رغم الإجماع شبه العام بين الفاعلين السياسيين والقوى والحركات السياسية على رفض خارطة الطريق التي وضعها المجلس الأعلى للقوات المسحلة للمرحلة الانتقالية، تلك الخارطة التي تبدأ بتعديل أكثر المواد حاجة للتعديل في الدستور الحالي، ثم استفتاء الشعب عليها، ثم – على فرض موافقة الشعب عليها – إجراء انتخابات برلمانية – لا نعرف لمجلس شعب فقط أم شعب وشورى - ثم انتخاب رئيسا للجمهورية، ثم يقوم البرلمان – بموجب مادة أضيفت إلى التعديلات التي ستطرح للاستفتاء – في غضون ستة أشهر بتشكيل لجنة موسعة لإعداد دستور جديد ثم استفتاء الشعب عليه، وأخيرا – وهو ما لم يشر إليه أحد – سنجد أنفسنا في حاجة إلى انتخابات جديدة برلمانية ورئاسية وفقا للدستور الجديد للأسباب التي سأذكرها في موضعها، .... وأعود لأقول أنه رغم الإجماع العام على رفض خارطة الطريق السابقة، الذي لا أعرف فصيلا خرج عليه غير جماعة الإخوان المسلمين، تابع المجلس العسكري برنامجه للمرحلة الانتقالية، فشكل لجنة عدلت بعض مواد الدستور المبطل حاليا، ودعت الناخبين إلى الاستفتاء عليه يوم السبت القادم الموافق 19 مارس، لكي يستكمل المجلس باقي الخطوات في خارطة الطريق التي أعدها منفردا، أو ربما بالتنسيق مع أطراف لا نعلمها أو لا نعلم إلا بعضها. ثمة نقائص كثيرة تشوب هذا المسار الذي ينتهجه المجلس العكسري ويصرّ على مواصلة السير فيه، أو لنسميها مزالق قد تحول دون بناء الدولة الديمقراطية التي نبتغيها. فيما يلي سأعرض هذه المزالق وفقا لترتيب الخطوات الذي اعتمده المجلس العسكري. والهدف النهائي من ذلك هو إقناع الناخب المصري بأن يذهب للمشاركة في الاستفتاء ويقول "لا" للتعديلات. أولا ماذا سيكون الإجراء الواجب إذا رفض الشعب التعديلات؟ هل سيتخذ القائمون على شأن شأن مصر حاليا هذا الرفض باعتباره رفضا لهذه التعديلات تحديدا، أما رفضا لفكرة التعديل الجزئي ككل؟ بمعنى آخر هل سيردون على رفض الشعب للتعديلات بتعديل نفس المواد مرة ثانية أم بتوسيع المواد المعدلة أم بوضع دستور جديد كلية؟ ثم إن استمارة الاستفتاء المنتظر لا تعطي للناخب الفرصة للتمييز بين المواد المقدمة، وإنما تضطره إلى قبول الحزمة كاملة أو رفضها كاملة. هذه الصيغة لا تعطي للمشرع - سواء كان البرلمان أو لجنة مشكلة تعسفيا أو مجلس تأسيسي منتخب – الفرصة للوقوف على اتجاهات الشعب نحو هذه المواد فرادى. وبذلك لن يستفيد هذا المشرع، في حال رفض التعديلات، من هذا الاستفتاء في أي شيء. فلن يعرف تحديدا المواد التي قبلها المصريون أو التي رفضوها، وقبل ذلك لن يعرف لماذا رفضوها. فهل، مثلا، رفض الشعب تعديل المادة الخاصة بالاشتراطات الواجب توفرها في شخص رئيس الجمهورية بسبب رفضهم للقيد العمري، أم للقيد الخاص بحمله هو نفسه لجنسية دولة أخرى، أم لحمل زوجته لجنسية دولة أخرى؟ والأهم من ذلك ماذا يريد المصريون في هذه الاشتراطات؟ كل ذلك لا يجيب عنه الاستفتاء بصورته الحالية في حال رفضه. ثانيا، وعلى فرض أن الشعب قبّل التعديلات التي ستقدم له يوم الاستفتاء وأجريت انتخابات برلمانية بعدها، أليس من الوارد أن يكتفي المجلس المشكل بطريقة "ديمقراطية حرة نزيهة" بهذه التعديلات ولا ينفذ المادة الخاصة بتشكيل لجنة لتأسيس دستور جديد؟ إن التسرع بإجراء انتخابات برلمانية قبل تطهير مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المحليات، سيوصل إلى هذا المجلس إما أشخاص حزب وطني "سافرين" أو "متنكرين"، "تائبين" أو "مكابرين"، أو المتنفذين في المجتمع المحلي سواء بسبب مالهم أو نفوذهم أو استغلالهم لمؤسسات الدولة أو مالها، أو أعضاء جماعة الإخوان المسلمين التي تعودت على العمل في ظل النظام السابق ولها قواعد شعبية بالفعل، وإن لم تكن بالكثرة التي يتصورها البعض أو يروجها عمدا. إن مجلسا هؤلاء أعضائه من الوارد جدا أن يكتفي بهذه التعديلات، رغم أنف المادة الخاصة بإعداد دستور جديد. ولن تكون هذه المادة الأولى في دساتير مصر التي لا تنفذ وتترك ك"البيت الوقف". وسيكون مبررهم في ذلك، بالطبع، أنهم ممثلي الشعب المنتخبين بنزاهة وحرية. ثالثا، وحتى إذا امتثل المجلس المنتظر لهذه المادة وشكل لجنة – منه أو خارجه لم تحدد المادة! - أليس من الوارد، في ظل وجود رئيس جديد في السلطة، أن يضغط على هذه اللجنة ويوجهها، سواء باختيار أفرادها أو غير ذلك، لكي لا يمس الدستور الجديد صلاحيات الرئيس "المطلقة التي نجدها في الدستور الحالي؟ إن من الأفضل والأوثق والأحوط إذن أن يوضع الدستور، وعلى الأخص هذه المواد، في غياب الفرعون، أيا كان، ومتملقيه وطالبي وده، أيا كانوا. ثالثا هناك المشكلة المتعلقة بنسبة العمال والفلاحين في المجلس. فإذا كان الإصلاحيون يطالبون منذ أكثر من عقد بتجاوز هذا الشرط نظرا لتجاوز هذه الفروق بين فئات الشعب وقطاعاته ونظرا لاحتياجاتنا من حيث مواصفات عضو المجلس، فإن هذا التوقيت والمجلس القادم تحديدا هو الأحوج إلى تجاوز هذا الشرط. فالمجلس القادم، بما ينتظره من مهام جسام، مهام بناء الدولة الجديدة فضلا عن المهام التشريعية والرقابية التي كان يمارسها "صوريا" في السابق، لا بد أن يتشكل بعيدا عن هذا الشرط. لذلك كان لا بد أن يلغى هذا الشرط قبل الانتخابات البرلمانية القادمة. رابعا دفع الكثيرون في الفترة الأخيرة بعدم ضرورة مجلس الشورى. ربما كان هذا المجلس ضروريا لمجلس شعب نصف أعضائه من العمال والفلاحين، وربما كان ذلك السبب "المعلن" وراء إنشائه، ليكون "مجلس حكماء"، وكأن مجلس الشعب مجلس "بلهاء". لكن المؤكد أن مجلس الشعب الجديد، سواء التزم بسنبة العمال والفلاحين أم لا، من حقه أن يستعين بمن يشاء ويشكل من خارجه اللجان التي يشاء. والمؤكد أيضا أن إنشاء مجلس الشورى جاء في جزء كبير منه، أو هكذا تحول على الأقل، لكي يعطي رئيس الجمهورية متسعا لترضية الأشخاص الذين لا تسهم مقاعد مجلس الشعب. وأصبحنا أمام درجتين اجتماعيين كدرجتي البكوية والباشوية في مصر ما قبل يوليو 1952، حتى أننا عدنا إلى ما قبل يوليو بممارسات شراء هذه الدرجات، كما في التسعيرة التي كنا نسمع عنها لهاتين الدرجتين. وفي دولة الحد الأدنى التي نريدها يجب أن يلغى مجلس الشورى. أعني دولة الحد الأدنى في التدخل في شؤون المجتمع، ودولة الحد الأدنى في حجم فروع الحكومة وإنفاقها. خامسا هل من القانوني أن يستمر البرلمان ورئيس الجمهورية بعد أن يذهب الدستور الذي أقسموا عليه؟ أنا لست متخصصا في الفقه الدستوري، لكن عقلي يقول أن دستورا جديدا يبطل كل ما قبله. فالدستور عقد بين الشعب والحاكم وممثلي الشعب. وهذا العقد يجب أن يكون موجودا قبل انتخاب الرئيس أو النواب، أي قبل أن تقوم علاقة التعاقد بين الطرفين، لأن رئيس الجمهورية والبرلمان ينتخبهم الشعب بناء على بنود هذا العقد وللعمل وفقا لها، وقبل ذلك لحراستها، ويقسمون على ذلك. معنى ذلك أن مصر ستكون في حاجة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة بعد وضع الدستور الجديد والاستفتاء عليه. وإذا كان هناك – وأنا منهم - من استهجن تبرير المجلس العسكري لتسبيق الانتخابات البرلمانية على الرئاسية بدعوى أن الرئيس يحلف اليمين أمام البرلمان، ورأى فيه مبررا شكليا فارغا من المضمون، فإن اعتراضي هنا لا يتعلق بالجانب الشكلي، وإنما بجوهر النظام السياسي. إننا لم نعرف بعد نوع نظام الحكم الذي سيقره الدستور الجديد. فهل يجوز مثلا أن يظل رئيس جمهورية وبرلمان انتخبا لجمهورية رئاسية في مناصبهم إذا غيّر الدستور الجديد نظام الحكم إلى جمهورية برلمانية؟ وماذا عن علاقة رئيس الجمهورية، بصرف النظر عن نوع النظام، بالحزب صاحب الأغلبية، وهل سيظل من أعضاء البرلمان من يجمعون الوزارة مع العضوية؟ لكل ما سبق وغيره عرض الكثيرون خارطة طريق بديلة تبدأ بتشكيل مجلس رئاسي لإدارة فترة انتقالية، ويكون الشاغل الأساسي لحكومة تسيير الأعمال فيها هو محاسبة الفاسدين وإرجاع أموال الشعب وإصلاح كافة مؤسسات الدولة، وتشكل لجنة موسعة لإعداد دستور جديد بالكامل، ولا يُشترَط أن يُستفتى الشعب على تشكيل اللجنة، وفي هذه الأثناء يُفتَح الباب لتشكيل وإعلان الأحزاب السياسية، وبعد أن يعد الدستور الجديد ويُستفتى الشعب عليه تُجرى الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية. لكن في ظل إصرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة على المضي في خطته التي بدأها، وفي ضوء المخاوف الجدية السابقة، ماذا يمكن أن يفعل الشعب المصري يوم الاستفتاء على الدستور السبت القادم؟ هل يحجم عن الذهاب والتصويت، أم يذهب ويصوّت، وفي أي الاتجاهين يصوّت؟ لا بد أن يحرص الناخبون على المشاركة في الاستفتاء أولا بغرض التدريب على المشاركة في ذاتها، وثانيا من أجل توصيل رسالة إلى العالم، ومن قبله الساسة والقوى والحركات السياسية، مؤداها أن شعب مصر حي وأن مصر ما بعد 25 يناير تختلف كليا عن مصر قلبه، وثالثا لكي نسقَّط التعديلات المقترحة، ومعها كامل خارطة الطريق التي يراد فرضها علينا. ولا بد أن نثبت لأنفسنا، قبل أن نثبت للآخرين، أن الشعب الذي صنع ثورة 25 يناير وأطاح بالطاغية مبارك ونظانه جدير بدولة ديمقراطية وقادر على صنعها وإدارتها والحفاط عليها. قد يتقاعس البعض عن المشاركة في الاستفتاء بدعوى أنه يرفض هذه التعديلات، أو أن عدم المشاركة ذاتها رفض للتعديلات، وقد يطالب البعض بذلك، من باب أن عدم المشاركة هو شكل من التصويت السلبي، أي رفض للتعديلات. لكن لهؤلاء أقول: يجب أن يخرج جميع الناخبين يوم السبت القادم ويمارسون المشاركة الإيجابية بالتصويت، ولنجعل لجان التصويت "ميادين تحرير" بالآلاف ... ونقول "لا" للتعديلات المقدمة. وهنا ستعود إدارة العملية الانتقالية إلى النقطة صفر، وساعتها ستكون خارطة الطريق البديلة التي نقترحها هي الخيار الأرجح، إن لم تكن الوحيد. وبعد أن يرفض المصريون التعديلات، وعندما يتأكد أن دستورا جديدا بالكامل هو الخطوة الأولى على طريق بناء الدولة الديمقراطية المبتغاة، سيكون لنا حديث حول محتوى وتنظيم استمارة الاستفتاء على الدستور وطريقة التعامل معها، بالطبع من أجل الاستفتاء على الدستور الكامل وليس التعديلات الجزئية.