إن التفجير الذي استهدف المسيحيين أمام كنيسة القديسين بالأسكندرية مع مطلع عام 2011 .. فطر قلوبنا جميعاً .. نحن جموع المصريين .. مسلميها ومسيحييها .. وأبكى عيون مصر الشامخة .. فالدم الذي سال هو دماً مصرياً خالصاً لأخوة لنا نشاطرهم رغيف الخبز ولفحة الشمس ولسعة البرد وزغرودة الفرح وأنات الحزن و ندفن بباطن نفس الأرض التي حملتنا معاً ودافعنا عنها بأرواحنا سوياً .. لكن يحق لنا أن نتساءل رغم المرارة والألم .. عن الجاني مرتكب تلك المجزرة .. هل هو المجرم الذي فجر نفسه ؟ أم أن هناك متهم آخر ؟ .. الحقيقة انه رغم وجود مجرم قام بتنفيذ تلك الجريمة واستخدمته عقلية ظلامية مُدبرة كأداة تنفيذ وحشية .. إلا انه يتبقى سؤال كبير بحجم وعظم المصيبة .. وهو .. هل هذا المجرم ومن حرضه هم المتهمون فقط ؟ أم أن هناك متهمون آخرون ؟ الحقيقة إن المتهم الأول والأخير في هذه المجزرة هو حكومات النظام المتعاقبة .. التي سكتت ومنذ زمن طويل على تفجر الأوضاع الطائفية .. بل وسكتت عن سعى البعض عن وعى أو بدون وعى ، بعقل أو بدون عقل .. إلى إشعال تلك الفتنة بين أبناء الشعب المصري .. ولا اقصد بالأوضاع الطائفية تلك الأوضاع الملتهبة والمتأزمة والمتحفزة والمشحونة بنذر الشر بين المسلمين والمسيحيين بشكل لم تشهده مصر آنفا في أياً من عصورها .. حتى في أحلك عصور التخلف و الركود الفكري التي مرت به .. بل اقصد أن الحكومات المتعاقبة كانت ميكيافلية بشكل غير متصور .. وكان همها الأكبر والأوحد هو الحفاظ والاستحواذ على السلطة بشكل مطلق وبلا منازعة من احد .. ومن اجل هذا الهدف الأسمى لها فقد اتبعت الأسلوب الشائع والأكثر شهرة و المتمثل في إتباع سياسة فرق تسد .. فعملت على ضرب كل طوائف المجتمع قاطبة بعضها بالبعض الآخر .. ولم تستثنى منه طائفة .. سواء كانت تلك الطوائف سياسية أو مهنية أو دينية .. لقد نجحت وبامتياز واقتدار في خلق طبقية مريعة وانقسامات رهيبة على كل المستويات .. وعليك بقليل من التأمل أن ترى ذلك حادث وبجلاء في الأحزاب والنقابات وغيرها .. لكن لم يكن يتوقع عاقل أن يصل الأمر إلى تخطيها كل الخطوط الحمراء وتجاهل الثوابت الأصيلة والأركان الركينة لوحدة و بناء المجتمع ولم يتخيل عاقل أن تُغمض العين عن هدم أعمدة المعبد لينهار على رؤوس الجميع ليُدفن الوطن تحت الركام بفعل الغباء السياسي .. وبدافع شهوة الإستئثار بالسلطة ومن اجل استمرار كل خيوطها بكفها .. بحيث تظل تلك الكف قابضة عليها دون السماح بألا يفلت من بين أصابعها خيطاً واحداً .. إن استخدام ورقة الطائفية الدينية لإذكاء الصراع بين أتباع الديانتين الإسلامي والمسيحي لأمر في غاية الخطورة .. لأن النزاعات الناتجة والناشئة عن التمييز الديني تكون نزاعات دموية و مهلكة وتولد فتنة دائمة وقنابل موقوتة تنتظر في كل وقت من ينزع فتيلها . ولقد شهدت مصر انسحاباً وتقلصاً في الحريات منذ العام 1952 و إلى الآن .. فتم إلغاء الدستور القديم وعطل وعدل الدستور الذي ووضع لاحقاً تلبية لهوى أرباب السلطة .. و تم تنحية حكم القانون .. وتم القضاء على التعددية السياسية .. وتم تفتيت كل الكتل السياسية .. وتم الإنفراد بالسلطة بشكل تام ومهيمن .. وزادت بالتالي مساحة القهر والجبروت .. وبما يضمن الاستحواذ على السلطة .. وكذلك لم يُسمح بإنشاء أحزاب أو منابر سياسية تعبر عن قوى المجتمع وتعدديته .. إنما قام فقط منبر وحيد وأوحد .. لينضوي تحت لوائه كل المنتفعين والمتطفلين والمتربحين والموالين .. هذا المنبر اتخذ من الأسماء الكثير .. منها الإتحاد القومي ثم الاتحاد الإشتراكى ثم الحزب الوطني حالياً .. الحاصل أنه ورغم نشأة بعض الأحزاب لاحقاً .. إلا انه لم يُسمح بتداول السلطة.. وخُنقت الحياة السياسية خنقاً .. وتم العمل على استخدام الوقيعة بين قوى وتيارات المجتمع .. وصُمت الأذان عن الاستماع لمطالب الفئات والطوائف .. ولم يتم إعارة اى انتباه أو اهتمامً لأصوات المخلصين .. وكان نتيجة ذلك غياب الرؤية والإستراتيجية وتعثر الخُطى نحو النهوض بالوطن.. بل واشتعل فتيل الغضب لدى كل طبقات الشعب .. فمصر كلها أصبحت إما ثائرة أو محتجة .. فالكل غير راضٍ .. والكل يعانى .. و الأنات كثرت في كل أرجاء الوطن .. والصرخات تصم الآذان ولكن لا مجيب .. وهذا التجاهل سيكون له أوخم العواقب .. و بطبيعة الحال فإن ما حدث بالإسكندرية من تفجير إمام كنيسة القديسين ما هو إلا نتيجة للغباء السياسي المطلق .. وما هو إلا نتيجة لصم الآذان عن سماع مطالب فئات الشعب ومنها الفئة المسيحية .. و نتيجة لعدم تفعيل القانون .. وعدم الاحتكام إلى الدستور .. وهذا الصمم منذ زمن وهذا التجاهل منذ أمد .. مما فاقم الأزمة .. و أوصلونا وبنجاح إلى حافة الهاوية .. إلى حافة التقاتل والتشرذم والتحفز والتوتر والاستعداء .. وأحدثوا شرخاً عميقاً بطول وعرض الوطن .. وجرحا غائراً مملوء بالملح .. وجعلوا مصر تبدو وكأن بها اضطهاد ديني للمسيحيين .. وهذا على غير الواقع وعلى خلاف الحقيقة .. لأن المسلم والمسيحي لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات بنص الدستور وبحكم القانون وبحكم الواقع المعاش ومراكزهم القانونية متساوية .. فالمسيحي والمسلم يتشاركون بالتساوي وبنفس الدرجة وبنفس الحق في كل ثروات الوطن وممتلكاته بدءً من مقاعد الدراسة والأتوبيس والمترو والقطار وأسرة المستشفيات والوظائف العامة ويقع عليهم سوياً عبء الدفاع عن الوطن سواء في الجيش أو الشرطة .. فليس هناك تمييز ولا عنصرية في مصر .. فمصر بلد المسلم والمسيحي .. وليست حكراً على احدهما .. بل هي ملكاً لنا جميعاً .. ولم يكن المسلمون ابدأ ضيوفاً على المسيحيين .. فهم من أبناء مصر الذين اعتنقوا الإسلام .. ولم يأت بهم عمرو ابن العاص من الجزيرة العربية .. تماماً مثل أبناء مصر الذين ظلوا على مسيحيتهم .. كذلك فإن المسيحيون ليسوا عبئاً على المسلمين ولن يكونوا .. ..إذا نعود ونؤكد أن التوتر الحادث الآن أسبابه ناتجة عن قصور في الرؤية السياسية .. وناتج عن عدم تفعيل الدستور الذي ينص وبوضوح تام على أن المصريون متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العقيدة أو الجنس أو اللون .. وناتج كذلك عن التقاعس في الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الطائفتين طبقاً لمواد القانون و أحكامه .. و كذلك بسبب الميل إلى الموائمات السياسية .. و تفضيل الحلول الودية التي غالباً ما تكون غير عادلة .. وكذلك ناتج عن تجاهل بعض المطالب العادلة للمسيحيين وعلى سبيل المثال زيادة عدد الكنائس وبما يتناسب مع زيادة عددهم .. ولا اعرف ما الضير في هذا ؟ .. و ما الضير في صدور قرار رئاسي من باكر بمضاعفة عدد الكنائس .. وما الخطر في ذلك على المسلمين ؟ إن الإسلام لا يمنع ذلك ألبته .. إن تجاهل مثل هذه المطالب العادية والعادلة أدى إلى الإحساس بالظلم والإضهاد الديني ..و ألهب النفوس وُهيئ المناخ تمام التهيئة للمتشددين والمتطرفين من الطرفين .. ومكن لهم بين صفوف الطرفين وبدرجة ُمكنتهم من السيطرة على حشود حاشدة من الطرفين .. والتغرير بها بسهولة .. بما يعود بالخراب على مصر .. ولنا في ثورة احد الطرفين عند تنصر أو إسلام احد الأشخاص عظة .. فالمتطرفون من الجانبين يشعلونها ناراً .. مع العلم أن هذا الشخص لن يُزيد هنا أو يُنقص هناك .. من شاء منكم فليؤمن ومن شاء منكم فليكفر .. ولقد مكن هذا المناخ الملتهب والمتوتر لكل القوى المعادية ووفر لها بيئة خصبة و ممتازة لتتسلل إلى قلب وعقل مصر وتتلاعب به وتُذكى نار الفتنة بين طوائفه .. لتفتت مصر الكبرى وتمزقها تمزيقاً وتحولها إلى بؤر للصراعات أو لصورة مكررة للطائفية في لبنان .. وبهذا تضيع آخر قوة فاعلة في المنطقة .. وتصبح الساحة خالية لتلعب بها وفيها دول أخرى مثل إسرائيل وإيران .. واللذان لا استبعد تورط أحداهما أو غيرهما في هذه الحادثة .. ولا نلوم إلا أنفسنا .. فنحن من هيأنا لهما ذلك .. ونحن من صنع لهما ولغيرهم الشروخ والثغرات بجسد الوطن لينفذوا منها .. ويجب أن توقظنا هذه الحادثة كي نصحح كل الأوضاع المغلوطة وننهى كل القضايا المؤجلة .. كما يجب أن ننزع ميكرفونات التطرف من يد المتشددين بالطرفين .. ولا نسمح أن يتحدث في الدين إلا علمائه وأهل التخصص والخبرة والحكمة .. ولا نسمح لكل من قرأ كتاباً بتأويل الدين على هواه .. كما نطالب بكثير من العقل والحكمة والحرية السياسية ليعود للوطن هدوئه ووئامه ومحبته وسلامه .. وليعود إخوة الوطن كسابق عهدهم متآلفين متحابين .. ولتعود مصر كعهدها دائماً دولة للحب والتسامح والتوحد والتعدد والتنوع المتناغم .. فالله المعبود واحد .. والكل يعبده على طريقته وحسب عقيدته .. فلا إكراه في الدين أبدا .. ويجب ألا نكتفي بمجلس عائلة أو مجلس عرفي أو مجلس حكماء .. إنما المطلوب والمأمول تفعيل القانون وتمكين الدستور لتحقيق المساواة بين المواطنين على اختلاف عقائدهم وهذا هو الأهم والأجدى وهو لُب القضية .. وحتى لا نرى بعد اليوم دماءً تراق بالشوارع .. وحتى لا أبكى جارى أو صديقي جرجس أو ميشيل أو مينا أو حنا . وحتى يعود احمد ليرضع من ثدي أمه وجارته تريزا و يعود مرقص ليرضع من ثدي أمه وجارته خديجة .. وحتى يظل قلب مصر ابيضاً نقياً .. طاهراً متطهراً من الحقد والتعصب والبغضاء .. كما كان على مر التاريخ .. فالمصري ابن الحضارة وصانعها وناشرها ومعلمها للعالمين . [email protected]