كان ازدواج الخطاب الذي توظفه النظام الاستبدادية العربية في الداخل والخارج واضحا وجليا على مدار العقود الثلاث الأخيرة. فهي من ناحية ترفع مع مواطنيها خطاب التصدي لإسرائيل والغرب واستعادة الحقوق، ومن ناحية أخرى ترفع مع الغرب خطاب أنها ضامن وجود إسرائيل وأمنها. وهي من ناحية تخوّف مواطنيها من سيطرة المتطرفين وأتباع القاعدة، ومن ناحية أخرى تخوّف الغرب من شعوبها التي تصفها للغرب بالتخلف والأمية والميل إلى أفكار المتطرفين، وأن المتطرفين هم البديل الوحيد لها. وقد كشفت أحداث الثورة العربية هذا الازواج جليا في ردود الفعل الغربية من هذه الثورة واستغاثات الطواغيت الآفل عصرهم بالغرب طلبا للدعم. فيما يتعلق بردود الفعل، ظل الغرب يتخبط طويلا في موقفه من الثورة التونسية، حيث ظل على تأييده لزين العابدين، وإن رفض استخدام العنف "المفرط" في العلن، ولم يحسم أمره بتأييد الثورة إلا بعد رجيل الدكتاتور. ومع أن الغرب يفترض أنه قد تعلم الدرس من ثورة تونس التي لم يمضي على أحداثها أيام، فقد أظهر تفاوتا واضطرابا في تعامله مع الثورة المصرية. فتبدأ هيلاري كلنتون بالتأكيد على أن مصر "دولة مستقرة" ثم تتأرجح المواقف الأمريكية التالية بين القوة والضعف، وبين تأييد المطالب الشعبية العادلة ومطالبة النظام بإجراء إصلاحات سياسية تستوعب المطالب الشعبية، بحيث يبقى النظام بسياساته الخارجية. لا ريب أن خيانة الغرب لقيمه التي طالما بشّر بها "لفظيا" وشن باسمها حربا مدمرة على العراق كان في المقام الأول أحد نتائج خطاب النظم الاستبدادية العربية الذي طالما أكد على أنها الضامن الوحيد لوجود إسرائيل وأمنها، وأن بديلها هو التطرف الديني الذي سيكون معاديا لإسرائيل والغرب بالضرورة. كما جاء الموقف الغربي أيضا متأثرا بدور نظم الاستبداد العربي الداعم لإسرائيل والغرب على مستوى الممارسات أيضا. فالنظام المصري البائد لم يتوقف يوما عن التغني بعدالة القضية الفلسطينية واصطفافه في جانب الشعب الفلسطيني وقضيته، وقد برر بذلك دخوله شريكا في عملية سلام لا سف زمني لها. بينما كان النظام المصري البائد – ليعذرني القارئ على تكرار هذا الكلمة لوصف نظام مبارك الذي كاد أن يقتل فينا كل أمل في تغييره – على أرض الواقع يعرف أن التفاوض وعملية السلام مهما طالت لن ترجع الأرض أو تعيد اللاجئين أو تبني دولة، بل هو من أجل ذلك كان يُستخدَم في جر الفلسطينين إلى عملية السلام، وكان يُستخدَم لتركيع الفلسطينيين وخفض سقف مطالبهم وشق صفهم. وقد نجح بالفعل في تحويل السلطة الوطنية الفلسطينية إلى ذراع أمني لدولة إسرائيل وفصل غزة عن الضفة. وعلى مستوى العلاقات مع إسرائيل نجح مبارك في تحويل جهاز المخابرات المصرية، الذي أنشئ في الأصل للتصدي لإسرائيل، إلى امتداد للموساد في مصر والأراضي والمحتلة. ولم يتورع النظام حتى عن بيع غاز المصريين "الفقراء" بأقل من ثُلث ثمنه لإسرائيل. وقبل هذا وذاك استخدم الغرب مبارك لتدمير العراق "العربي": آخر مؤيدي الفلسطينيين وقضيتهم. وعلى مستوى الممارسات أيضا كان القذافي يستخدم العداء "اللفظي" الزائف لإسرائيل والغرب والولايات المتحدة وانتقاد المواقف العربية الضعيفة من القضية الفلسطينية كآلية لصف الشعب الليبي ورائه وإلهاء الشعب عن أموره المعيشية السياسية والاقتصادية. بينما كان القذافي في الحقيقة يقف في عداء دائم ومباشر وصريح مع كل ما هو عربي. فقد استحدم القذافي أموال الشعب الليبي لشق صف القيادة الفلسطينية، وتمويل الميليشيات المنشقة على الدولة في السودان، وتمويل المنشقين على المملكة المغربية، وتمويل عمليات إرهابية وتخريبية في دول مثل مصر وتونس. بل إن العقيد "القومي" و"العروبي" كان الوحيد الذي شق الصف العربي في الحرب العراقية-الإيرانية، فوقف في صف إيران وتحالف معها ضد العراق. أما على مستوى الاستغاثة بالغرب ومناشدته الدعم، فقد كان القذافي، ربما بسبب جنونه، هو الأكثر وضوحا. فزين العابدين ومبارك، مع أنهما لعبا كثيرا، كشأن أترابهم من طواغيت العرب، على وتر أنهم الضامن الوحيد للتعاون مع الغرب وإسرائيل وقيام علاقات طيبة معهم وأن بديلهم هو التطرف الديني المعادي للغرب، فإن أحدا منهما لم يرفع هذا الخطاب في أثناء الثورة، وذلك في الأساس بسبب مطالب المحتجين الواضحة بدولة ديمقراطية مدنية. ومع أن مطالب الشعب الليبي لم تختلف عن مطالب من سبقوهم إلى الثورة في تونس ومصر، فإن تمسك العقيد بالسلطة "حتى آخر قطرة دم وآخر رجل وأمرأة"، وما يستتبعه ذلك من استخدام مفرط للقوة في مواجهة شعب أعزل، يستلزم تبرير ذلك أمام الغرب. فهذا الغرب يفترض أن يكون عدو القذافي الأول في حربه ضد شعبه، ولذلك أعلن القذافي الخطاب الذي طالما استخدمه المستبد العربي مع الغرب في الغرف المغلقة. وهنا فضح القذافي نفسه، وأصحابه في نادي المستبدين العرب. فيقدم نفسه بأنه صمام الأمان للغرب، وأوربا تحديدا. لم يقل القذافي بأن وجوده صمام أمان لشعبه، وإنما للغرب وإسرائيل. بالطبع لأن شرعيته مستمدة من الغرب. بدأ القذافي بتهديد الغرب بأن سقوط نظامه سيفتح الباب واسعا أمام الهجرة غير الشرعية. لكن أوروبا والولايات المتحدة لم يعد يخدعها هذا الخطاب الكاذب، خاصة مع تقاطر صور المظاهرات المطالبة بالديمقراطية والدولة المدنية. ولذلك رفعت الدول الغربية المؤثرة الشرعية عن نظام القذافي، وأخذت تعترف بالمجلس الوطني الحاكم في بنغازي، وتنسق فيما بينها الآن لفرض حظر طيران على الأراضي الليبية لحرمان قوات الدكتاتور من التفوق الجوي على الثائرين. وعندما ثبت فشل هذه التهديدات "الخائبة" للغرب والولايات المتحدة، أخرج القذافي آخر ما في جعبته، عندما صرح اليوم الأربعاء بأن وجود نظامه يعد صمام أمان للبحر المتوسط وأوروبا و"ما يسمى إسرائيل" على حد تعبيره. وهكذا يعترف القذافي بأن وجود نظامه يضمن وجود إسرائيل، التي طالما أظهر للشعب الليبي عدائه لها واستعداده لحربها، لولا وجود دول "عميلة" تفصله عن إسرائيل. لكن القذافي لم يغب عنه أن هذا التصريح وإن كان مفيدا مع الغرب، فإنه سيضر بالتأكيد مع الشعب الليبي. لذلك استخدم العقيد عبارة "ما يسمى إسرائيل". ولو كان القذافي يضمن أن حديثه لن يصل إلا إلى الغرب فقط، لقال بدلا من ذلك: "حبيبتنا إسرائيل"، بل "أمنا إسرائيل". لقد ظن طواغيت العرب أن خطابهم المزدوج نجح للأبد في تخدير الشعوب واستلاب إرادتها. لكن الحقيقة هي أن الشعوب العربية لم تبتلع يوما هذا الازدواج في الخطاب، ولم ينطلي عليها التضليل والكذب، لكن قوة البطش هي كانت تقعدها عن الفعل والمبادرة. لكن ما أن أثبت لهم التونسيون أنهم يستطيعون أن يفعلونها - أن يقتلعوا الطاغية من أرضهم ويجتثوا نظامه اجتثاثا – حتى همّ الشعب العربي ليقول للطواغيت الدجالين إنكم لم تخدعونا أبدا ولن تخدعونا بعد اليوم.