القصة الفائزة بالمركز الأول في مهرجان القلم الحر للإبدع العربي الثالث للقصة القصيرة ........................ شرعت ( سهام ) ابنة الثالثة والعشرين تعبث في ( اللآب توب ) الذي اشتراه لها زوجها قبل أن يسافر إلى عمله في إحدى الدول العربية تجول وتصول على صفحات الويب والمواقع المختلفة على ( الإنترنت ) ولأول مرة تصنع صفحتها الخاصة في واحد من أشهر مواقع التواصل الإجتماعي ( الفيس بوك ) . تتنفس الصعداء وهي تحاور نفسها يروم في عينيها بريق يشوبه مزيج من الرضا والخيلاء فلم تعد تشعر بالوحدة مطلقاً وسط هذا الخضم الهائل من الأصدقاء والصديقات على الفيس بوك وبرامج المحادثات ( الشات،الماسنجر،والاسكاى بي )، تكتنفها سعادة جارفة وهى تشعر أنها حرة طليقة تخطت بأجنحتها حواجز القرية بفلاحيها وعمالها والساقية والجاموس والحمير والناموس ، بعد أن سافر زوجها وتركها حبيسة الرتابة والملل نهبة للأفكار والأشواق والفراغ القاتل ، أصبحت سعيدة الآن بعالمها الجديد ( الإنترنت والفيس بوك ) ، الأصدقاء يتكالبون علي إضافتها للمجموعات المختلفة ( الجروبات ) ويخاطبون ودها ورضاها من هنا وهناك وتعليقاتهم التي تحتوي كلماتها على بعض الغزل اللطيف والإيماءات العاطفية الجذابة وخاصة بعد أن نشرت صورتها الجميلة على حائط صفحتها . عالم مختلف مثير أبهرها استمرار حيويته بتجانسه وخليطه المختلف وتدفق حواره وأخباره وتآلف الأفراد وتعدد الأفكار والآراء ، صارت لا تفارق الفيس بوك ليل نهار بتواجدها المستمر مابين التعليقات والحوارات والسلامات والتحيات . انتبهت إلى التواجد الدائم لأحد الشباب يحادثها على صندوق المحادثات تارة وتارة أخرى يشغلها بتعليقاته اللطيفة والمستمرة على صفحتها الشخصية ، أحياناَ أستاذة ( سهام ) وتحيات واحترامات وأخرى مدام سهام الراقية المبدعة .. إلى أن زالت الألقاب وذابت المقدمات والمجاملات . أخذ كلام ( قاسم ) المعسول الحاني الحالم يشق طريقه الممهد إلى قلب ( سهام ) يدغدغ مشاعرها الجياشة ، يزهزه كبرياءها ويرضي غرورها ، يشغل جزءا من فراغها العاطفي ، باتت ( هي ) لا تستغنى عن اطرائه ، مداعباته وتعليقاته الطريفة الخفيفة الجريئة ، تمر على الصفحات المختلفة على الفيس لتبحث عن تواجده وتقرأ آراءه وتعليقاته للآخرين والأخريات . تحول الاستلطاف والإعجاب والاحترام إلى ارتباط والتزام واهتمام وتوافق وانسجام ، نحا الحديث والتعليقات والآراء بينهما نحواً آخر ، تبادل الاثنان أرقام المحمول وأصبح الحديث بينهما مباشراً ، يتنهد وهو يقول " وحشتيني " تتنهد قائلة " وانت كمان " !! " اسمع دي " أغنية مايصة لمطرب حايس يرد عليها " الله .. ايه الجمال دا .. دنا باموت في الكتكوت " . مستلقية ( هي ) على الفراش والموبايل ملتصقاً على أذنها تتثاءب .. تتمدد وتتقلب في ثوب النوم الأملس الذي يجعلها تنزلج .. تنساب - كحيّة قد أثار وجدانها فريسة وديعة – تتلوّى بسهولة ويسر في الفراش مع كل عبارة ناعمة مايعة يقولها . يجلس ( هو ) .. يقف تارة ويستلقي على الفراش تارة أخرى ممسكا الموبايل في يده يبث لوع الأسى والأشواق ولهف الحب والاشتياق وحلاوة اللقاء وقسوة البعاد ، يثير الجوارح ويؤجج المشاعر وما قدّر واستطاع مما ألهمه إياه الشيطان . أسهم وسهام استطاع الشيطان أن يرميها في الأذن والأذهان ، وبإرهاف السمع وحلاوة اللسان وطلاوة الكلام وسحره وقوة تأثيره على الأذهان كان من السهل أن تتداعى له الأنام .. تلبي رغبته الجوارح والأنعام . رآها تزحف في الفراش على الماسنجر ( محادثة فيديو ) صورة مرئية حية بلحمها وشحمها ، تمط في الكلام وتهزّ راسها بدلع وهي ترفع بأصابعها الشعر المنسدل على عينيها ، رأته وهو يتبلل عرقاً تكاد عيناه أن تخترق اللاب توب تتلخفن كلماته .. تتطرب أوداجه قائلاً : - جميل فستان السهرة عليكِ .. سيأكل منك قطعة . - ليس فستان سهرة ... إنه قميص نوم .. ما رأيك ؟ أماءت برأسها متسعة عيناها التي تحوي ايماءات كثيرة وهي تستفسر أكثر . - صحيح ... عاجبك !! - هائل .. رائع .. جامد قوي ..!! يجفف عرقه المتصبب ، تتسمّر حدقتاه على اللآب توب وقفص صدرها الوامض يغشي لعابه المنسال بين أشداقه . استمرت اللقاءات على ( الماسنجر ) واستباحت العيون المخفي والمفتون وتعدت الكلمات المعاني والتعبيرات إلى سفاهة المشاعر وشبق الشهوات . فجأةً ..اختفت سهام من القرية ، بحث الأهل والأقارب عنها هنا وهناك وفي الأماكن المعهودة ولكن لا أثر لها في البلدة . وكالعادة في الأحداث الأخيرة التي أعقبت ثورتنا المباركة في 25 يناير 2011 ، وما تخللها من أحداث جسام وسيناريوهات كثيرة عظيمة مختلفة ، والفوضى العارمة التي عمت أنحاء البلاد ، بجانب أعمال البلطجة والشغب والسرقة والنهب وهروب السجناء والمجرمين من السجون ، والدور المشرف التي تقوم به حكومة الإنقاذ بقيادة ( الجنزوري ) لإنقاذ العيش والحرية والعدالة الاجتماعية ومحاولات الشرطة والجيش المستمرة والدؤوبة للسيطرة واستعادة الأمن والأمان في جميع ربوع البلاد ، ونجاح انتخابات مجلس الشعب في جميع المحافظات بخروج جميع فئات هذا الشعب العظيم للإدلاء بصوته والمشاركة في تحديد مصير البلاد وهي تخطو بثبات إلى مشارف الديمقراطية الحقيقية . هاجت وماجت القرية وقرر الأهالي ورجال القرية أن ( سهام ) قد أُختطفت وهذا سبب إختفائها من البلدة ، خرج أهالي القرية إلى محطة القطار إحتجاجا وتعبيراً عن استيائهم من حالة الإنفلات الأمني بقطع الطريق المؤدي إلى البلدة . نجحت الشرطة والقوات المسلحة في تهدئة وطمأنة الأهالي والأقارب ورجوعهم إلى البلدة بعد أن تعهدت بتكثيف حملات البحث والتفتيش للعثور على ( سهام ) حتي ولو كانت في أحضان الشيطان . في جنح الظلام وسكون الأنام والليل قد وثّق عهوده ومواثيقه مع الطبيعة والإنسان على احتواء آلامه ومتاعبه وشقائه وإخفاء أفعاله من فضيلة ورذيلة وعبادة وآثام ، خرجت ( سهام ) تحمل حقيبة ملابسها .. تنشد الود والالتآم متخذة طريقها إلى أم الدنيا ( القاهرة ) بصخبها وهدوئها .. بأزماتها وانفراجها .. وبطُهرها وعُهرها . أخذتها قدماها الخفيفتان المتعجلتان إلى أحد الأحياء الشعبية بالاتفاق مع سهم الشيطان المتعطش للرذيلة ( قاسم ) الحبيب الولهان ، استأجرت شقة صغيرة إيجار جديد ودفعت من حُر مالها وفرشتْها بغرفة نوم جديدة وفراش جديد وزودتها بأدوات سبل العيش والإقامة من حُر مالها أيضاً وبدأت حياتها الجديدة . استسلمت سهام للهاتف الخفي الذي عصف بكيانها واقتلعها من رتابة حياتها الزوجية ( على حد تفسيرها للأمور ) ، بل اقتلعها من حياتها كلها .. من القرية .. البلدة .. التي نشأت وترعرعت على أرضها بين الأهل والأقارب .. إلى أن نضجت وطاب عودها وفرّعت وطرحت ورودها ، الشعر الأسود المسترسل الفاحم الطويل ، والخدود الممتلئة الموردة رباني ، والطول الفارع الملفوف المعلوف بخير القرية ، القشدة والزبدة وعسل النحل الطبيعي واللحمة الطازجة المذبوحة على السكة الزراعية ، والفراخ البلدي والبط المرجان والوز والحمام . وجاء ابن الحلال لقطف الثمرة اليانعة بين ثمار القرية ، ليس غريبا ولكنه ابن العم الذي كان حريصا على خطبتها والزواج بها ، أحبها منذ نعومة أظفاره ، ابنة العم الجميلة ( سهام ) ، سافر إلى الخارج خصيصاً من أجل أن يكوّن نفسه ويتزوج بها ، وجاء اليوم الموعود وظفر بقوت القلوب ابنة العم العذبة الطروب . استمر شهر العسل ثلاثة أشهر هي كل ما أتيحت له أجازة من عمله وبعدها غادر .. سافر وقلبه يغوص في حناياه .. يذ وب حباً وفراقاً لابنة العم .. ربيبة القلب ورفيقة الصبا والشباب .. رفيقة العمر القادم والفائت . لم تستمر شهامة ( قاسم ) طويلاً ، شبع من استعطاء الميرندا ووجبات السي فوود الدليفري ( مأكولات بحرية توصيل للمنازل ) وسوب الكتكوت ( شوربة ) ، وهذا يعني أنه كان أحد شباب الوجبات السريعة ( التاك آواي ) يتحمس عند المغامرة وعندما تنقضي حاجته ( يفلّق ) يهرب بذيله ، فما بالك وهو الذي وجد نفسه فجأة أمام مسئولية لم يكن قد أعدّ واستعد لها – عشيقة بل زوجة ( مزعومة ) أمام الناس والجيران على الأقل ، هو نفسه لم يكن مصدقا لما حدث وقد اعتقد أن الأمر لن يتعد يوماً أويومين في الأسبوع أو في الشهر يلتقيان في معرة النعمان أو في أي مكان تدفُ فيه الدفوف وتقرع الطبول ، وتنصرف الأمور في سلام من دون مسئولية أو ارتباط والتزام ، ماذا سيقول الأهل عنه وهم يعلمون أن ليس له مورد رزق ثابت ، شاب في مقتبل العمر حاصل على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية ومثل الكثيرين غيره بالآلاف لايعملون ، شباب وشابات خريجين وخريجات يتكدسون أمام فرص العمل القليلة في البلد ، الوساطة والمحسوبية التي تضيق وتعرقل الفرص أمامهم هذا بجانب الرشوة التي تفشت في كل مكان ، لا يوجد عائلة إلا وفيها اثنان أو ثلاثة من الأبناء قد تخرجوا من المعاهد والكليات ولا يعملون ، الجامعات أصبحت فراخة كبيرة للدجاج تفرّخ الآلاف بل الملايين كل عام لكن بلا فائدة ، على الأقل الدجاج يبيض ويذبح ويؤكل ، ولا يصبحون عبئا يثقل كاهل الأسر والعوائل . وفي الحقيقة قد انتهى إخلاص ( قاسم ) وفتر الحب وشبق الرغبة الجارفة التي اعترته من قبل ، خاصة بعد أن صرفت ( سهام ) آخر جنية معها ، أصبحت عبئاً يفوق قدراته وتقديراته بلا مبرر أو سبب وجيه ، طاشت أفكاره وارتبك سلوكه ، تلاشت الإثارة وخبت الشرارة ، وقرر أن يفر من براثن السهام . يتثاءب وقد غمرته نشوة مفاجأة وشعور بإرتياح تام ، أخيرا ( هو ) راض عن نفسه ، قالها بصوت عال وهو يمتص كل الأكسوجين المحيط من حوله بشهقة تملأ وتبرز رئتيه من قفص صدره وزفر زفرة قوية حارة كادت أن تحرق أركان الغرفة التي انتفضت بقوة انتفاضة جسده : " الحمد لله " ويجاهر سريرته عالياً : " أفق .. أفق .. يا قاسم " وأخذ يردد بطريقة هستيرية : " الثورة مستمرة ... الثورة مستمرة .. مصر هي القضية .. هي القضية " يبدو أن قاسم قد هدته بصيرته ودلته قريحته إلى الحب الأكبروالفرار الأعظم من براثن السهام إلى حب الوطن ومصر الثورة والقضية . مر عام كامل على ثورتنا المجيدة التي خرج فيها الشعب وفي طليعته شبابه أجمع ، من أجل العيش والكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية ، وضرب الشعب المصري المثل الأعظم على صناديق الإقتراع لانتخابات مجلس الشعب ، وبهر ا لعالم أجمع وأثبت أنه شعب واع ، عظيم ، قادر على خوض الصعاب وحريص على اجراء انتخابات حرة نزيهة شريفة ، ودور الشرطة والجيش المشرف في استعادة الأمن والأمان وتأمين مناخ الانتخابات في جميع أنحاء البلاد . اجتمع مجلس الشعب المنتخب من الشعب المصري بكل أطيافه وأحزابه في جلسته الأولي بعد الثورة وردد جميع أعضائه القسم " أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصاً على سلامة الوطن والنظام الجمهوري وأن أرعى مصالح الشعب وأن أحترم الدستور والقانون " ، تم انتخاب الدكتور ( محمد سعد الكتاتني ) رئيساً لمجلس الشعب ، لنخطو خطوة هامة وضرورية في طريق بناء دولتنا الجديدة المصرية الدستورية الديمقراطية الحديثة . احتشد ( قاسم ) مع جموع شباب الثورة وجموع الشعب الغفيرة التي خرجت إلى ميدان التحرير وإلى جميع الميادين في جميع أنحاء الدولة صبيحة الخامس والعشرين من يناير لإحياء الذكرى الأولى لثورتنا العظيمة ، كان يعلم أن الثورة مازالت مستمرة وأن خروج الثوار إلى الميادين ليس لمجرد الاحتفال وإحياءً لذكرى الثورة فحسب وإنما الثورة مستمرة والاعتصامات مستمرة لتحقيق الأهداف والمبادئ التي قامت من أجلها ، والمطالبة بحقوق الشهداء التي ارتوت ميادين مصر بدمائهم الذكية ، والقصاص العادل من قتلة الشهداء ، وكانت هذه إحدى فضائل ومميزات اللآب توب وبرامج التواصل الأجتماعي ( الفيس بوك وتويتر ) على شبكة الإنترنت التي جمّعت شباب الثورة وسهلت تبادل الأفكار والآراء والخبرات بينهم ونظمت خروج المتظاهرين إلى الميادين ، وهذا ما جعل شعوب العالم تتحدث عن الثورة المصرية أنها أول ثورة إلكترونية في العالم . تمنى ( قاسم )أن تصيبه رصاصة طائشة تطهّر روحه وتذكّيها بشهادة تبرئها من الآثام ، تنقذه وتصد عن سريرته تلك السهام ، تمناها بصدق جوارحه وسماحة روحه أن يُسكب دمه فداءً لحبيبة الفؤاد وغاية المراد مصر الوطن الغالي . استمر اعتصام الشباب والكثير من قوى وائتلافات الثورة في الميدان وفي كل الميادين إلى الجمعة ( جمعة العزة والكرامة ) ، وخرج المتظاهرون بالمسيرات في كل مكان تطالب برحيل العسكر بشكل نهائي من السلطة وتنادي بسقوط حكم العسكر وتسليم السلطة فوراً لحكومة مدنية ، واعتصم المتظاهرون أيضا في ( ماسبيرو ) من أجل تحرير الإعلام الرسمي وجعله مِلكاً للشعب ، أدى الكثيرون من المتظاهرين صلاة الغائب ترحماً على أرواح شهداء الثورة على كوبري قصر النيل ، دعا اتحاد شباب الثورة إلى استمرار الاعتصامات ودعا أيضاً الشعب وجميع القوي والأحزاب وكل ائتلافات الثورة إلى ( ثلاثاء الإصرار ) . انتفضت ( سهام ) تعصف برأسها الجميل أفكار وأفكار ، اجتاحت تلك الأفكار حيرة وتشوش وانشطار ، الفؤاد يعتصر والجوارح تنهار ، مراراً ومراراً تعاود الاتصال على موبايل ( قاسم ) لكن من دون جدوى ، دائما لا يوجد رد أو مغلق أو خارج نطاق الخدمة حاليا . خاوية الوفاض لا تملك ماتقتات به ، فاقت من سكرة الحب والهيام تناجي لوعة الفراق وقسوة الإهمال ، لتجد نفسها وحيدة في وسط غريب عنها ، حي مختلف وجيران مختلفون ، القاهرة والزحام وحركة الحياة الدؤوبة في كل مكان . بدأ الأمان يسري دبيب انعدامه رويداً رويداً إلى مشاعرها المرهفة ، ولأول مرة تنتبه بصيرتها إلى الواقع المر الذي أقحمت نفسها فيه ، والمستقبل المبهم الذي لا يستطيع ذهنها الفاتق الرائق أن يتوقع كنهه . لا تستطيع العودة إلى الأهل الآن ، انتهت علاقتها بالقرية لحظة أن هجرت بيتها وأهلها ، لقد استبعدت هذة الفكرة من رأسها تماما ، كيف يستقبلها الأهل ؟ وماذا ستقول لهم ؟ كيف ستفسر غيابها ؟ وأين قضت كل هذا الوقت ؟ انتفضت أوداجها وهي تجهش في نوبة بكاء انتابتها عندما جالت هذه الأفكار في رأسها . باعت غرفة النوم الجديدة وتخففت من بعض الأغراض التي لم تكن في حاجة إليها من أجل حفنة جنيهات ، المال الذي تركه زوجها لها قد دٌمِّر بالكامل ، بدأت مشوار البحث عن عمل تقتات منه ، الظروف صعبة وفرص العمل قليلة وتكاد أن تكون معدومة والبلد في مظاهرات مستمرة والميادين لا تخلو من الاعتصامات . حفيت قدماها تعباً وانهاكاً من البحث عن عمل لائق طوال اليوم دون جدوى، ارتمت على الفراش خائرةً قواها تنشد راحةً أبديةً . " الموت راحة ... نعم .. الموت راحة ... ياه " قالتها بصدق وهي تتمطع على الفراش ، تتنهد بحسرة عما آل إليها حالها . لأول مرة تستسيغ طعم المرارة وهي تزدرد لعابها ، تروم في عينيها نظرة كسيرة للبؤة جريحة قد أذلها صيد متاح سهل ثمين . قفزت فجأة من الفراش وقد خطرت في رأسها فكرة غريبة أثبت إلحاحها وإصرارها اتساع حدقة عينيها وتسمّر بصرها على المرآة التي أمامها تجادل نفسها : " نعم سوف أذهب غداً إلى الميدان .. وأمام ( ماسبيرو )!! حيث المتظاهرين معتصمين .. سوف أبحث عنه في كل مكان .. ألم يكن هو المسئول عما حدث لي ؟ .. نعم .. هو المسئول . " تخيلت المسكية أنها سوف تجد ( قاسم ) وسط الجموع المحتشدة في ميدان التحرير أو أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون في ( ماسبيرو ) . بدأت انتخابات مجلس الشورى ويواصل معتصمو التحرير الاعتصام ، مؤكدين أنهم مستمرون في اعتصامهم حتي يعود المجلس العسكري لادارة شئون الجيش ويسلم السلطة للمدنيين ، واستمرار الثورة لاستكمال مطالبها كاملة ، تسريع المحاكمات للقصاص من قتلة الشهداء ووقف المحاكمات العسكرية للمدنيين ، والتمسك بالانتخابات الرئاسية المبكرة ، وأمام ( ماسبيرو ) يواصلون الاعتصام من أجل تطهير الإعلام وإصلاح المؤسسة الإعلامية ليلة ( ثلاثاء الإصرار ) . ترك ابن العم ( الزوج ) المفجوع في زوجته المختفية عمله في الخارج وجاء على أول طائرة قادمة إلى مصر للبحث عن ابنة العم الزوجة الحبيبة ( سهام ) . ظل فترة من الوقت يتصل على محمول زوجته يوما بعد يوم ولم يتلق أي اجابة وبعدها قطع خط الاتصال تماماً ، عاود الاتصال بالأهل والأقارب الذين أخفوا عنه الأمر في البداية ، علهم يعثرون عليها أو تعثر عليها الشرطة كما تعهدت من قبل ، مرة يتعللون بمرضها ومرات يتهربون من الإجابة ، وفي النهاية أفصحوا عن أمر اختفائها مضطريين أمام قلقه وإصراره . في ( ثلاثاء الإصرار ) قام المتظاهرون بمسيرة إلى مجلس الشعب المنعقد للمطالبة بتسليم الحكم لسلطة مدنية فوراً ، وميدان التحرير قلب الحدث دائما ، ملئ بالخيام ، ويؤكد عيش حرية عدالة اجتماعية ، ومسيرات ثورية مختلفة نظمتها حركة تكتل طلاب مصر ، وطلاب جامعة عين شمس ، حركة 6 ابريل وحركة أحرار عين شمس ، وخروج مسيرات أخرى من شباب جامعة القاهرة وحلوان وكلية الفنون الجميلة ، كلها تحمل نفس الشعارات ونفس الهدف ، وتتجه إلى مقر مجلس الشعب أيضا . كما خرجت المسيرات الثورية إلى الميادين الرئيسية في الأسكندرية وفي ميادين جميع محافظات مصر ، المطالب كلها واحدة في كل مكان ، تسليم الحكم لسلطة مدنية فوراً ، المحاكمات السياسية الفورية لرموز النظام السابق ، تطهير مؤسسات الدولة ولا سيما الإعلام . قضي أسبوعاً كاملاً يبحث عن زوجته في المحافظات القريبة دون جدوى ، فقرر الزوج المهجور أن يتوجه إلى القاهرة لاستئناف البحث ، اتخذ غرفة في فندق وسط البلد مقراً له ينطلق منه يومياً علّه يعثر عليها وسط الزحام . مر أسبوع آخر لا صوت ولا خبر ولا أي أثر أو حتى خيط رفيع يقوده إلى حبيبة القلب ، أنهكه التعب وأصاب الإعياء منه مأرباً ، نظر حوله فوجد مقعداً شاغرأً ، انتهز جسده فرصةً لينهار ويرتمي قانصاً قسطاً من الراحة ، وغفلت عيناه ليفيق وقد جرفه حشد ملتحم لإحدى مسيرات الثوار المتجهه إلى مجلس الشعب ، ولا شعوريا رفع يديه معهم مردداً .. وتزأر الحناجر مدوية : يسقط ... يسقط .. حكم العسكر !! البداية السيد العربي رزق