أي قدر من التاريخ البشري كان نتيجة لاستجابة الناس للشائعات التي انتشرت بينهم؟ لعله قدر كبير، فإن الناس في الزمن الماضي كانوا يعتمدون علي الشائعة في معرفة الأخبار، فالراديو والتلغراف والتليفون جميعها استحدثت في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وقبلها كان الناس يجمعون فتات الأخبار من أفواه المسافرين أو من منادي القرية أو المدينة الذي كان يعلن عما لديه من أخبار كل يوم في ميدان عام! ولعل في أقصوصة حريق روما عام 46 بعد الميلاد مثلا لما قد يحدث من إختلاط الوهم بالحقيقة في التاريخ، فقد ذاع بين عامة الشعب ان نيرون، وهو امبراطور لم يكن محبوبا من رعيته، قد أشعل النار بنفسه في عاصمته، ووجد في ألسنة اللهب المندلعة في أركانها ما يسري عن نفسه، حتي أنه كتب في ذلك قصيدة من الشعر، ولم يكن هناك أساس معقول تقوم عليه هذه الإشاعة، ولكن الناس صدقوها واكدوا صحتها، ولم يجد نيرون مفرا من الدفاع عن سمعته بنشر إشاعة مضادة وهي أن المسيحيين وهم طائفة كانت مكروهة حينئذ، هم الذين أحرقوا المدينة الخالدة، وأثارت هذه البدعة من أحقاد الناس ما صرفهم عما سمعوه عن الامبراطور، فقد خيل للجماهير أن جريمة حرق روما عمل لا يأتيه سوي هؤلاء الناس، ومن ثم راحوا يصبون جام حقدهم علي المسيحيين المساكين، ونسوا طغيان الامبراطور، ولكن التهمة التي ألصقت به في البداية، ما لبثت أن عادت الي الظهور بعد مرور بعض الوقت، وعاد الناس يتحدثون عن قيثارته التي كان يعزف عليها، وحريق روما علي أشده!! وأصبحت تلك الأقصوصة تذكر في كتب التاريخ علي أنها حقيقة وقعت، بل وضرب بها المثل في القسوة والصلابة البشرية، مع أن السند التاريخي يعوزها من كل الجوانب! واكثر فصول التاريخ إمتلاء بالأساطير ما كان منها عن حياة أبطال الشعوب، فإن قصة الملك أرثر الانجليزي، وفردريك بارباروسا امبراطور المانيا، وجان دارك الفرنسية، حافلة بالأوهام إلي درجة يتعذر معها معرفة الحقيقة التاريخية! وقد تناولت الشائعات كل رؤساء الولاياتالمتحدة تقريبا، فالرئيس جيفرسون كان ملحدا ومنحل الخلق، وجارفيلد كان دائما علي خلاف مع زوجته، وآرثر كان منغمسا في الرذيلة مع سيدة مجتمع من واشنطجتن، وكليفلند كان يعود الي بيته في المساء مخمورا وينهال ضربا علي زوجته.. أما هاردنج فأشيع عنه أنه من دم زنجي، وفرانكلين ديلانو روزفلت وصم بأنه يهودي ومجنون أيضا!! وكثيرا ما تدخل هذه الأوهام الي التاريخ كحقائق يتعذر فيما بعد أن يقطع أحد بصحتها أو فسادها. وحين وقعت فاجعة زلزال سان فرانسيسكو في 81 أبريل سنة 6091، انتشرت في ربوع المدينة المنكوبة أقاصيص غريبة عما حدث فيها من أهوال، وقدروي جوتشمبرلين وهو صحفي مشهور شهد تلك المأساة أربعة من هذه الخرافات، وهي أن موجة هائلة إجتاحت مدينة نيويورك وأغرقتها في نفس الوقت الذي كان الزلزال يهز فيه جوانب سان فرانسيسكو، وأن شيكاغو قد إتبلعتها بحيرة متشيجان، وأن الزلزال قد أطلق وحوش حديقة الحيوان، فراحت تلتهم كل من يصادفها، وأن أصابع بشرية وجدت في جيوب اللصوص الذين كانوا لا يستطيعون خلع ما بها من حلي ومجوهرات. ويقول العلامة الروسي بابسو أن هناك ما يسمي بالاشاعة الزاحفة، وهي التي تنتشر في بطء، وما يلبس الناس أن يتناقلوها همسا حتي يعرفها كل إنسان، وهناك ايضا الاشاعة الجامحة، وهي التي تنتشر في سرعة خاطفة لانها تدور حول أمر يهدد بالخطر أو يشير بالخير العميم، وهي التي نراها تتطاير في أوقات المحن الكبري من حروب وأمراض، وعن الجرائم التي تتسم بالشذوذ! وهناك ايضا الشائعات الغاطسة، وهي التي لا تعيش طويلا، ثم تختفي لتظهر مرة أخري، وقد تشابهت الشائعات التي صحبت الحربين العالميتين الأولي والثانية، رغم تباين أسباب النزاعين، فإن الأقاصيص التي سمعها الناس فيما بين 4191 و8191 توارت حتي عام 9391 حتي أيقظتها كوارث الحرب التالية. مثلا ذاع بين الناس خرافة الاسير الذي قطع لسانه، وهي أن أسيرا امريكيا في معسكر ألمانيا أرسل الي أهله خطابا، وطلب اليهم ان يحتفظوا بالطابع الذي ألصقه علي الخطاب، ودعا ذلك أهله الي تقصي الأمر، فلما نزعوا الطابع وجدوا تحته كلمات عقدت ألسنتهم من الرعب، فقد قال الأسير فيها ان الأعداء قطعوا لسانه من جذوره. وقد وجدت هذه الأقصوصة طريقها الي الملايين رغم أن الحقائق تهدمها من أساسها، فإن أسير الحرب يرسل خطاباته دون طوابع طبقا للاتفاقات الدولية، كما أن قطع اللسان يؤدي الي الوفاة نتيجة لنزيف الدم، إلا إذا لقي عناية جراحية عالية الكفاءة مما لا يتوافر عادة لأسري الحروب. وفي عام 3491 ذاع في الولاياتالمتحدة ان جماعات من نساء الزنوج قامت تحت زعامة اليانور روزفلت زوجة رئيس الجمهورية بثورة علي الوضع السيء للزنوج في المجتمع الامريكي، وراحت الصحف تهاجم هذه الجماعات الوهمية، وتنكر علي زوجة الرئيس اشتغالها بذلك! وقد قامت وزارة الحرب الامريكية بدراسة واسعة لأثر الشائعات في طبقات الشعب المختلفة، فتبين أنها أشد تأثيرا علي المثقفين منها علي من هم أقل نصيبا من الثقافة، وكان هذا موضع دهشة للباحثين، فإن المواطن المثقف يجد فيما يسمع دائما مجالا للاستنتاج والتخمين مما لا يستطيعه فرد علي قسط ضئيل من التعليم! وتجد الشائعات أرضا خصبة أيام الحروب علي الأخص، حتي لجأت الكثير من الحكومات الي فرض غرامات فادحة علي مخترعيها، ولكن هؤلاء الذين وقعوا تحت طائلة العقاب، كانوا في الغالب من دعاة الهزيمة الذين يبثهم العدو لشل النشاط وإحباط الروح المعنوية!