تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تدمر حياتك في ايام؟
نشر في شباب مصر يوم 08 - 12 - 2019


الدكتور / رمضان حسين الشيخ
أن يعيش المرء وهو يكره ذاته أشبه بمن يكون في داخله شخص يتنمّر عليه؛ فهو ينتقده ويصدر عليه الأحكام ويجعله يشعر بأنه عديم القيمة أو فاشل أو سيئ أو قبيح أو مقزز أو سمين أو شرير أو غريب الأطوار. ويُقنعه هذا المتنمِّر في داخله بأن الناس المحيطين به ينظرون إليه على ذلك النحو أيضاً. وقد يؤدي ذلك إلى القلق والشعور بأنه من الصعب أن يتحمّل جسده أو شخصيته.
تنشأ كراهية الذات من دوّامة سلبية من عدم تقدير الذات التي تعود أسبابها لأمور عديدة؛ إذ ربما يعود ذلك إلى حادثة وقعت في سن الطفولة أو في مرحلة سابقة من الحياة، وجعلت ذلك الشخص يعتقد بأنه أقل قيمةً من الآخرين، وبأن فيه خطأ ما، وبأنه لا يستحق حب الآخرين. كما يمكن أن تكون كراهية الذات عرضاً من أعراض الاكتئاب أو اضطراب الشخصية غير المستقرة عاطفياً.
عندما تتفاقم كراهية الذات، هناك احتمال في أن يسلك المرء سلوكاً هدّاماً لكي يتعامل مع تلك المشاعر المزعجة أو لكي يخدّرها. وقد يكون إيذاء الذات أو جرح الجلد وسيلة لتخفيف القلق، كما قد يكون عقاباً للجسد أيضاً؛ إذ قد يشعر المُصاب بكراهية الذات أن جسده بحاجة إلى تطهير. وهناك طرق أخرى للاعتداء على الجسد؛ كاضطراب الأكل والإدمان على المشروبات الكحولية وعلى المخدرات. كما أنه من الممكن أن تراود المرء أفكار الانتحار أيضاً.
كراهية الذات والسلوك الهدّام يجعلان المُصاب بهما يعزل نفسه عن الآخرين؛ وبذلك فهو يخفي الحالة التي يمر بها ويخفي سلوكه أيضاً. ومن الشائع أن يشعر بالعار، فتزداد حالته سوءاً. وربما يشعر ذلك الشخص بأنه غير جدير بأن ينعم بصحة طيبة. وقد يجعله ذلك يهمل، أو ربما يتجنّب، كل ما يجعله يشعر بتحسُّن؛ كالغذاء المفيد والنوم الجيد والنشاط البدني والاختلاط بالآخرين.
في عام 1955 أنتج الأمريكيون فيلم الدراما العاطفية، يحكي الفيلم حياة شاب أمريكي من أصل إيطالي اسمه مارتي، يعمل بمهنة الجزارة، بلغ منتصف العمر بلا حب أو زواج ودون أن يجد امرأة تقبله لكونه "سمينًا قبيح الوجه" كما يرى في نفسه. فيجلس في إحدى المشاهد إلى طاولة العشاء مع أمه الأرملة التي يعيش معها لوحدهما لأن جميع إخوته تزوجوا، يندب حظه ويتأسف لحاله ويخبر والدته أنه لا يملك ما تحبه النساء ويرى أنه قبيح وسمين بلا جمال ولا جسم جذاب ولا مال ويقضي وقته يقارن نفسه مع إخوته والآخرين (فالجميع سعيد ومرتبط إلا أنا). بغض النظر عن البعد العاطفي لشخصية مارتي الذي نال الممثل (ارنست بورجنين) جائزة الأوسكار نظير تمثيلها فهو يعتبر حالة مثالية لشخص يكره نفسه، وهو ليس الوحيد فهناك الملايين مثله في هذا العالم.
عاش في الجزائر طبيب أعصاب معروف، ذو بشرة سوداء، يُدعى (فرانس فانون) جاء من بلاد جزر المارتينيك الواقعة في بحر الكاريبي، شغل منصب رئيس الأطباء في مستشفى الأمراض النفسية بمدينة البليدة أثناء الاستعمار الفرنسي، لكنه سرعان ما التحق بالثورة الجزائرية متخليا عن فرنسيته، فعمل مع الخلايا الثورية على الحدود الشرقية في تونس. خلال هذه الفترة سعى فانون إلى دراسة علاقة المستعمِر والمستعمَر وكذا تأثير الاستعمار على الإنسان صاحب الأرض، وعمد إلى محاولة تفسير ظاهرة تقديس المستعمر من طرف (الخونة) و(العملاء) الذين أدهشه كرههم للجزائريين من أبناء شعبهم رغم أنهم ولدوا وتربوا معهم، فحاول تشريح كل هذا من ناحية طبية نفسية مستغلا عمله وكفاءته في ذلك وانتهى الأمر بإصدار كتابه الشهير (معذبو الأرض) سنة1961 واضعا فيه بالتفصيل ما توصل إليه.
اهتدى فرانس فانون بعد دراسته الميدانية والنظرية إلى تفسير ما يحدث داخل عقول الخائنين والعملاء - وفي عقول من هم مثل مارتي أيضا- عن طريق ما أسماه ب (كراهية الذات) - باعتبارها متلازمة نفسية تنشأ في عقل الفرد نتيجة عوامل متداخلة فتنتهي بغرس فكرة كره الإنسان لنفسه. يقول فرانس فانون: كراهية الذات ينتج عنها مع الوقت كراهية الآخر، فالأشخاص الذين ينظرون لأنفسهم بدونية وعدم ثقة لا يستطيعون بطبيعة الحال أن يحبوا الآخرين بناء على مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه، فيلجؤون -كنوع من الانتقام- إلى محاولة نقل ما يوجد كينونتهم إلى العالم الخارجي وتصدير كراهيتهم للآخرين، وهنا تبدأ سلوكات الخيانة والاحتقار والنقد اللاذع والكراهية المفرطة والحسد وما إلى ذلك من سلوكات عدائية مختلفة ومتفاوتة الضرر كرد فعل نفسي على معاناة الفرد داخليا مثلما يقول إريك ماريا ريمارك: الكراهية هي أحد أنواع الحوامض التي تتلف النفس، ولا يفرق هذا الحامض بين كره النفس لذاتها أو كره الآخرين لها.
تنتج كراهية الذات من أسباب كثيرة تتجمع كلها أو بعضها في الشخص منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، التنشئة العائلية غير السوية، غياب الثقة في النفس الناتج عن خلل في تكوين شخصية الفرد منذ الطفولة والنقد اللاذع الذي يتلقاه باستمرار في عائلته ومحيطه، التجاوب السلبي مع المواقف السلبية التي يتعرض لها الإنسان أثناء حياته، الفشل المستمر في العلاقات الإجتماعية، التركيز المفرط على ردود الفعل اللاذعة اتجاه سلوكياته وأقواله، الشعور الدائم بالوحدة، الخجل والقلق الإجتماعي، اعتقاد الشخص باستحقاقه الذي لم يتحصل عليه، كل هذه الأشياء تجعله يعتقد بأن الآخرين يمقتونه وينبذونه ويحمل انطباعا بكونه أدنى من الآخرين على جميع الأصعدة فينتهي الأمر بإيمان الشخص بأنه عار دائم ويتولد عنده مركب النقص اتجاه نفسه. فيلجأ الإنسان في النهاية إلى الانعزال التام الاضطراري عن الآخرين، ثم إن الألم المتولد داخله عن ذاته يجعله يؤمن بتأثير الآخر عليه فلا يكره المريض ذاته فقط، بل يكره الآخر أيضا باعتباره سببا ونتيجة في عقدة (كراهية الذات) فيهاجم الآخر ليدافع عن نفسه.
إن كارهي ذواتهم ليسوا أولئك الخونة الذين يبيعون بلدانهم فقط، بل إنهم يحيطون بنا من كل جانب في كل زمان ومكان وأغلب الظن أنك تعاملت ولو لمرة واحدة في حياتك مع واحد منهم، قد يكون كاره الذات أبوك أو أمك، قد يكون أحد أقاربك أو أصدقائك، قد يكون معلماً مع تلاميذه أو أستاذاً مع طلابه، قد يكون مديراً مع موظفيه أو رئيسا مع مرؤوسيه، قد يكون أديبا مع قرائه أو طبيباً مع مرضاه، فكاره الذات قد يمتهن أي عمل لأنها لا تشمل أراذل القوم بالضرورة بل حتى أفضالهم. إنه ذلك الإنسان الذي يتنكر لأهله وعائلته ويرفض مساعدة الآخرين، ينتقد كل ما تتطلع عليه عينه ويعجبها، يحطم أحلام كل شخص يراه ناجحاً، يقزم انجازات الآخرين مهما بلغ حجمها، يلقي باللوم على الناس ويتهمهم بالغباء المطلق والنية السيئة ويشكك على الدوام في غايات وأهداف الناس، إنه شخص يرفض الإنتماء إلى أي شيء ويرفض المشاركة في كل شيء لا لشيء سوى لكونه يحتقر كل ما هو قادم من الآخر لأن هدفه الأساسي هو كره الآخر وتدميره.
يتصف كارهو الذات بالتغيير المفاجئ والمستمر لمزاجهم وشخصياتهم السطحية، كما أن بعضهم يلجأ إلى اخفاء مداخلهم عن طريق الاهتمام بالمظهر الخارجي وقد ينجحون في مسارهم العلمي والعملي لكن ذلك دون ترقية حقيقية في طباع شخصياتهم وطريقة تفكيرهم اتجاه الآخرين وقد يمتلك البعض منهم مواهب معينة لكنهم لا يعبأون بها ويرونها أشياء عادية في نظرهم. يحاول كارهو الذات بكل ما يملكونه من قوة تثبيط العالم الخارجي وممارسة أنانيتهم وساديتهم على الناس فيحسدون وينتقدون وينهرون ويتنمرون، في حدود ما يستطيعون، في سبيل نقل عقدهم الداخلية إلى الخارج لكونهم لا يرضون بأن يعيشوا لوحدهم ألم الكره والكراهية بل لا بد من مشاركة ذلك مع الأخرين وأظنه الشيء الوحيد الذي يريدون مشاركته معهم فعلا. وقد يعجز هؤلاء على التأثير في الآخرين لوحدهم وهنا سيتوجهون إلى الجهة الأقوى منهم والتي تخدم مصالحهم ضد من يستهدفون فيقع كارهو الذات في فخ تقديس القوي ضد الضعيف وهذا ما فعله ويفعله فئة من الناس ضد شعوبهم مع الاحتلال على مر تاريخ الحركات التحررية.
التعامل مع هؤلاء الفئة يكون بالتجاهل واتقاء الشر وان زادت حدة ضررهم فلا بد من قطع العلاقات معهم كلية. أما علاج المصابين بعقدة كراهية الذات فلا شيء سوى قبول أنفسهم كما هي والسعي لإصلاح الفاسد منها والرقي بمحاسنها، لابد لهم من إبصار آفاق أخرى للحياة واتباع الأسلوب العملي فيها، مع ضرورة الكف عن إلقاء اللوم على الآخرين باعتبارهم سببا في مشكلاتهم والتحرر التام والتدريجي من كافة العقد النفسية اتجاه الآخرين سواء بالعلاج العيادي أو التطوير الذات البشري، وبيت القصيد هو أن يدركوا أن وجود من يعاديك من طبائع الزمن والناس، لكن المهم أن تتحمل مسؤوليتك كاملة وتركز على نفسك وحياتك بدل الاكثرات المتواصل بآراء الآخرين ومقارنتهم بك. كرهك لنفسك لن يضر الآخر شيئا مثلما لن يضر كره الآخر لك شيئا فلا يقع الإنسان في كراهية ذاته أملا في أن يلحق الضرر بالآخرين لأن نفسه تستحق الأفضل ولأن إلحاق الضرر بالآخر بتلك الطريقة مستحيل. يقول أنيس منصور: الكراهية أشبه بشخص يبتلع السموم طوال الوقت في سبيل أن يموت شخص آخر.
ومنْ هنا، في داخل كلّ منا وحْي قلْبي يحْمل الخيْر والشّرّ، فالخيْر هو الوحْي الّذي يقودك للصّواب في الكثير من الأمور ومصْدره البصيرة، فهي عيْن القلْب، كما أنْ البصر هو عين البدن -كما قيل- وعرف الجرجانيّ -رحمه الله- البصيرة على أنها قوّة القلب المنوّر بنور اللّه يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها. وهي بمثابة البصر للنّفس يرى به صور الأشياء وظواهرها. وقال الكفويّ أيضًا في كتابه الكليات: "البصيرة هي قوّة في القلب تدرك بها المعقولات". قال تعالى: "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ". ذكر ابْن القيم -رحمه الله- في كتاب (مدارج السّالكيْن)، وبعْض أهْل العلْم في تفْسيرهمْ لكلمة (المتوسّمين) تعْني المتفرسين، والفراسة منْ التفرس بالشّيْء، كالتوسم، وهي خاطر يهْجم على القلْب وهي بنفْس معْنى البصيرة، ويثب عليْه وثوب الأسد على فريسته. هذا أصْل اشْتقاقها، ولها أنْواع متعدّدة تخْتلف باخْتلاف الأشْخاص، والأحْوال، وقوّة القلْب وصفائه، وقوّة الإيمان وضعْفه. قال الشّيْخ فرْحات السعيد المنجي. وهو منْ علماء الأزْهر: "إنّ المؤْمن إذا رأى أحدًا فأنّه يسْتطيع أنْ يعْلم بواطن الإنْسان الّذي أمامه بنظْرةٍ ثاقبة، وهذا منْ غيْر أنْ يعْلمه أحد بهذه البواطن". فالنّظْرة الثّاقبة هنا تتجلّى منْ وحْي بصيرة المؤْمن قوي الأيمان. صنّف ابْن القيم -رحمه الله- هذه الفراسة والبصيرة لعدّة أصْنافٍ، أرى أنّه لا داعي لذكْرها، فالحديث فيها يطوْل.
أمّا الشّر فهو الوحْي الّذي يقودك للخطأ، بلْ لخيباتٍ مصيريّة لا سبيل لنكْرانها. ومصْدر هذا الشر هو الشّيْطان والنّفْس. قال تعالى محذّرًا منْ خطوات وصوْت الشّيْطان: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر". وقال تعالى أيْضًا على لسان امْرأة العزيز مبيّنة خطورة النّفْس الأمّارة: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ". لكن كيْف يمْكن التّفْريق بين تمْتمات الصّوْت النّابع منْ البصيرة، والصّوْت النّابع منْ الشّيْطان والنفس الأمارة؟! هنا تتجلّى الفطْنة والدّهاء بكلّ تفاصيلها ودقّتها. لأنّ كلّ صوْتٍ يلْزم الدّخول في محطّاتٍ اسْتفْهاميّةٍ مركّبةٍ، وأوْلويّاتٍ دقيقةٍ مفصّلة عليْنا أنْ نجيب عليْها كلّها، ونضعها على ميزان القلْب والعقْل معًا، لنميّز هلْ هذا الصّوْت وحْي صحيح نابع منْ بصيرةٍ ثاقبةٍ، أمْ وحْي خاطئ نابع سطْوة جائرة.
عزيزي القارئ: إذن كيف تبدأ رحلتنا مع قبول أنفسنا؟: القبول هو صوت رحيم نحتاجه طوال الوقت بلا شروط، بلا أحكام. وحتى عندما نخطئ. فهو يساعدنا على تخطي الألم والتعامل مع الحياة. نحتاج إلى القبول غير المشروط من اللحظة الأولى في الحياة. وعندما نصل إلى الإشباع من ذاك القبول، نتعلم كيف نقبل أنفسنا ونتعامل معها، ونُلبِّي احتياجاتنا الشخصية بشكل صحي. وإن لم يحدث الإشباع لاحتياجاتنا وعلى رأسها القبول غير المشروط؛ فقد تظهر علينا مؤشرات رفض الذات. وكبداية لقبول أنفسنا الآن علينا ادراك الأتي:
• فلنقبل إنسانيتنا المحدودة: الإنسان بحكم تكوينه كائن محدود القدرات والمهارات فى هذا الكون الواسع. لذا فالأخطاء وارد أن تحدث طول الوقت وعلى كل المستويات. تذكير النفس بهذه الحقيقة يساعدنا على قبول محدودية الذات، وأنها ليست قادرة على القيام بكل شيء، وأنه لا داعي لكراهية النفس بسبب الخطأ أو الفشل.
• ضرورة التوقف عن إيذاء النفس: التوقف عن لوم نفسي على الأخطاء والسخرية منها حينما أقوم بأى سلوك. بل على أن اشكر نفسي على أي أخطاء تصدر مني، لأني سأتعلم منها. عليّ أن أصرف طاقتي وتفكيري لتحليل أسباب ودوافع وظروف الوقوع في الخطأ والتركيز على إصلاحها كي تكون حياتي أفضل.
• تعديل الصورة المثالية للذات: لدى كلٍ منا صورة مثالية لذاته يسعى للوصول إليها. ولكن في الكثير من الأحيان يكون هذا التصور مبالغ فيه وغير واقعى؛ مما يسبب الشعور بالإحباط بسبب عدم الوصول إلى تحقيق هذا التصور المستهدف. وبالتالي فالشخص بحاجة لمراجعة نفسه في تصوراته عنها، وأن يعرف ما هو ممكن ومتاح، وألا يُلزم نفسه بما لا يقدر عليه وما يتحدى حقيقة أنه كإنسان صاحب طاقة وقدرات محدودة.
• تجنب العادات الإدمانية: تجنب العادات الإدمانية كإدمان العمل أوالجنس أو الأكل أو التسوق أو الإنترنت، وبالطبع المخدرات. لأن جميع ما سبق يعمل على التغطيه على المشاعر "الغلوشة". فمساعدة النفس على قبول الذات، تبدأ من الحديث الصادق عن المشاعر ونقاط الضعف والتناقضات الداخلية والاحتياجات الشخصية مع من أثق بهم.
• الاستعانة بالتأمل اليومي: يمكن الاستعانة بالدعاء الأشهر بين زمالات العلاج الذاتي من الإدمان كنشاط للتأمل اليومي "اللهم امنحني السكينة لقبول الأشياء التي لا أستطيع تغييرها، والشجاعة لتغيير الأشياء التي أستطيع تغييرها، والحكمة لمعرفة الفرق بينهما". بهذا الدعاء يمكنني وضع قائمة بالأشياء التي لدي القدرة على تغيرها، وبالتالي سيكون لدي مع الوقت خطط لذلك. وقائمة أخرى بالأشياء التي ستبقى كما هي، حتى أتوقف عن إهدار عمري في محاولات تغييرها.
• طلب المساعدة المتخصصة: يسبب رفض الذات - لأسباب كثيرة - معاناة شديدة وغير محتملة لدى بعض الأشخاص، تجعلهم غير قادرين على أداء أدوارهم في الحياة، أو تجعل أفكار إيذاء الذات ومحاولات الانتحار مسيطرة عليهم. هذا يحتِّم عليهم طلب المساعدة المتخصصة من معالج نفسي.
الدكتور / رمضان حسين الشيخ
باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة
الخبير الدولي في التطوير الاداري والتنظيمي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.