في هدأةِ هذا الركن الرومانسي من ذاكَ المطعم كانا جالسيّن، يتطلعُ كل منهما للآخرِ متفرساًَ في خجلٍ وترددٍ عبرَ الطاولةِ العائليةِ التي ضمتْ الأسرتيّن. كلاهما أيضاً يعلم تلكَ المؤامرةِ الخفيةَ التي دُبرت بشبهِ إرادةٍ منهما للجمعِ بينهما، لكن... هل حقاً جلسة كتلك يمكن أن تحُدد جدوى العلاقةِ من عدمها؟! تراهُ أنيقاً ومهذباً.. أسرته طيبة ومعاملتهم جميعاً ودودة، لكن ألا يمُكن أن يكون كل هذا غير حقيقي؟!.. ليس عن خداعٍ لكنها هي نفسها متحفظة كثيراً لشعورها أنها تحت المجهر! هي.. رقيقةٌ ذات ملامح جذابة، ليست تلك الملامح الفاتنة حقاً لكن روحها تسري في كل ما تطوفُ به. لو حقاً هي كذلك ستكون نِعم الشَريك الباعث على الراحةِ. سألها عما تُفضل من مُقبلاتٍ قبلَ العشاء، فكادت تخبره أنه يعلم، لكنه ليس هو من كان يعلم! اضطرت أن تخبره، يبدو أنها مع تلك العلاقةِ ستضطرُ لتعريفِ ذاتها كثيراً بالقول، فيبدو الأمر كسيرةٍ ذاتيةٍ مقدمة لإحدى الشركاتِ بلهجة روتينية: "عفواً.. أنا (فلانة).. عمري.. مؤهلاتي.. مفضلاتي.. قلبي كذا وذاتي.. أحب ولا أحب.. آه يا الله، أين ذاك الوسيم منه؟!.." هو الذي يجيئها بما تُحب موقناً صدقَ حسده، فتنظرْ له لتهمس عيناه أنه يعلم! يراها مُتحدثة جيدة بشكلٍ يثيرُ الإعجاب و.... القلق!! هو يحترمُ عقليةَ المرأةِ الذكية حقاً و يتقززُ من سِواها، لكنه يخشى من تِلك العقليةَ أن تتحول لندٍ له!. يعلمُ أن المرأةَ تتراجعُ بالطاعةِ فقط لمن تهوى، وهو يفضلُ امرأةً قويةً مطيعةً بإرادتها عن أخرى مطيعةً لفُقدانِ الحيلةِ وضعفِ الروحْ، لكن من أينَ له به بمثل ذلكَ من تلكَ الجميلة وليس بينهما ما يدفعها لذلكَ الخضوع اللذيذ والعطاء الحنون؟! جاءت أطباقُ العشاء، شاهدتها من خلف طبقة رقيقة من التماعِ العبرات!.. ترتجفُ إذ يصورُ خيالها العاشق لها عينيه هنا، إذا ما رفعت عينيها ستهيمُ في براحِها عوضاً عن نظرات ذاكَ الوسيمِ المتفحصةَ، فلا تفعلْ!.. ترتجفُ أعصابَ يديهِ وهو يسحب الشوكةَ والسكينْ، كم كانت تنتابهُ رجفاتِ - لا تشبه تلكَ سوى في رعشتها - وهو يمسُ شفاه فتاتهُ بقطعةِ حلوى تحُبها أو صنف طعامٍ يتقاسمانه معاً بيدَ أن الأولى لها مذاق نشوةِ سعيدةٍ، ولا يدري أتمنحه تلكَ الرقيقةَ نفس النشوةِ أم لا، فيُحجم بنظراته عنها!.. تسحبُ الشوكةَ والسكينْ لتُبدلَ إمساكها لهما وأهدابها ترتجفُ دمعاً، تذكرت كيف شعرت أولَ مرة وهي تأكلُ مثله بهما معكوستين لتكونَ الشوكةَ بيمينِها والسكين في اليسار!.. أخبرها أنه لا يشعرُ بالراحةِ حينَ يطعم شيء بغيرِ يمينه.. "فلتأكلي هكذا".. قالها أمراً حنوناً رضختْ له في سعادةٍ ضاحكةً في جذلٍ وهي تُلاحق اللقيماتَ في طبقها في صعوبةٍ! "كيف تأكلين هكذا؟!".. نظرت له في عدوانيةٍ غير مسببةٍ بعد أن جفتْ عبراتها في تحفزٍ لتسأله: " وماذا في ذلك؟" " الوضعُ معكوس!" تتراجع في مقعدها مبتسمة فجأة، ولأول مرة منذ جلست.. تستبشرُ الوجوهُ فرحاً..ظلاله الحبيبة بين ستائر أهدابها وبينهم جميعاً، وذلك الأنيق معهم.. يتلاقى حاجباه متابعاً إياها تأكلُ على ذلكَ الوضع الغريبْ.. تُتمتمْ منْ بينِ لُقيماتها الصغيرة: "بالفعلِ هو معكوس" تتابع البحث عن مذاق شفتيه بين لقيماتها المنغرسة في شوكتها... في اليمين