يبدو أن الكراهية تراث إنسانى عريق؛ وهى تتأجج وتظهر إلى الوجود لأسباب كثيرة، منها: الغيرة، وتباين الطباع، واختلاف الرأى، وتضارب المصالح، والنزاعات العرقية، وتعارض الأديان، وصراع الأيديولوجيات السياسية، والاصطدام المهنى. وفى أحيان أخرى تكون الكراهية بسبب الاختلاف فى «فهم الدين». انظر إلى كراهية داعش لكل من تختلف معه، وكراهية الإخوان للسلفيين، والسلفيين للصوفية، والشيعة للسنة. انظر كيف يكره العلمانيون التيارات الدينية، وكيف تكره التيارات الدينية التيارات المدنية، ثم كيف تتحول هذه الكراهية إلى طاقة مولدة للعنف رغبة فى التعبير عن نفسها، حيث تدفع إلى المظاهرات غير السلمية أو التفجير أو القتل أو الإيذاء البدنى أو الإيذاء بالقول أو الخسارة أو القطيعة أو الإقصاء. وكل هذه الكراهية المؤججة للعنف بين المجموعات، بسبب الاختلاف السياسى الراجع إلى تباين المرجعية للدين؛ والغريب أن هذا الخلاف ليس بسبب الصراع من أجل مصالح الناس أو من أجل تمكين الدين، وإنما بسبب الصراع من أجل التمكين السياسى وتحقيق مصالح التيار أو الجماعة ولو على حساب الوطن أو الدين. والسؤال: هل الكراهية هى التى تولّد الخلاف، أم أن الخلاف هو الذى يولّد الكراهية؟ فى مصر نجد الحالتين: مرة يبدأ الأمر بالخلاف وينتهى إلى الكراهية، ومرة يبدأ بالكراهية وينتهى إلى الخلاف، والنتيجة واحدة هى أن الكراهية هى التى تجمع وتوحد كل مجموعة ضد الأخرى، وكأن قول أنطون تشيخوف يصدق علينا: «الحب والصداقة والاحترام لا توحّد الناس مثلما تفعل كراهية شىء ما». ومن هنا يمكن أن نفسر كل نزعات التدمير الموجودة عند جماعات العنف سواء فى مصر أو خارجها، وهنا يصدق تعريف أرسطو للكراهية بوصفها الرغبة فى إبادة الكائن المكروه. لكن ما لا يدركه الكاره الذى يدمر المكروه أنه يدمر نفسه أيضاً، وهذا ما سجله ديفيد هيوم عندما اعتبر أن الكراهية شعور غالباً ما يؤدى إلى تدمير الكاره والمكروه معاً. فمتى تدرك جماعات العنف أن ميراث الكراهية الذى تحمله سوف يدمرها هى أيضاً؟! إن نطاق الكراهية قد اتسع فى عصرنا أكثر من أى وقت مضى، ومن ثم أصبح نطاق الصراع أكثر اتساعاً؛ ففى العصور الغابرة كانت الكراهية محدودة، لأن الإنسان لم يكن يعرف إلا المحيطين به، وقلما يعرف شيئاً عن أحد سوى هؤلاء، أما الآن فنتيجة لثورة الاتصالات من إذاعة وتليفزيون وصحف صار الناس يعرفون الكثير بصورة ما عن طبقات وفئات عريضة من البشر ليس من أفرادها أحد من معارفهم المباشرين، وعن طريق السينما يخالون أنهم يعرفون كيف يعيش الأغنياء، وعن طريق الصحف يعرفون الكثير من شرور الأمم الأجنبية، وعن طريق الدعاية يعرفون الكثير عن الممارسات الشائنة التى ينغمس فيها كل من تختلف صبغة بشرتهم عنهم، فالبيض يكرهون السود، والمتدينون يكرهون غير المتدينين، وأهل التقليد يكرهون أهل الفكر، وهلم جراً. وأغلب أشكال العنف تخرج من تلك الدائرة «دائرة الكراهية»، بل إن صراع الأديان ضد بعضها بعضاً غالباً ما يكون نابعاً من الكراهية.. كراهية الديانة الأخرى لاختلافها عنها فى القيم والعادات ورؤية العالم؛ وربما كراهيتها لأن أهلها مختلفون عنا فى لون البشرة! ويكفى أن تستعرض شائعات الغرب عن الإسلام أو العرب أو السود على سبيل المثال لكى ترى أنها لم تصدر إلا عن شعور بالكراهية غير المبررة منطقياً فى كثير من الأحوال. وفى مصر غالباً ما ينجح الإعلام المناهض فى إثارة مشاعر الكراهية؛ ربما لأن القلب المصرى عند بعض الجماعات والطبقات الاجتماعية -على نحو ما تمت صياغته فى الثلاثين سنة الأخيرة- أميل إلى الحقد والكراهية منه إلى المودة والصداقة، وهو ميال إلى الكراهية لأنه ساخط، ولأنه يشعر فى أعماقه، وربما على نحو لا شعورى، أنه قد فاته معنى الحياة، وأن الآخرين ربما كانوا حاصلين على ما لم يحصل عليه من المتعة. وفى بعض الأحيان يكون سبب الكراهية غير ظاهر عكس الأسباب السابقة، بل يكون كامناً فى النفس البشرية؛ حيث تجد بعض النفوس لا تأتلف فيما بينها، وتجد شخصاً ما لا يتقبل شخصاً آخر، بل يكرهه، لا لشىء ظاهر. وهذا النوع يفسر على أنه يرتد إلى سبب نفسى أو روحى؛ فالأرواح، وإن شئت النفوس، جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. ومما تنتجه الكراهية أيضاً إصدار الشائعات وتناقلها، ومن الشائعات التى تعبر عن الكراهية، تلك الشائعة التى انتشرت أثناء حملة الانتخابات الرئاسية سنة 1944م فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، عندما ذاعت شائعة على شكل أغنية من المفترض فيها أن المتحدث هو فرانكلين روزفلت (1882-1945) موجهاً الحديث إلى زوجته، وكان روزفلت قد رشح نفسه لفترة رئاسية رابعة، تقول الأغنية الشائعة: «عليك أن تقبلى الزنوج، وعلىّ أن أقبل اليهود؛ وبهذا نظل فى البيت الأبيض حسبما نريد»، فهذه الأغنية الشائعة تعبر عن كراهية خصوم روزفلت له، فضلاً عن تعبيرها عن كراهيتهم لكل من الزنوج واليهود. وفى مصر وبعض الدول العربية الآن لا تنتج الكراهية شائعات فقط، بل تنتج أيضاً اغتيالاً معنوياً لكل ما هو جميل من تاريخنا وديننا!