منذ البداية بدأت الخطوات تأخذ طريقها على شكل التواءات يراد منها تغطية الهدف المقصود باتجاه تحويل العراق بدلاً من دولة مدنية ديمقراطية إلى دولة دينية يتحكم فيها البعض من رجال الدين السياسيين وأحزابهم التابعة فأصبحوا واجهات دينية سياسية معتمدين كسب الوقت واستغلال الفرص متخليين باطنياً عن مفاهيم أطلقوها في الظاهر حول حقوق الإنسان وبناء الدولة المدنية وقد كان استغلالهم للوقت ولوعي المواطنين بناء على تكتيكاتهم بتحويل الناس إلى قطيع لا يفقه ما بين مشروع الدولة المدنية الحضارية التي تبنى على أسس مدنية وإنسانية ومشروع الدولة الدينية الطائفية بشعارات إسلامية للتمويه وفي هذه النقطة بالذات استغلوا مشاعر المواطنين والمؤمنين بشتى السبل وفي مقدمتهم قضية الدين والطائفة والمناسبات الدينية وفي مقدمتها فاجعة الطف واستشهاد الحسين والأكثرية من عائلته وصحبه، وبما أن خطر الديمقراطية وحرية الرأي والحريات الشخصية والعامة أعداء للتطرف الديني واستغلال الدين فقد خطط لتحجيم هذا التيار بواسطة الانتخابات التي جرت وفق كليشة التزوير والتجاوز وسن قانون انتخابي غير عادل، ومنذ أول انتخابات كما نذكر ويذكر الجميع بدأ التبشير بموقف المرجعيات وفي مقدمتهم السيد السيستاني حول تأكيدها لطرف دون الآخرين، ثم أطلقوا شعارات ترغيبية وتهديدية حول الجنة والنار وطلاق الرجل من زوجته والقسم على القرآن والعباس وصولاً إلى توزيع الهدايا والرشاوى والضغط باتجاه غلق منافذ المعرفة عن طريق عشرات الوسائل الإعلامية وعن طريق الدعاة الذين استغلوا المساجد والحسينيات مكرسين كل ما يمكن من اجل جعل المواطنين عبارة عن آلات يفعلون بها ما يشاءوا وبهذا جعلوا من قضية الانتماء الطائفي وكأنه انتماء ديني، ولم تتورع القوى التكفيرية والميليشيات الخاصة والمنظمات السرية المسلحة من المشاركة في تعتيم وعي المواطنين وحتى اخذ تبرعات منهم بطرق وأحابيل ولم تخلوا هذه الطرق والأحابيل من الضغط والتلويح بالاعتقال وأحياناً بالقتل، واستمر هذا النهج على مستويين ففي القسم الحكومي الإعلامي تسمع شعارات وخطب وتصريحات البعض منهم بضرورة بناء الدولة على أسس قانونية وديمقراطية وتعددية والحديث الطويل عن الحقوق المتساوية والمواطنة لكن التطبيق كان مختلفاً وتوجه أحزاب الإسلام السياسي الطائفي يتعارض كلياً مع تلك التصريحات لا بل عمل بالضد منها، وفي الدوائر والوزارات التي يهيمنون عليها وقد اخضعوا أكثرية موظفيها ليس لهم لا من بعيد أو قريب بتلك الخطابات والتصريحات بل اعتمدت الحزبية والتقسيم الطائفي، ومن هنا نلاحظ الإجراءات التي قد اتخذت فيما يخص البعض من الوزارات ومجالس المحافظات وفي مقدمتها وزارة التربية والتعليم فمنذ بداية هذه الوزارة لوحظ النفس الطائفي الحزبي الذي راح يهيمن على داخلها ومعاملة موظفيها الذي انقلب أكثريتهم على أوضاعهم وانتماءاتهم السابقة إلى انتماء حزبي طائفي فالسافرة انقلبت فجأة إلى لبس الجادور والحجاب الغريب عن الدارج العراقي والرجل بعدما كان حليقاً ملمعاً أطال لحيته وزين أصابعه بمحابس الفضة ومسبحة تتحرك بين أصابعه وكأنه يقرأ أسماء الله الحسنى أو دعاء دينياً، وانجر هذا الأسلوب على معاملاتهم مع المواطنين المراجعين أو مع المعاملات والتعيينات وكل ما يرتبط بعمل الوزارة في هذا المضمار، وهكذا أصبح شائعاً لدى أكثرية المراجعين أن الطريقة الأهم لإنجاز معاملتك " أن تبدي الولاء والطاعة ووووالخ" وإلا فإن معاملتك ستكون تحت الأنقاض، ولن نذكر الكم الهائل من الدعاوى والشكاوى التي ملأت وسائل الإعلام وغيرها وما يهم أن التوجهات التي تريد أن تفرض أسلوباً غريباً على التعليم هي القرارات والأوامر السرية التي صدرت من وزارة التربية ووزارة التعليم فيما يخص المناهج التدريسية والإضافة غير العلمية ثم التنظيم في المدارس والمعاهد والجامعات وبدء من بدعة حرام الاختلاط بين الطلاب أو منع البعض من المناهج وعلى ما يبدو أن هذه المناهج أصبحت الشاغل الأساسي لهم تقلقهم وتزعزع مكانتهم وتشكل خطورة على العملية السياسية!! هكذا الادعاء ولا يعترفوا بخطورتها على توجهاتهم الطائفية والدينية المتطرفة ومن جملتها إلغاء البعض من المناهج، وتوجههم إلى معهد الفنون الجميلة مؤخراً وتصريحاتهم حول " ثقافة الاختلاط والميوعة في المعاهد والجامعات العراقية" ولهذا فرضت وزارة التعليم حظراً جديداً على تدريس الفنون المسرحية والموسيقى بمعهد الفنون الجميلة يبدأ هذا الحظر اعتباراً من عام 2011 وهو ما صرح به وكيل المعهد فلاح المسعدي حيث أكد على " تلقينا خطاباً رسمياً من الوزارة حول القرار، مما يعني الموت بالنسبة لنا، وقد تم اتخاذه تحت تأثير الأحزاب الدينية التي تسعى لإعادة البلاد إلى القرون الوسطى" نعم القرون الوسطى المظلمة أو كما قالت طالبة في المعهد " لا نريد تكرار نظام " طلبان" الأفغاني في العراق" ونضيف أنهم يريدون لمشروعهم الطائفي الديني أن ينجح ليعمم إذا لم يكن على العراق فعلى الأقل المناطق التي يحكمون سيطرتهم عليها ويملون بالقوة والتهديد والترغيب والوعود واستغلال كل مناسبة دينية وغيرها لنجاح لو جزء من مشروعهم. هذه الإجراءات والقرارات والحظر ليست وليدة هذه اللحظة بل انه حلقة من سلسلة تكررت في المحافظات منها منع حفلات الغناء حتى الوطنية ومنع المسرح ومنع دور العرض أو الحصار حول دور السينما ومنع صالونات حلاقة الشعر ومعاقبة الحلاقين من الرجال وليس من النساء فحسب ومنع التسجيلات وغلق محلاتها واكبر فضيحة وسخرية حدثت في البصرة حيث منعت عروض " سيرك مونت كارلو السنة السابقة، وما لحق من إجحاف من قبل مجلس بغداد بغلق كافة النوادي الاجتماعية ومن بينها نادي اتحاد الأدباء الذي يضم خيرة أبناء العراق من المثقفين. لقد آن الأوان لفضح هذه التوجهات القسرية الفوقية من قبل البعض من الوزراء والوزارات ومجالس المحفظات التي تكيل بمكيالين، مكيال الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام مكونات الشعب وعدم التجاوز على حقوقهم ظاهرياً ورياءً، ومكيال باطني متستر بإصدار التوجيهات والقرارات بالحظر والمنع واستخدام الشرطة والجيش بدون أي غطاء قانوني ضد أية معارضة لهذا النهج الذي يتناقض من قيام دولة القانون واحترام حريات الناس وعدم التجاوز على حقوقهم. يجب إيقاف التوجهات التي تخلق أزمات فعلية في المجتمع وفي مؤسسات الدولة التعليمية وبين المواطنين وبالتالي خلق فجوة ما بين ما كتب وشرع في الدستور وبين التطبيق الخاطئ واستغلال مادة معينة دون ربطها بالمواد الأخرى وهو استغلال مقصود يسيء إلى الدستور نفسه كما يسيء إلى الدولة ومؤسساتها وسلطاتها الثلاث ويضع مجلس النواب والسلطة القضائية في زاوية من الإهمال والتجاوز عليهما وعلى ما يمتلكان من صلاحيات تشريعية وقانونية. إن عواقب هذه التوجهات سيكون مردودها على من يريد إعادة عجلة التاريخ والزمن فالحسابات غير العلمية المبنية على مفاهيم تتناقض وروح العصر ستكلف البلاد الكثير من المخاطر، أولها تفكك النسيج الاجتماعي الذي هو جوهر التلاحم الوطني وثانياً ستخلق شرخاً ما بين المحافظات من جهة ومن جهة مع ما يجري في الإقليم، ويبقى الاستفسار المشروع قائماً كيف لهؤلاء أن يوازنوا قضية الحريات الشخصية والعامة في الإقليم الذي يختلف عن توجهاتهم المتطرفة ويحاول أن يجعل من الإقليم مثالاً للتطور والتمدن بعيداً عن التوجهات المتطرفة والظلامية التي يحاول البعض العودة لها عبر مفاهيم غريبة عن مجتمعنا العراقي الذي يعاني من الفقر والبطالة والأمراض وتدني الخدمات العامة والإرهاب والمليشيا والفساد العام وسوء استخدام مرافق الدولة! أليس الالتفات إلى حل كدس التراكمات السلبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية التي تعيق بناء دولة المواطنة هو الطريق لأمن وسلام المواطنين العراقيين !.