ضبط 10 تجار سجائر بالغربية يقومون بالبيع بأزيد من التسعيرة الرسمية    موعد صلاة المغرب.. ودعاء عند ختم الصلاة    صلاح عبد العاطي: واشنطن شريكة في الإبادة الجماعية بغزة عبر استخدام متكرر للفيتو    تقرير برتغالي: فيتوريا قد يعود لمصر من بوابة الأهلي    كنز تحت الأقدام.. اكتشاف آلاف الأطنان من الذهب في الصين والكمية لا تٌصدق    خلل صادم في كاميرا آيفون 17 يثير الجدل.. والشركة تكشف سر الصور المشوّهة    وزير الدفاع الإسرائيلي ل زعيم الحوثيين: سيأتي دورك    لم يُنزّل من السماء كتاب أهدى منه.. إمام المسجد النبوي: القرآن أعظم الكتب وأكملها    صحة دمياط تشكّل لجنة إشرافية مكبرة للمرور على مستشفى دمياط العام    "نأمل أن نعود مرة أخرى".. ملك إسبانيا يكتب رسالة بخط يده في الأقصر (صور)    الأمم المتحدة: قوات الدعم السريع شنت عمليات قتل بحق المدنيين في الفاشر    نتنياهو: نوجه لحماس ضربات قوية ولن نتوقف    انخفاض أسعار النفط وسط مخاوف بشأن الطلب تطغى على أثر خفض الفائدة الأميركية    الليلة.. لحظة الحسم في نهائي بطولة CIB المفتوحة للإسكواش 2025    منتخب الناشئات يواجه غينيا الاستوائية في تصفيات كأس العالم    اليوم.. استئناف الجولة الخامسة بدوري المحترفين    صور.. الوادي الجديد ينفذ "لياقة المصريين" للفتاة والمرأة بمراكز الشباب    بدء اجتماعات مصرية كورية لإنشاء مركز محاكاة متكامل للتدريب وإدارة المخلفات    محافظ البحيرة تشهد إيقاد الشعلة إيذاناً ببدء إحتفالات العيد القومي    ضبط 98.6 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    12 مليون جنيه.. حصيلة قضايا الاتجار في العملات ب"السوق السوداء"    عمرو عبد الجليل في حفل افتتاح مهرجان بورسعيد السينمائي    ياسمين عبدالعزيز تظهر بالحجاب وتنشر فيديو من أمام الكعبة وداخل المسجد النبوي    صورة جديدة للزعيم عادل إمام تشعل السوشيال ميديا    وفاة شقيقة الفنان أحمد صيام    هل فكرت عائشة بن أحمد في اعتزال التمثيل؟.. الفنانة تجيب    جامعة قناة السويس تستعد لاستقبال 45 ألف طالب في العام الجديد (صور)    وزير النقل يعلن فتح الطريق الدائري الإقليمي جزئيًا    خطيب المسجد الحرام يدعو للتحصّن بالقرآن والسنة: قول لا إله إلا الله مفتاح الجنة    بالصور - جامعة أسوان تُكرم 200 حافظًا للقرآن الكريم في احتفالية روحانية    أسعار العملات العربية في بداية تعاملات اليوم 19 سبتمبر 2025    مديرية أمن الشرقية تنظم حملة للتبرع بالدم لصالح المرضى    «الصحة» تطلق خطة لتعزيز الصحة المدرسية بالتعاون مع «التعليم» والأزهر    استشاري نفسي: تغير الفصول قد يسبب الاكتئاب الموسمي    الداخلية تضبط عنصرًا جنائيًا بالمنوفية غسل 12 مليون جنيه من نشاط الهجرة غير الشرعية    تعليم القاهرة: انتهاء كافة الترتيبات لاستقبال 2.596.355 طالبا وطالبة بالعام الدراسي الجديد 2025- 2026    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من الجامع الأزهر    بث مباشر ل نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد مصر بالعاصمة الإدارية الجديدة    الأنبا مكسيموس يترأس مؤتمر خدام إيبارشية بنها    مجدي عبدالغني: سأظل وفيًّا للأهلي مهما كانت حدة الانتقادات    ارتفاع عالمي جديد.. سعر الذهب اليوم الجمعة 19-9-2025 وعيار 21 بالمصنعية الآن    رسمياً.. إعلان نتائج تنسيق الشهادات المعادلة العربية والأجنبية    تعليم القليوبية يعلن جاهزية المدارس لاستقبال العام الدراسي الجديد    أميرة أديب تطلق أغنية "أحمد" من ألبومها الجديد    الداخلية: ضبط 98665 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    مصدر أمني ينفي صلة "الداخلية" بجمعية عقارية في دمياط    كومبانى: هوفنهايم منافس خطير.. لكننا فى حالة جيدة    غدًا.. انطلاق العام الدراسي الجديد في 12 محافظة بينها القاهرة والأقصر    نائب وزير الصحة يتفقد مستشفيات كفر الشيخ ويوجه بإصلاحات عاجلة    تشجيعاً لممارسة الرياضة.. نائب محافظ سوهاج يُطلق ماراثون "دراجو سوهاج" بمشاركة 200 شاب وفتاة    أسعار المستلزمات المدرسية في قنا 2025: الكراسات واللانش بوكس تتصدر قائمة احتياجات الطلاب    خدعة كاميرات المراقبة.. أبرز حيل سرقة الأسورة الذهبية من داخل المتحف    صحة غزة: 800 ألف مواطن في القطاع يواجهون ظروفا كارثية    "نور بين الجمعتين" كيف تستثمر يوم الجمعة بقراءة سورة الكهف والأدعية المباركة؟    زلزال بقوة 7.8 درجة يهز منطقة كامتشاتكا الروسية    عمرو يوسف: مؤلف «درويش» عرض عليّ الفكرة ليعطيها لممثل آخر فتمسكت بها    سعر الفراخ البيضاء والبلدي وطبق البيض بالأسواق اليوم الجمعة 19 سبتمبر 2025    رحيل أحمد سامى وخصم 10%من عقود اللاعبين وإيقاف المستحقات فى الاتحاد السكندري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تدمر حياتك في ايام؟
نشر في شباب مصر يوم 08 - 12 - 2019


الدكتور / رمضان حسين الشيخ
أن يعيش المرء وهو يكره ذاته أشبه بمن يكون في داخله شخص يتنمّر عليه؛ فهو ينتقده ويصدر عليه الأحكام ويجعله يشعر بأنه عديم القيمة أو فاشل أو سيئ أو قبيح أو مقزز أو سمين أو شرير أو غريب الأطوار. ويُقنعه هذا المتنمِّر في داخله بأن الناس المحيطين به ينظرون إليه على ذلك النحو أيضاً. وقد يؤدي ذلك إلى القلق والشعور بأنه من الصعب أن يتحمّل جسده أو شخصيته.
تنشأ كراهية الذات من دوّامة سلبية من عدم تقدير الذات التي تعود أسبابها لأمور عديدة؛ إذ ربما يعود ذلك إلى حادثة وقعت في سن الطفولة أو في مرحلة سابقة من الحياة، وجعلت ذلك الشخص يعتقد بأنه أقل قيمةً من الآخرين، وبأن فيه خطأ ما، وبأنه لا يستحق حب الآخرين. كما يمكن أن تكون كراهية الذات عرضاً من أعراض الاكتئاب أو اضطراب الشخصية غير المستقرة عاطفياً.
عندما تتفاقم كراهية الذات، هناك احتمال في أن يسلك المرء سلوكاً هدّاماً لكي يتعامل مع تلك المشاعر المزعجة أو لكي يخدّرها. وقد يكون إيذاء الذات أو جرح الجلد وسيلة لتخفيف القلق، كما قد يكون عقاباً للجسد أيضاً؛ إذ قد يشعر المُصاب بكراهية الذات أن جسده بحاجة إلى تطهير. وهناك طرق أخرى للاعتداء على الجسد؛ كاضطراب الأكل والإدمان على المشروبات الكحولية وعلى المخدرات. كما أنه من الممكن أن تراود المرء أفكار الانتحار أيضاً.
كراهية الذات والسلوك الهدّام يجعلان المُصاب بهما يعزل نفسه عن الآخرين؛ وبذلك فهو يخفي الحالة التي يمر بها ويخفي سلوكه أيضاً. ومن الشائع أن يشعر بالعار، فتزداد حالته سوءاً. وربما يشعر ذلك الشخص بأنه غير جدير بأن ينعم بصحة طيبة. وقد يجعله ذلك يهمل، أو ربما يتجنّب، كل ما يجعله يشعر بتحسُّن؛ كالغذاء المفيد والنوم الجيد والنشاط البدني والاختلاط بالآخرين.
في عام 1955 أنتج الأمريكيون فيلم الدراما العاطفية، يحكي الفيلم حياة شاب أمريكي من أصل إيطالي اسمه مارتي، يعمل بمهنة الجزارة، بلغ منتصف العمر بلا حب أو زواج ودون أن يجد امرأة تقبله لكونه "سمينًا قبيح الوجه" كما يرى في نفسه. فيجلس في إحدى المشاهد إلى طاولة العشاء مع أمه الأرملة التي يعيش معها لوحدهما لأن جميع إخوته تزوجوا، يندب حظه ويتأسف لحاله ويخبر والدته أنه لا يملك ما تحبه النساء ويرى أنه قبيح وسمين بلا جمال ولا جسم جذاب ولا مال ويقضي وقته يقارن نفسه مع إخوته والآخرين (فالجميع سعيد ومرتبط إلا أنا). بغض النظر عن البعد العاطفي لشخصية مارتي الذي نال الممثل (ارنست بورجنين) جائزة الأوسكار نظير تمثيلها فهو يعتبر حالة مثالية لشخص يكره نفسه، وهو ليس الوحيد فهناك الملايين مثله في هذا العالم.
عاش في الجزائر طبيب أعصاب معروف، ذو بشرة سوداء، يُدعى (فرانس فانون) جاء من بلاد جزر المارتينيك الواقعة في بحر الكاريبي، شغل منصب رئيس الأطباء في مستشفى الأمراض النفسية بمدينة البليدة أثناء الاستعمار الفرنسي، لكنه سرعان ما التحق بالثورة الجزائرية متخليا عن فرنسيته، فعمل مع الخلايا الثورية على الحدود الشرقية في تونس. خلال هذه الفترة سعى فانون إلى دراسة علاقة المستعمِر والمستعمَر وكذا تأثير الاستعمار على الإنسان صاحب الأرض، وعمد إلى محاولة تفسير ظاهرة تقديس المستعمر من طرف (الخونة) و(العملاء) الذين أدهشه كرههم للجزائريين من أبناء شعبهم رغم أنهم ولدوا وتربوا معهم، فحاول تشريح كل هذا من ناحية طبية نفسية مستغلا عمله وكفاءته في ذلك وانتهى الأمر بإصدار كتابه الشهير (معذبو الأرض) سنة1961 واضعا فيه بالتفصيل ما توصل إليه.
اهتدى فرانس فانون بعد دراسته الميدانية والنظرية إلى تفسير ما يحدث داخل عقول الخائنين والعملاء - وفي عقول من هم مثل مارتي أيضا- عن طريق ما أسماه ب (كراهية الذات) - باعتبارها متلازمة نفسية تنشأ في عقل الفرد نتيجة عوامل متداخلة فتنتهي بغرس فكرة كره الإنسان لنفسه. يقول فرانس فانون: كراهية الذات ينتج عنها مع الوقت كراهية الآخر، فالأشخاص الذين ينظرون لأنفسهم بدونية وعدم ثقة لا يستطيعون بطبيعة الحال أن يحبوا الآخرين بناء على مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه، فيلجؤون -كنوع من الانتقام- إلى محاولة نقل ما يوجد كينونتهم إلى العالم الخارجي وتصدير كراهيتهم للآخرين، وهنا تبدأ سلوكات الخيانة والاحتقار والنقد اللاذع والكراهية المفرطة والحسد وما إلى ذلك من سلوكات عدائية مختلفة ومتفاوتة الضرر كرد فعل نفسي على معاناة الفرد داخليا مثلما يقول إريك ماريا ريمارك: الكراهية هي أحد أنواع الحوامض التي تتلف النفس، ولا يفرق هذا الحامض بين كره النفس لذاتها أو كره الآخرين لها.
تنتج كراهية الذات من أسباب كثيرة تتجمع كلها أو بعضها في الشخص منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، التنشئة العائلية غير السوية، غياب الثقة في النفس الناتج عن خلل في تكوين شخصية الفرد منذ الطفولة والنقد اللاذع الذي يتلقاه باستمرار في عائلته ومحيطه، التجاوب السلبي مع المواقف السلبية التي يتعرض لها الإنسان أثناء حياته، الفشل المستمر في العلاقات الإجتماعية، التركيز المفرط على ردود الفعل اللاذعة اتجاه سلوكياته وأقواله، الشعور الدائم بالوحدة، الخجل والقلق الإجتماعي، اعتقاد الشخص باستحقاقه الذي لم يتحصل عليه، كل هذه الأشياء تجعله يعتقد بأن الآخرين يمقتونه وينبذونه ويحمل انطباعا بكونه أدنى من الآخرين على جميع الأصعدة فينتهي الأمر بإيمان الشخص بأنه عار دائم ويتولد عنده مركب النقص اتجاه نفسه. فيلجأ الإنسان في النهاية إلى الانعزال التام الاضطراري عن الآخرين، ثم إن الألم المتولد داخله عن ذاته يجعله يؤمن بتأثير الآخر عليه فلا يكره المريض ذاته فقط، بل يكره الآخر أيضا باعتباره سببا ونتيجة في عقدة (كراهية الذات) فيهاجم الآخر ليدافع عن نفسه.
إن كارهي ذواتهم ليسوا أولئك الخونة الذين يبيعون بلدانهم فقط، بل إنهم يحيطون بنا من كل جانب في كل زمان ومكان وأغلب الظن أنك تعاملت ولو لمرة واحدة في حياتك مع واحد منهم، قد يكون كاره الذات أبوك أو أمك، قد يكون أحد أقاربك أو أصدقائك، قد يكون معلماً مع تلاميذه أو أستاذاً مع طلابه، قد يكون مديراً مع موظفيه أو رئيسا مع مرؤوسيه، قد يكون أديبا مع قرائه أو طبيباً مع مرضاه، فكاره الذات قد يمتهن أي عمل لأنها لا تشمل أراذل القوم بالضرورة بل حتى أفضالهم. إنه ذلك الإنسان الذي يتنكر لأهله وعائلته ويرفض مساعدة الآخرين، ينتقد كل ما تتطلع عليه عينه ويعجبها، يحطم أحلام كل شخص يراه ناجحاً، يقزم انجازات الآخرين مهما بلغ حجمها، يلقي باللوم على الناس ويتهمهم بالغباء المطلق والنية السيئة ويشكك على الدوام في غايات وأهداف الناس، إنه شخص يرفض الإنتماء إلى أي شيء ويرفض المشاركة في كل شيء لا لشيء سوى لكونه يحتقر كل ما هو قادم من الآخر لأن هدفه الأساسي هو كره الآخر وتدميره.
يتصف كارهو الذات بالتغيير المفاجئ والمستمر لمزاجهم وشخصياتهم السطحية، كما أن بعضهم يلجأ إلى اخفاء مداخلهم عن طريق الاهتمام بالمظهر الخارجي وقد ينجحون في مسارهم العلمي والعملي لكن ذلك دون ترقية حقيقية في طباع شخصياتهم وطريقة تفكيرهم اتجاه الآخرين وقد يمتلك البعض منهم مواهب معينة لكنهم لا يعبأون بها ويرونها أشياء عادية في نظرهم. يحاول كارهو الذات بكل ما يملكونه من قوة تثبيط العالم الخارجي وممارسة أنانيتهم وساديتهم على الناس فيحسدون وينتقدون وينهرون ويتنمرون، في حدود ما يستطيعون، في سبيل نقل عقدهم الداخلية إلى الخارج لكونهم لا يرضون بأن يعيشوا لوحدهم ألم الكره والكراهية بل لا بد من مشاركة ذلك مع الأخرين وأظنه الشيء الوحيد الذي يريدون مشاركته معهم فعلا. وقد يعجز هؤلاء على التأثير في الآخرين لوحدهم وهنا سيتوجهون إلى الجهة الأقوى منهم والتي تخدم مصالحهم ضد من يستهدفون فيقع كارهو الذات في فخ تقديس القوي ضد الضعيف وهذا ما فعله ويفعله فئة من الناس ضد شعوبهم مع الاحتلال على مر تاريخ الحركات التحررية.
التعامل مع هؤلاء الفئة يكون بالتجاهل واتقاء الشر وان زادت حدة ضررهم فلا بد من قطع العلاقات معهم كلية. أما علاج المصابين بعقدة كراهية الذات فلا شيء سوى قبول أنفسهم كما هي والسعي لإصلاح الفاسد منها والرقي بمحاسنها، لابد لهم من إبصار آفاق أخرى للحياة واتباع الأسلوب العملي فيها، مع ضرورة الكف عن إلقاء اللوم على الآخرين باعتبارهم سببا في مشكلاتهم والتحرر التام والتدريجي من كافة العقد النفسية اتجاه الآخرين سواء بالعلاج العيادي أو التطوير الذات البشري، وبيت القصيد هو أن يدركوا أن وجود من يعاديك من طبائع الزمن والناس، لكن المهم أن تتحمل مسؤوليتك كاملة وتركز على نفسك وحياتك بدل الاكثرات المتواصل بآراء الآخرين ومقارنتهم بك. كرهك لنفسك لن يضر الآخر شيئا مثلما لن يضر كره الآخر لك شيئا فلا يقع الإنسان في كراهية ذاته أملا في أن يلحق الضرر بالآخرين لأن نفسه تستحق الأفضل ولأن إلحاق الضرر بالآخر بتلك الطريقة مستحيل. يقول أنيس منصور: الكراهية أشبه بشخص يبتلع السموم طوال الوقت في سبيل أن يموت شخص آخر.
ومنْ هنا، في داخل كلّ منا وحْي قلْبي يحْمل الخيْر والشّرّ، فالخيْر هو الوحْي الّذي يقودك للصّواب في الكثير من الأمور ومصْدره البصيرة، فهي عيْن القلْب، كما أنْ البصر هو عين البدن -كما قيل- وعرف الجرجانيّ -رحمه الله- البصيرة على أنها قوّة القلب المنوّر بنور اللّه يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها. وهي بمثابة البصر للنّفس يرى به صور الأشياء وظواهرها. وقال الكفويّ أيضًا في كتابه الكليات: "البصيرة هي قوّة في القلب تدرك بها المعقولات". قال تعالى: "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ". ذكر ابْن القيم -رحمه الله- في كتاب (مدارج السّالكيْن)، وبعْض أهْل العلْم في تفْسيرهمْ لكلمة (المتوسّمين) تعْني المتفرسين، والفراسة منْ التفرس بالشّيْء، كالتوسم، وهي خاطر يهْجم على القلْب وهي بنفْس معْنى البصيرة، ويثب عليْه وثوب الأسد على فريسته. هذا أصْل اشْتقاقها، ولها أنْواع متعدّدة تخْتلف باخْتلاف الأشْخاص، والأحْوال، وقوّة القلْب وصفائه، وقوّة الإيمان وضعْفه. قال الشّيْخ فرْحات السعيد المنجي. وهو منْ علماء الأزْهر: "إنّ المؤْمن إذا رأى أحدًا فأنّه يسْتطيع أنْ يعْلم بواطن الإنْسان الّذي أمامه بنظْرةٍ ثاقبة، وهذا منْ غيْر أنْ يعْلمه أحد بهذه البواطن". فالنّظْرة الثّاقبة هنا تتجلّى منْ وحْي بصيرة المؤْمن قوي الأيمان. صنّف ابْن القيم -رحمه الله- هذه الفراسة والبصيرة لعدّة أصْنافٍ، أرى أنّه لا داعي لذكْرها، فالحديث فيها يطوْل.
أمّا الشّر فهو الوحْي الّذي يقودك للخطأ، بلْ لخيباتٍ مصيريّة لا سبيل لنكْرانها. ومصْدر هذا الشر هو الشّيْطان والنّفْس. قال تعالى محذّرًا منْ خطوات وصوْت الشّيْطان: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر". وقال تعالى أيْضًا على لسان امْرأة العزيز مبيّنة خطورة النّفْس الأمّارة: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ". لكن كيْف يمْكن التّفْريق بين تمْتمات الصّوْت النّابع منْ البصيرة، والصّوْت النّابع منْ الشّيْطان والنفس الأمارة؟! هنا تتجلّى الفطْنة والدّهاء بكلّ تفاصيلها ودقّتها. لأنّ كلّ صوْتٍ يلْزم الدّخول في محطّاتٍ اسْتفْهاميّةٍ مركّبةٍ، وأوْلويّاتٍ دقيقةٍ مفصّلة عليْنا أنْ نجيب عليْها كلّها، ونضعها على ميزان القلْب والعقْل معًا، لنميّز هلْ هذا الصّوْت وحْي صحيح نابع منْ بصيرةٍ ثاقبةٍ، أمْ وحْي خاطئ نابع سطْوة جائرة.
عزيزي القارئ: إذن كيف تبدأ رحلتنا مع قبول أنفسنا؟: القبول هو صوت رحيم نحتاجه طوال الوقت بلا شروط، بلا أحكام. وحتى عندما نخطئ. فهو يساعدنا على تخطي الألم والتعامل مع الحياة. نحتاج إلى القبول غير المشروط من اللحظة الأولى في الحياة. وعندما نصل إلى الإشباع من ذاك القبول، نتعلم كيف نقبل أنفسنا ونتعامل معها، ونُلبِّي احتياجاتنا الشخصية بشكل صحي. وإن لم يحدث الإشباع لاحتياجاتنا وعلى رأسها القبول غير المشروط؛ فقد تظهر علينا مؤشرات رفض الذات. وكبداية لقبول أنفسنا الآن علينا ادراك الأتي:
• فلنقبل إنسانيتنا المحدودة: الإنسان بحكم تكوينه كائن محدود القدرات والمهارات فى هذا الكون الواسع. لذا فالأخطاء وارد أن تحدث طول الوقت وعلى كل المستويات. تذكير النفس بهذه الحقيقة يساعدنا على قبول محدودية الذات، وأنها ليست قادرة على القيام بكل شيء، وأنه لا داعي لكراهية النفس بسبب الخطأ أو الفشل.
• ضرورة التوقف عن إيذاء النفس: التوقف عن لوم نفسي على الأخطاء والسخرية منها حينما أقوم بأى سلوك. بل على أن اشكر نفسي على أي أخطاء تصدر مني، لأني سأتعلم منها. عليّ أن أصرف طاقتي وتفكيري لتحليل أسباب ودوافع وظروف الوقوع في الخطأ والتركيز على إصلاحها كي تكون حياتي أفضل.
• تعديل الصورة المثالية للذات: لدى كلٍ منا صورة مثالية لذاته يسعى للوصول إليها. ولكن في الكثير من الأحيان يكون هذا التصور مبالغ فيه وغير واقعى؛ مما يسبب الشعور بالإحباط بسبب عدم الوصول إلى تحقيق هذا التصور المستهدف. وبالتالي فالشخص بحاجة لمراجعة نفسه في تصوراته عنها، وأن يعرف ما هو ممكن ومتاح، وألا يُلزم نفسه بما لا يقدر عليه وما يتحدى حقيقة أنه كإنسان صاحب طاقة وقدرات محدودة.
• تجنب العادات الإدمانية: تجنب العادات الإدمانية كإدمان العمل أوالجنس أو الأكل أو التسوق أو الإنترنت، وبالطبع المخدرات. لأن جميع ما سبق يعمل على التغطيه على المشاعر "الغلوشة". فمساعدة النفس على قبول الذات، تبدأ من الحديث الصادق عن المشاعر ونقاط الضعف والتناقضات الداخلية والاحتياجات الشخصية مع من أثق بهم.
• الاستعانة بالتأمل اليومي: يمكن الاستعانة بالدعاء الأشهر بين زمالات العلاج الذاتي من الإدمان كنشاط للتأمل اليومي "اللهم امنحني السكينة لقبول الأشياء التي لا أستطيع تغييرها، والشجاعة لتغيير الأشياء التي أستطيع تغييرها، والحكمة لمعرفة الفرق بينهما". بهذا الدعاء يمكنني وضع قائمة بالأشياء التي لدي القدرة على تغيرها، وبالتالي سيكون لدي مع الوقت خطط لذلك. وقائمة أخرى بالأشياء التي ستبقى كما هي، حتى أتوقف عن إهدار عمري في محاولات تغييرها.
• طلب المساعدة المتخصصة: يسبب رفض الذات - لأسباب كثيرة - معاناة شديدة وغير محتملة لدى بعض الأشخاص، تجعلهم غير قادرين على أداء أدوارهم في الحياة، أو تجعل أفكار إيذاء الذات ومحاولات الانتحار مسيطرة عليهم. هذا يحتِّم عليهم طلب المساعدة المتخصصة من معالج نفسي.
الدكتور / رمضان حسين الشيخ
باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة
الخبير الدولي في التطوير الاداري والتنظيمي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.