقيتش حدْ يردِّني”؛ وهي مقولة قام الحكام بالدسيسة بها في أذهانكم لإضعاف مقاومتكم للظلم والقهر والفقر والمرض . وليفاجئهم بالحقيقة التي يجب أن يعيها الجميع : أن “الكنز” الذي تبحثون عنه موجود في ذواتكم وأعماقكم؛ فقط .. اجتهدوا في إخراجه بالحب النقي بينكم؛ والعمل الجاد والتكاتف لتغييرالواقع المريرالذي ترفضونه وأنتم أحد أهم أسبابه .. فالكنزهو الإنسان المصري بكل مالديه من قدرة عظيمة تشهد عليها سطور كتاب التاريخ؛ وأن الاستثمار في قدرات البشر؛ هو أنقى وأعظم الاستثمارات في الوجود؛ ولن يغيثكم من السقوط في هوة الرجعية والتخلف؛ والعودة إلى السكنى في أعماق مقبرة التاريخ؛ إلا التمسك بالأمن كدرع واقٍ لما تأملون فيه من انطلاق نحو فضاءات العلم والمعرفة . لا يفوتني الإشادة بتصميم الديكور والأزياء والإضاءة الموحية للفنان /صبحي السيد؛ وحرصه على إظهار خلفيات المسرح بالنقوش الفرعونية وأهمها وجود “عين حورس” في أعلى أعماق الديكور؛ وهي التى تنبىء عن العناية الإلهية التي تحرس الجميع ؛ وكذا أشعار/طارق علي وألحان وتوزيع موسيقا محمد حمدي رءوف، وغناء علي الحجار المحبب للنفس. هي بحق وجبة مسرحية دسمة منبنية على نص مسرحي محبوك وهادف صيغ بحنكة وحرفية بالغة نهنئ المسرح القومي ممثلا في مديره الفنان يوسف إسماعيل على أيقونته الافتتاحية المهداة إلى جمهور لاهث وراء نسمة هواء عطرة وسط أدخنة سوداء تجثم على أنفاس الفن الجيد المحترم وتخنقه وتمنع عن رئتنا الاكسجين الضروري لاستمرار الحياة .. ليت الجميع يحرص على مشاهدتها بكل العمق والتأمل في دلالاتها؛ واكتساب الجديد من المتعة العقلية لتنشيط الذائقة الجمالية في نفوسنا؛ والتي اشتاقت للقضاء على كل مظاهر القبح؛ للتخلص من الدوران اللانهائي داخل التروس التي لاترحم ل “المعجنة” ؛ تحقيقًا لحلم الخروج !!