الغريب أن القوى السياسية الثورية المصرية استنفرت قواها ضد ترشيح عمر سليمان لرئاسة الجمهورية يَسَّر الله مسعاه نحو رئاسة أقرب سلخانة لمحل إقامته، في الوقت ذاته لم تصل هذه القوى إلى الحد الأدنى من مستوى الحوار أو الاتفاق على أسس ديمقراطية معينة يمكنها أن تهدئ من روع المواطن المصري وتطمئنه على مصير بلده.. وكل ما نشهده هو نوع من الصراع الغبي بين قوى تناصب بعضها العداء لا الرغبة في الحوار، وتكيل لبعضها الاتهامات الجاهزة الممزوجة بالرغبة في " القضاء على" أكتر من الرغبة في "التحاور مع" ، كل ذلك يتم بعيداً أن الأسئلة الجوهرية في قضية الصراع السياسي.. ولعل ما نخشاه من عودة أحد أركان النظام السابق إلى حكم مصر أقل سوءاً مما نحن مقدمون عليه .. صحيح أن العداء الأصيل بين التيارات الليبرالية والعلمانية مجتمعة والتيارات الإسلامية هو من صنيعة النظام المباركي وإذكائه وربما سيستمر إلى فترة غير قصيرة، ولكن الصحيح أيضاً أن هذا النوع من الصراع أدخلنا في ملامح مرحلة أسوأ من فترة حكم مبارك، ودعونا نعترف إن تلك التيارات الليبرالية ترى أن تمكن إسرائيل من حكم مصر أهون من تمكن الإسلاميين منه، وما دمنا على هذه الحالة فدعونا نعترف أن عودة مبارك المتنحى إلى حكم مصر هي الحل الأخير .. إنها حالة من بقاء شكلي للوطن والمواطن أفضل من ضياع الشكل والجوهر .. بعد قليل وقت من استمرار ما نحن فيه من صراع ، لن تكون هناك مصر .. وسيتحول شعبها إلى فصائل متناحرة يحكمها أجنبي .. عودة المتنحي أفضل من حالة الميوعة والردح السياسي والأزمات المتتابعة والمصير الأشد سواداً الذي ينتظرنا لو استمرت الحال على ما نحن عليه .. حالة اللاءات المتتابعة : لا دولة مستقرة، لا رئيس منتخب ، لا دستور متفق عليه ، لا اقتصاد يعتمد عليه، لا وفاق وطني ، لا أمن ، لا هدوء ، لا إجماع سياسي ، لا دور حقيقي للمجلس العسكري ، لا انفراج لأي أزمة ، لا دور حقيقي لأي مسئول حيث لا مسئول حقيقي ، وفي النهاية نحن نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً ، وكل من هب ودب تحول إلى سياسي حتى كلاب السكك ، وكل من هب ودب تحول إلى ثورجي يمكنه أن يقف في ميدان التحرير ، وكل واحد عربجي يريد أن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية ، وكل واحد كسَّل عن حلق لحيته هو إسلامي متمكن يريد أن يثبت إنه صاحب دور جهادي وأنه يفهم في السياسة والدين وأنه بعض نبي إن لم يكن خليفة المسلمين في الأرض، وكل واحد صايع حضر ندوة سياسية أو فكرية أصبح ليبرالياً يطالب بالحرية المطلقة وإقصاء الإسلاميين .. وهلمجرا من شتيت الفوضى غير الخلاقة. لست بطبيعة الحال مع صعود عمر سليمان إلى سدة الحكم أو حتى مع مجرد ترشحه لهذا المنصب، خاصة أنه مخبر دولي اشتغل كثيراً لصالح المخابرات المركزية الأمريكية. وقد أشار الصحفي البريطاني "ستيفن غراي" إلى جرائم عمر سليمان التي أوردها في كتابه " الطائرة الشبح"Ghost Plane إلى أن عمر سليمان كان الطرف المصري الأساسي في التعامل مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية ، والقناة الأساسية للتواصل بين الإدارة الأميركية ومبارك حتى في قضايا لا علاقة لها بالاستخبارات والأمن. ويشير غراي في الكتاب إلى أن اختيار مصر مبارك كمحطة لتعذيب المختطفين الاسلاميين لم يأتِ بمحض المصادفة، فههنا تراث من التعذيب وأقبية تعذيب يعرفها المناضلين والإسلاميين وكل أصحاب الرأي الحر في مصر منذ بداية حكم عبدالناصر وحتى نهاية حكم مبارك، أما الميزة الأخرى فهي وجود ضابط دموي جلاد على رأس المخابرات العامة يدعى عمر سليمان يهوى رؤية القتل والتصفيات الجسدية بعينيه، بل وحتى ممارستها بيديه! بالطبع لا يرضينا أن يصعد عمر سليمان إلى حكم مصر، وإن كان الذي يسعدنا أن يبحث له عن وظيفة رئاسة سلخانة مواشي يمارس فيها ساديته فيما تبقى له من عمر، وإن كان الأوجه من ذلك أن يُلقَى به مع بقية المتهمين بسلخ مصر من محيطها العربي وتقليص دورها العالمى إلى مجرد وسيط سياسي بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، أو مجرد مخبر شديد العماء مخلص لإسرائيل ولأمريكا، كل مهمته تدبيج الاتهامات للقوى الإسلامية في المنطقة، والقبض على المطلوبين للمخابرات المركزية الأمريكية وتعذيبهم وتجهيز ملفاتهم نحو جوانتانامو ، كان عمر سليمان حجر الزاوية في هبوط مصر إلى هذا الدور بجانب رحلاته المكوكية إلى إسرائيل حاملا الأجندة المتبادلة بين قادة إسرائيل ومبارك العميل الأكبر. هذا الدور الرخيص الذي لعبه النظام السياسي المباركي على حساب شعب مصر سعياً إلى استرضاء إسرائيل والأمريكان ومباركتهم على مشروع توريت الحكم في مصر، دور لم يكن يتناسب مع طموح شعب مصر في أي مرحلة من مراحل التاريخ حتى في العصور المملوكية ، ومن ثم فإن مجرد السماح لعمر سليمان بترشيح نفسه يعتبر نكسة ثورية وكارثة سياسية بكل المقاييس، أما صعوده إلى حكم مصر فهو هبوط بمصر إلى قاع التاريخ من جديد واستفحال تخلفها واستمرار تبعيتها العمياء لأمريكا وإسرائيل، وكل هذا يمثل نفياً حقيقياً للروح المصرية الثورية والطموحة، واستبعاد لها عن ثقافتها وتاريخها ودورها الحقيقي. لكن في نفس الوقت ونحن نعى هذا لا نتمنى للقوى السياسية المصرية أن تستمر في غباء الصراع السياسي واستمراء حالة الاستعداء والكراهية التي اشتغل عليها نظام مبارك وزرع جذورها في التربة السياسية المصرية. [email protected]