يُقصد بالعمالة تسليم المرء نفسه لأيدى أعداء موطنه لينفّذ تعليماتهم بكل دقّة حتى ولو هدّدت مصالح ذلك الوطن وعبثت به وبمقدراته وأمنه القومى .. ويُقصد بالإنغلاق الفكرى تصلُّب المرء فى مُعتقده وهو بصدد قضية ما فلايقبل التزحزح عنها حسب تغير الظروف المُحيطة أو أدوات القوة المواجهة ويكون منطقه الكسب التام أو الخسارة التامة لتلك القضية ومن ثم لايؤمن فى مفاوضاته الا بلونين لاثالث لهما رغم كون المفاوضات الناجحة لابد وأن يشعر كل الأطراف من ورائها بالكسب كُلٌ حسب أوراقه الضاغطة وقدراته على أرض الواقع أمام من يتفاوض معه بل وقبل كل ذلك قدرته ومهارته التفاوضية بالأساس تلك التى تجلب له أكثر الأرباح وليس بالضرورة كلها وكذا أقل الخسائر وليس بالضرورة النجاة منها بالكُليّة .. اذ لايمكن انتزاع كل المكاسب وتلاشى كل الخسائر لطرف من الأطراف التفاوضية دون الآخر بعمل تفاوضى ناجح أو حتى بعمل عسكرى قوى وناجح كذلك .. اذ لو حدث ذلك بين طرفين لما إنتهت القضية محل الإختلاف انتهاءاً آمناً بين طرفى الخصومة ولإستمرت النزاعات حولها الى ماشاء الله .. ويُقصد بفقه المواءمات السياسية هو ذلك الفقه الذى بموجبه يتصف المرء بالمرونة وهو بقصد قضية تفاوضية ما أو حتى غير تفاوضية محل أخذ وجذب من أطراف عديدة .. فيضع المرء فى حساباته الظروف المحيطة أو أدوات القوة المواجهة ويكون منطقُه لاخسارة بالمطلق ولا مكسب بالمطلق وبمعنى أخر الخروج من القضية ذات الصبغة السياسية المُثارة بالحد الأدنى من الخسارة وبأقصى حدود الكسب .. وهذا يتطلب الإتصاف المُطلق بالمرونة والتى إن عظمت لدى شخص ما دعاهُ الساسة داهية بالعمل السياسى .. وأقرب مثال له فى تاريخنا السياسى الوطنى الرئيس الراحل السادات .. ومن رحم هذا الفقه كانت قاعدة (مالايُدرك كله لايُترك كله ) كما وقد وُصف هذا الفقه بفقه المُتاح والممكن والذى يعنى قبول المُمكن والمُتاح دون التجمُّد على عتبات المُستحيل .. وبين المفهومين الثانى والثالث يتحرّك مفهوم العمالة الأوّل قبولاً ورفضاً حسب إتّصاف صاحب الإدّعاء بها مرونةًً أوجموداً .. كما وبين المفهومين ذاتهما تتحرّك مهام الساسة وتتحرّك تقييمات الأعمال والأنشطة السياسية .. الأمر الذى يجعل من أعمال السياسيين محلاً للطعن عليها بالعمالة قدحاً أو بالدهاء السياسى والثعلبة التفاوضية مدحاً وتهليلاً وذلك من خلال وصف القائم بالتحليل وانتمائه لأيّاً من المفهومين المذكورين .. الإنغلاق الفكرى وفقه المواءمات السياسية .. والعامة لايتصفون فى الغالب بالمرونة الفكرية بعيدة النظر اذ هذه الأخيرة هى محض موهبة لاتُتاح لكل البشر على السواء فكما انه ليس كل البشر علماء وفلاسفة ليسوا كلهم كذلك ساسة ماهرين ومفاوضين حاذقين على السواء .. لذا لاينظرون الى قضاياهم العامة أو حتى الشخصية منها إلّا من خلال منظورين لاثالث لهما هما الأبيض والأسود ومن خلالهما يُفسرون انخفاض سقف المطالبات لدى المُفاوض تصاعداً وتنازلاً بالخيانة كما ويُفسرون قبوله لبعض مايفرضه الآخر شريك اللعبة التفاوضية عليه عمالةً أو إستسلاماً بمهانة بل وتفريطاً فى الثوابت والمُتفق عليه بينما هو فربما فرضت عليه آليّات اللعبة التفاوضية وماتُعززها من قُوى محيطة تصُبُّ فى صالح الطرف التفاوضى الآخر ومن ثم لايعلمون أن المفاوض أو السياسى يتصف دوره بالمرونة المطلقة بما يجعله الأقدر على الرؤية الواسعة للأمور محل التفاوض من خلال تقارير تمده بها المصادر الوطنية الإستخبراتية تلك التى لاتتوافر للعامة بل والنخب أنفسهم ولايمكنه تفسير مواقفه بافشاء أسرارها التى قد اطّلع عليها بحكم موقعه ووظيفته الوطنية .. فيتصرّف فى ضوئها وفى ضوء المخاطر المُحيطة والقوى المُتربّصة إقليمياً ودوليّاً بما من شأنها تؤثر فى درجة مرونته التفاوضية صعوداً وهبوطاً لذا لايضع الكسب لديه فى الأولوية على درء المخاطر وهذا له تأصيل فقهى متفق عليه ألا وهو قاعدة درء المفاسد التى هى مُقدّمٌةٌ على جلب المنافع .. ينتهى المفاوض أو السياسى من حلبة التفاوض أو من المشكلة محل الأخذ والجذب السياسى مُتّهماً فى حالتيه إن هو رفض كروت الآخر أو قبلها على السواء بل وان كان القبول والرفض بدرجات متفاوتة .. فهو فى كل الأحوال لن تتفق عليه العامة لكونهم كما قُلنا قاصرى النظر لايدركون حقيقة النتائج ولا وطنية مُسببها الا بعد زمن طويل من العمل التفاوضى كحال السادات بورقة كامب ديفيد وقد لهثت الأطراف العربية بعد جبهة الرفض والتصدى خلفه لتحقيق أقل القليل مما حقق لكن السهم قد نفذ من رميّته وإنقلبت المُعادلات فى أشكال جديدة فاستعاد الأراضى المصرية بينما الجولان والقضيّة الفلسطينية لازالتا قيد المد والجزر السياسيين حتى الآن.. لكن متى أفاق مُنتقديه ..؟! أفاقوا بعد زمن طويل من اتمام العمل التفاوضى الذى إقتنصه الداهية الفرعونى الأسمر .. يُوصف السياسى أو المُفاوض فى جُل قضاياه بأوصاف الخيانة والعمالة تارة وقبوله الدنيّة والخنوع والاستسلام تارة أخرى من قبل العامة لكنه يكفيه ماوصفه وطنه به وتاريخه المُقدس المكتوب على جدران التاريخ بالوطنية الخالصة والتى لابد يوماً ويُظهرها أبناء وطنه فى كُتب أطفال المدارس وضمير الأمة المُشرّف .. لكن العامة لهم أعزارهم فيما وصفوه بالنظر الى تحت أقدامهم لكونه قد أعمل فقه المواءمات السياسية فظنوه قد خان القضية وبات عميلاً للمتفاوضين معه .. لكنهم لايعرفون أن المتفاوضين معه من بعد انتهاء التفاوض قد أقرّوا أنفسهم له بنجاحه الباهر وقُدُراته التفاوضية الخارقة فثمّنوا دوره لإتصافه بالمرونة الزئبقية الخارقة لكونه قد فوّت عليهم مطامحهم من وراء إفشال العمل التفاوضى ليغتنموا الرأى العام العالمى فى صفوفهم وأدوات القوة الإقليمية والدولية المُتاحة لديهم والتى تصُبُ فى خانتهم بالأساس .. تلك التى تنتظر إشارة من سبابة المتفاوض معه لتبدأ مخططها التى هى جاهزةً له بينما قد فوّت المفاوض والسياسى الوطنى عليهم هذه الفُرصة وذاك الشراك .. بينما العامة فكانوا يُطالبونه بالإنزلاق الى مطالبهم الحنجورية الدافعة لبراثن الأعداء وهم لايشعرون .. فبات لديهم خائناً عميلاً بينما فى نظر السياسيين ومدارسهم موهبةً فذّة قد حمى بها بلاده فى أدق مراحلها تهديداً بأمنها ومخاطراً بحدودها من خلال المُستجدات الاقليميّة والداخلية المُحيطة ببلاده .. وفى نظرى فإن قوة الوطن تُعلى من قُُدُرات المفاوض أو السياسى فى التحرك بين القبول أوالتنازل وتزيده مرونةً ومقدرةً فى إعماله لكروته السياسية اللاعب بها زيادة ونُقصاناً .. السياسىُ الثعلب والمُفاوض الداهية هو من لايُعطى لأعدائه فُُرصة إختيار موطن نزاله ولا موعده اللذان لايصُبّان فى صالحه بالأساس ويُمثّلان أكبر خسارة ببلاده ان إنزلق إليهما .. أولئك اللذين قد يجرُّونه إليها بإعلامهم تارةً وبتحريض من الرأى العام العالمى عليه أخرى أو حتى الوطنى نفسه تدفعهم أصوات الحنجوريين تارة ثالثة .. اذ يجب أن يمنعه دهاؤه الوقوع فى براثن مثل تلك الخديعة وذاك الشراك وعليه أن يُفوّت على أعدائه مقاصدهم ولا يأخذ قراراً حماسياً لن يُحاسب التاريخُ أحداً عليه الّا هو ليكون مُستصرخ الأمس هو ذاته طاعنهُ فى المُستقبل .. ذكر داهيتنا الفرعونى الأسمر والوطنى الأسطورة السادات أنه لاسياسة فى الدين ولادين فى السياسة وكان قوله محض عمل سياسى صرف يصب فى معين عقيدته السياسية بإخراج الأصوليين والراديكاليين أعداءه جامدى الفكر ومُرجعيه عما قد قصد وعزم بإخراجهم من اللعبة السياسية واللتى فى نظره ان تواجدوا داخل صورتها لما أمكنه الحصول على مكتسباته العسكرية والسياسية معاً فروّج مستغلاً بعض رجال الدين والفقهاء بل والأُدباء للتأصيل لهذا المنطق وتلك القاعدة بينما هى فى حقيقتها غير صائبة وغير حقيقية اذ الاسلام هو مدرسة السياسة الأولى لكنهم لم يتعلمونها منه فصاروا موطن هدم لأعمال الساسة ومنهم السادات الذى أثناهم عن القيام بدور مُتجمّد ممقوت لن يُحرّك القضية ويجلب مساحة جديدة من الخسائر عسكرياً وسياسياً .. الإسلام ياسادة هو مدرسة السياسة الأولى وأول أكاديمية تؤصّل لفقه المواءمات السياسية .. ولقد ضرب محمد (ص) أعظم مثل على تبنيه هذا الفقه إنشاءاً لاتقريراً .. فنجده فى صُلح الحُديبية يقبل أن يعود عن مكّة من عامه هذا هو ومن معه من المسلمين ولايعود الا بعد أعوام عدّة كما وأن يرُدّ من أبناء قريش من أسلم منهم من بعد الصُلح اليهم ليقتلوه بينما هم فلايلتزمون باعادة من لحق بهم وقد كفر بعد إسلامه .. كما وقد قبل أن تُكتب وثيقة الصُلح من دون إشارة الى كونه رسول الله وقد قال أحدهم لكاتب الوثيقة : أُُكتُب محمد بن عبد الله فو الله لو علمنا أنّهُ رسول الله لاتبعناه .. وقد ثار ساعتها الصحابة لقبوله هذا الصلح وبهذه الصيغة حتى أن أحدهم قد رفع صوته تجاه رسول الله قائلاً : وكيف نقبل الدنية فى ديننا يارسول الله الا أنه (ص) قد عاد من عامه هذا قابلاً تلك الشروط التعجيزية.. لكنها السياسة وفقه المواءمات السياسية .. قبلها رسول الله فى ضعف .. لكن ما أن شعر بالقوة عاد فى عامه التالى فاتحاً مكّة وبقوة بعد أن اختلفت كروته السياسية وقوته العسكرية ففرض رؤاه وحلوله لمشكلته محل التفاوض ومحل المد والجزر ففتح مكة لا بعد أعوام كما اتفق معهم بل من عامه التالى ودخل دخول الفاتحين بينما أعداءه أقوياء الأمس هم اليوم صاغرون وقد سألهم ماذا يظنون أنه فاعلٌ بهم قالوا :أخٌ كريم وابن أخ كريم .. فقال : اذهبوا فأنتم الطُلقاء .. مارس محمد السياسة بدهاء ومهارة حاذقة فى المرة الأولى قبل الفتح .. وهو اليوم يمارسها بمهارة أروع عندما قضى على الثورة المُضادة من أهل قريش المكسورين فى هزيمة فأمّن من دخل منهم دار أبى سفيان وهو عدو الأمس ليصير الإسلام قوى البُنيان بعد ذلك الموقف ويصير أعداء الأمس أخوة متحابين لاخوف من عداوات مستقبلية فبنى الدولة لتترامى أطرافها من بعد ذلك .. أليس فى هذا سياسة .. وأليس فى ذاك مهارة تفاوُضية حاذقة .. وكيف للسياسة أن يخلو منها أعظم دين قد عرفته البشريّة كما قرر بهذا السادات .. الأمر الذى يدفعنى لأن أجزم بأنه مانطق الساداتُ بقوله هذا إلّا إعمالا للسياسة وأصولها ذاتها لتنحية الأصوليين والراديكاليين عن طريق نجاحه السياسى واللذين كانوا سيكونون معول هدم بجمودهم الفكرى لمشواره السياسى والتفاوضى الناجح .. إن مسئولية الدول ياسادة لاتحكمها العواطف كما الأفراد كما وتتطلب من الدهاء والحكمة ما لا قد تتطلبه الأمور الأخرى .. فإلتمسوا الأعزار للساسة والمُفاوضين السياسيين وإعلموا أن من وراء مايُقررون حقائق ومعلومات ومقاصد تجهلونها تلك التى لو توافرت أمام أعينكم لغيّرتم رؤاكم وتحليلاتكم وفلسفتكم وهرطقاتكم ورُبّما تكونون أنتم الأقل خبرة ودرايةً وموهبةً سياسية .. ان مايُحاكم به السياسى هو أصول العمل السياسى وليس بآليّات المحاكمات القضائية اذ قد يعُدّه القانون مجرماً بينما فتاريخ بلاده يثبت وطنيته ويكتب أحرف إسمه بماء الذهب .. لقد حاكموا المُختار جنائياً فأعدموه بينما قدّسه التاريخ .. وهكذا غاندى وجيفارا ومارتن لوثر كنج .. كما قد سُجن مانديللا جنائياً وعدّه التاريخ عظيماً.. ان أليّات التقييم السياسى ياسادة تختلف كل الاختلاف عن آليّات المُحاكمات الجنائية اذ الأُولى يحكمها فقه المواءمات السياسية بينما الثانية فلا صلة لها بها .. لقد وصفوا ناصر بزعامته وهو القومى العروبى صاحب قرار بناء السد وعدم الإنحياز وتأميم القناة والإصلاح الزراعى ومن قبل كل هذا وذاك حامل معول هدم الملكية المستبدة لكنه لم يكن بمهارة السادات الثعلب الداهية .. فأعاد الأخير سيناء عسكرياً وتفاوضياً فى عصر القُطب الأوحد وبداية أفول الآخر بينما الأول ففى ظل القطبين مجتمعين قد خسرها .. علينا أن ننظر الى النتيجة النهائية وماتحقق منها بغض النظر عن الأسلوب والطريقة .. فلاأخلاق فى السياسة .. تلك التى من أدواتها المكر والكذب والخديعة والدهاء مجتمعين ..اذ ليس بالضرورة أن يكون عدوُك ذو مضامين من أمانة وأخلاق .. ومن ثم يكون مندوبٌ لك خداعه .. اذ كما الحرب خديعة فالأعمال السياسية ذاتها لاتخلوا من أدوات الخداع .. فقد أمرنا أسلامنا ألّا نتنصل من الدهاء أمام عدو ماكر ومُفاوض داهية والّا فالخسارة مُحقّقة فى جانبنا .. فقال تعالى فى سورة الأنفال مخاطباً نبيه (ص) ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ) .. ومن ثم يكون هناك من المكر ماهو خير .. اذا ماكان مكر العدو متوقع حدوثه .. ومن ثم لا يجب علينا أن نحكم على أعمال السياسيين من خلال أصوات الحنجوريين فكم منهم من قد خفّض من صوته بمجرد أن تقلّد منصباً وزارياً لأنه قد إنقلب فى تلك الحالة من الوضع الحنجورى الجاهل لفقه المواءمة السياسية إلى الموقع السياسى المسؤول والمتطلب لتوافر ذلك الفقه ومضامينه .. ثم علينا أن نسأل أنفسنا فى النهاية : هل حافظت القيادة على حدود البلاد طوال حكمها .. أم ملأت أرض السيادة بالقواعد الأجنبية مُقدّمة الإحتلال .. وهل وهل وهل .. تلك هى القضايا الأعظم التى إن فوّتتها القيادة لايُمكن معالجتها إلّا بشق الأنفس ونزيفاً من دماء جديدة وأرواح من شهداء كُثُر ..بينما فالتى هى دونها يمكن استدراكها ببساطة مهما بلغت قيمتها من أموال ضائعة .. فالمال يذهب ويغدو بينما حُرمة الأوطان وقداسة سيادتها لاتسترجع من جديد.. السياسة لها أصولها ياسادة .. ولاعب السياسة كلاعب رُقعة الشطرنج قد يُلقى ماكراً بأعظم قوّاته طُعماً بمناورة ولكن بهدف إسقاط أعظم قوات خصمه كملكه أو وزيره .. فلاتحكموا على أوراق سياسييكم الخاسرة من قبل أن تضعون فى حساباتكم أعظم الخسائر التى تلافوهوا أو أعظم المكاسب التى قد حققوها حتى ولو فى سبيل هاتين النتيجتين قد خسروا من الأموال والكروت السياسية الكثير .. لاتحكموا ياسادة على الساسة بأدواتكم أنتم .. تلك الأدوات التى باتت تُوزّع إتهامات العمالة بإنغلاق فكرى يفتقر الى فقه المواءمات السياسية..