لا ينكر أحد أن الثورة المصرية كانت ثورة شعب كامل، شعب أراد أن يتحرر من خوفه ومن أغلال كبَّلته وكادت تحطم إرادته؛ لولا أن الله أحاطها بعنايته، شعب صبر على كثير من الذل والهوان، دعاه أبناؤه من الشاب لأن يخرج.. يُحطّم هذه القيود، يتمرّد على السجان وعلى الحرس وعلى كل شيء.. فخرج الشعب، خرج ولم يعد لزنزانته بعدها أبدا. كانت الفرحة عارمة، والإحساس بالأمل كبير، والتطلع إلى غد أفضل أمر ظهر على وجوه المصريين، ثم... ثم ماذا؟ ثم ما نحن فيه الآن! إنني أصف ما حدث في مصر بمجموعة من البشر كانوا يقبعون في سجن كبير على جزيرة نائية، يحيطها ماء الفساد والقمع من كل جانب، دخل هذا السجن فتيان أشداء، سجن النظام أجسادهم ولكنه لم يسجن أفكارهم، ولم يسجن آمالهم، فأخذوا يحفّزون السجناء على التمرّد، وباتوا يلهبون الحماس، تطلّع الرجال والشباب والعجائز لرؤية وضح النهار لأول مرة.. تحرك الشباب، هجموا على السجان، أسقطوه أرضا، شعر الناس أنهم يمكنهم المقاومة، فقاوموا وتصارعوا، قاتلوا وقتلوا.. استطاعوا أن يحطموا كل الأبواب، وتمكنوا من تقييد كل الأشرار، وتحطيم كل الأسوار.. ثم فجأة وجدوا أنفسهم أمام البحر، تحت شمس النهار، ولا يوجد سوى سفينة واحدة، يركبون عليها جميعا... وهنا بدأت المشكلة تلوح في الأفق.. الكل اتفق على ضرورة الثورة، الكل شارك فيها، لا أحد ضدها، حتى من كانوا يتعاطفون مع السجان الذي عاشرهم سنين، ليسوا ضد الخروج من السجن الكبير، ولكن الخلاف بدأ يدب بين الأحرار.. ويبقى السؤال: لماذا؟ لا أدعي أنني أملك إجابة قاطعة، بل وأدعوكم جميعا للتفكير معي، لماذا اتفق الجميع على الثورة واختلفوا حين ركبوا السفينة.. لأي اتجاه تسير؟ هذا يريدها أن تتحرك لليمين وهذا يريدها لليسار، وهذا يأبى أن يتحرك إلا بعد أن يرى الظالمين خلفه في عذابهم يصطلون. في تقديري أن المشكلة بدأت حين قام فئة من الشباب الثائر، أقول فئة وليس الجميع، عندما وصلوا للسفينة بمحاولة فرض آرائهم باعتبارهم من أوئل من دعوا للثورة، وأنهم هم من حرروا أفكار السجناء العجائز وأنه لولاهم لماتوا في سجنهم وما لمحوا شمس الحرية أبدا.. بدأت هذه الفئة في تخوين من يخالفها في الرأي بأنهم كانوا يخونون السجناء ويصفونهم بالعمالة والجهل، بدأت هذه الفئة ترتدي ثوب السجان الجديد لإرادة هؤلاء الأحرار.. وأصبح الناس على شاطئ البحر مجموعات متفرقة، كل واحد منهم يبحث عن سبيل.. إن أول سهم أصاب هذه الثورة المجيدة هو هذه الدكتاتورية التي لبست ثوب الإحسان! وكأن لسان حال المواطن العادي يقول لكل واحد من هؤلاء أخي لقد ساعدتني على أن أخرج من سجن رجل ظالم فلا تضعني في زنزانة إحسانك، أخي لا تخوّنني، ولا تضع غيري في قائمة عار وتقول له من لم يتحرك معنا ويضرب الحرس ليس له مكان في السفينة! أرجوك لا تجعلني ضدك وضد تسلطك ثم تتهمني أنني ضد كل الناس وضد الثورة لمجرد أنني اختلفت معك.. أرجوك لا تجلدني بسياط التخوين بعد أن تم جلدي سنينا بسياط القمع والبطش. الناس اتفقوا على أن يخرجوا من السجون ولكنهم تنافروا حين وجدوا سجونا أخرى للتخوين وازدراء الرأي الآخر وعدم احترام للكبار أصحاب الرأي بينهم.. ولكن كل هذا لا يجعلنا ننكر أن للشباب حقوقا شرعية في هذه السفينة، ولكن بأصولها وبمحبة الناس الذين رفعوهم على الأعناق وهم خارجون من سجونهم، وليس اعتراف الأجيال السابقة بأنه لولا هذا الجيل ما خرجوا إعلانا منهم أنهم يسلمون حريتهم وإرادتهم مرة ثانية لمن ساعدهم على الحصول عليها لأول مرة. لقد توقفت السفينة طويلا ونحن مختلفون، وما زال أصحاب الصوت العالي، بإعلامهم الرديء الفاشل، ينتظرون رؤية جلاديهم معلقين على المشانق حتى يبرحوا أماكنهم! وكأن مصر كلها باتت في المحكمة، للدرجة التي أصبحنا نخشى أنه حتى تحصل هذه الفئة على ما يريح نفوسها ستخرج مصر من قاعة المحكمة لتجد اللصوص والبلطجية وقد سرقوا بيتها.. تعالوا ننظر لمصر من الجانب الآخر البلطجة أصبحت لغة الشارع، والفوضى تعم أرجاء البلاد. ليّ ذراع الحكومة والجيش أصبح هو الوسيلة السهلة لتحقيق المطالب المشروعة وغير المشروعة! ويبدو أن الناس ظنوا أن من يحتل ميدان التحرير هو الذي يملك القرار، فعمدوا في المحافظات الأخرى إلى خلق ميدان تحرير في كل محافظة؛ لكي تسمعهم الحكومة ويستجيب القادة العسكريون لمطالبهم.. فها هم أهل قنا اختاروا من ميدان المحافظة وخط السكة الحديد ميدان تحريرهم! وهكذا سيفعل أهل الدقهلية قريبا.. وبالأمس قطع بدو سيناء الطريق إلى شرم الشيخ للإفراج عن المساجين، ليس مهما إن كانوا سجنوا في قضايا مخدرات أو تهريب أو قتل أو قضايا سياسية.. الكل يخرج، وإلا قطعنا الطريق وأقمنا ميدان تحريرنا ها هنا. وبهذه الطريقة -وبصرف النظر عن مشروعية المطالب- سنجد أنفسنا أمام 27 ميدان تحرير بعدد محافظات مصر، يضغطون على الحكومة والمجلس العسكري، وستستمر الفوضى في البلاد، وتخسر هذه الثورة أهم مطالبها “الديمقراطية الحقة” التي تعنى بالحقوق والواجبات ونشر الاستقرار الحقيقي والحرية المسئولة وليس الفوضى. إن احترام القانون وسيادة الدولة أمر لا غنى عنه إذا أردنا أن نعيش في دولة وليس غابة يفرض فيها القوي سيطرته.. وربما حكومة الدكتور شرف تأخرت في تعاملها مع مشكلة قنا، مما خلق نوعا من الضغط عليها، وأظن أن هذه الحكومة -التي يثق أغلب شعبنا في وطنيتها وحسن قصدها في السعي للنهوض بمصر من كبوتها- في حاجة لمراجعة سياستها في التعامل مع مثل هذه المواقف بسرعة وبجدية وحسم. أما الدور الأكبر فأغلب ظني أنه علينا نحن، فمن أجل أن نستحق هذا الوطن الحر الذي دفع الشهداء أرواحهم والجرحى أبدانهم ومستقبلهم، من أجل ألا نضيع هذه التضحيات آن الأوان لأن تتوحد قلوبنا وعقولنا على هدف واحد وحلم مشترك، آن الأوان لأن نكفّ عن تخوين بعضنا بعضا، وأن نمزّق كل قوائم العار التي أقصت مصريين بيننا من ركوب السفينة، أن نحترم آراء الغير ولو كانت تخالفنا، ألا نشمت ولو في أعدى أعدائنا، وأن نكتفي بأن عدل الله قائم وسيقتص من كل ظالم لنلتفت بعدها لوطن يحتاج منا الكثير والكثير. إننا إذا نظرنا لمصر من ناحية ما تحقق من هدم لفساد ووقوف أمام الباطل، والتضحيات من أجل الوطن وحرية أهله، فإن الصورة تبدو عظيمة ومتماسكة وقوية، وتتطلع إلى غد مشرق.. أما إذا نظرنا للسفينة التي لم تتحرك بعد، ويختلف أصحابها على توجيهها، وتسلط فئة على مقدراتها، والفوضى التي تشيع بين أهلها، وعدم تقدير الكثيرين من أصحاب المصالح لما يواجه هذا البلد من تحديات.. بمعنى أننا إذا نظرنا لمصر “من الناحية التانية”، ربما اكتشفنا أننا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا، وإرساء الكثير من القواعد بيننا حتى تعبر سفينة مصر من هذا البحر اللُّجيّ الذي ينتظرها. فالثورة قامت لهدم السجن والعبور لطريق الحرية لا لهدم السجن والسفينة