جلس «مبارك» على كرسي العرش أكثر من ثلاثين عاماً، حتى شاخ وشاخ كرسيه.. لم يفهم الشبابَ، فكانت كل حكوماته الأخيرة حكومات ما فوق الستين والسبعين، متصوّراً أن الخبرة يمكن أن تكون خيراً من التعليم، نسي أن جيل الأربعينيات والخمسينيات لن يستطيع أن يفهم متطلبات جيل الألفية الثالثة.. حتى إن الرجل عندما أراد أن يطوّر حزبه الوطني (التطوير كان فكرة نجله) استحدث لجنة للسياسات على رأسها جمال مبارك، وكان وقتها عمره 40 سنة (يعني كام سنة ويكون بعيد عن الشباب)، فكانت نتيجة ذلك وجود الفجوة بين النظام وحكومته، ومتطلبات القاعدة الأوسع من الجماهير (عدد الشباب عام 2011 بلغ 20 مليوناً، بما يمثل 25٪ من جملة السكان).. فكان أول خروج على «مبارك» من الشباب، الذين كفروا به وبأي تطوير أو إصلاح يمكن أن يحققه.. أما «مرسي» صاحب القاعدة الإخوانية العريضة والقداسة الدينية المزعومة، حيث إن الرجل كان يواظب على صلاة الجمعة أمام الكاميرات، فقد عادَى كل مؤسسات الدولة، من أول الجيش (الرجل حتى اللحظة الأخيرة ظل يحترم الجيش ويعتبرهم «زي الدهب»، لكن أتباعه ومن وراءه كانوا قليلي العقل والأدب مع الجيش)، حتى القضاء، وأخطر كيان عاداه «مرسي» كان الإعلام، خصوصاً الإعلام الخاص (المستقل).. وكان ذلك منذ يومه الأول على عرش مصر، فبدأ بكلمات مثل: «الإعلاميون هم سحرة فرعون»، وتبعتها «الإعلاميون هم منافقو النظام السابق»، ثم «هؤلاء المذيعون كانت أفواههم مكممة أيام مبارك، والفضل لمرسي الذي أعطاهم حرية التعبير والكلام، لكنهم لم يفرقوا بين الحرية والتطاول وقلة الحياء).. ودون شك، أسهم الإعلام بنسبة كبيرة في سقوط «مرسي» (طبعاً ليس العامل الرئيسي، فوضْع الرجل على عرش مصر كان أكبر خطأ ارتكبه هو شخصياً، وارتكبه ناخبوه ومؤيدوه من أهله وعشيرته).. الكارثة أن الإعلام الذي ساعد على سقوط «مرسي»، بفضل حرية التعبير التي لم يكن لها حدود، ليس بفضل «مرسي»، ولكن بفضل الثورة الشعبية في البلاد على كل شيء، هذا الإعلام هو نفسه الذي رفع عالياً رايات «يسقط يسقط حكم العسكر» التي سمعناها عقب أحداث «ماسبيرو» و«محمد محمود» (الأولى والثانية)، بل قالوها يوم حاصر أتباع «حازمون» وزارة الدفاع (رغم رفضهم لحازم ومناصريه).. لقد علت مانشيتات الصفحات الأولى جملة «عسكر كاذبون» عندما قالوا إنه ليس هناك انتهاكات، رغم سحل البنات في الشارع وضربهن بالبيادات، بل وصل الأمر إلى الكشف عن عذريتهن، وكأنهن مُدانات.. هو نفسه أيضاً الإعلام الذي جعل من الفتاة المسحولة «ست البنات»، (وهذه حقيقة). للأسف بعد انحياز القوات المسلحة للإرادة الشعبية التي ملأت المياديين بالملايين الثائرة على حكم المرشد، وأخونة الدولة، مطالبة بعزل «مرسي»، تحوّل هذا الإعلام إلى «إعلام التبرير» الذي يهتم بخلق المبررات للجيش عند ارتكابه خطأً، حتى إن هذا الإعلام أصبح يخشى أن يعترض على قرارات رئاسة الجمهورية، لخوفه من دعم القوات المسلحة لها. «مرسي» وإخوانه كانوا يخططون لإغلاق قنوات إعلامية خاصة وصحف مستقلة (رأوا أنها تناهض حكمهم، وتنازعهم ملكهم)، لكن الجيش رفض تلك الخطوة، لعدم إثارة الشارع الغاضب أكثر (ويمكن أنه رفضها لزيادة الضغط على «مرسي»).. لكن الواضح والمؤكد هو أن الجيش بتلك الخطوة روّد القنوات الفضائية والصحف (التي تدّعي أنها مستقلة)، بل إنه «كسر عينها»، فلم تستطع أن ترفض أحداثاً مشابهة لما رفضته من قبل (أحداث الحرس الجمهوري والإعلان الدستوري الأخير مثلاً)، بل إنها حتى لم تجرؤ أن تكون محايدة، دون انحياز للطرف الأقوى (اللي كاسر عينها).. أما الشباب فقد فرحوا بثورتهم الثانية التي نجحت في إسقاط «مرسي» الذي يمثل رأس النظام الإخواني، كما فرحوا بثورتهم الأولى التي أسقطوا فيها «مبارك».. وللأسف لم يأخذوا حذَرَهم ولم ينتبهوا لمن يقف خلفهم ليقفز على ثورتهم الثانية، كما قفز آخرون على ثورتهم الأولى..