أصبح الآن الدفع بذلك الكم والثروة المعرفية كدس السموم في العسل الخالص النقي .. أصبحنا نحن من نُبدل هذا العسل الذي هو شفاءً للعقول إلى سماً قاتل يُذهب بحياة ونبض فكرنا وحياة عقلنا !! .. فكيف حدث ذلك ولماذا حدث من الأساس ؟! , وكيف لنا أن نفعل تلك الفعلة المُشينة في حق العقل الذي لا يكف عن البحث والتقصي والتضحية في سبيل الفكرة الهادفة البناءة , كيف لنا أن نجعله مجرد " إناء " يحوي ما يُمكن دفعه من علم لفترة زمنية محددة وبعدها نُخرج هذا العلم منه ونطرده كأنه مُستعمر غاشم قد إحتل أرضنا وفي أقرب فرصة قد أخرجناه في أقسى صور الإهانة والذل !! .. هذا هو وللأسف حال عقلنا في هذا الزمن العجيب , ترى العلم يُقال فيه أشعار وقصائد وتتهافت عليه الأقوال في دلالة على عظمة أثره وعظمة مكانة من يحمله على عاتق عقله من العلماء ولكن وعلى النقيض ترى الوسيلة في الحصول على هذا العلم في التدني يوماً بعد يوم , فكيف يمكنه إذا الإرتقاء بالعقل البشري إذا كانت طريقة الوصول له الوحيده وهي التعليم في حاجة إلى الفهم ؟, من المسئول عن تلك الحالة الغريبة التي تدفع طالب العلم إلى التشرب به وجعله يسري في دمه وعبر شريانه ويصبح نبض من نبضات قلبه وفكره , يُشاركه تفاصيل يومه ويخلد معه حينما يقرر الخلود إلى النوم , يثشاهد معه التلفاز ويتنزه معه في الحدائق ويشرب معه ويأكل معه ولا يتركه لحظة طيلة فترة دراسته له , وبعد ذلك الإختبار " المُميت " له يفنى ويتحول إلى مجرد ذكرى حتى لا يستطيع تذكرها !! , مجرد رماد يحاول لملمته والتخلص منه قبل أن يضره , تصارعه فكرة التخلص بما كان يحويه ذلك الإناء الذي هو " عقله " , وبعد أن يُنظفه ويتخلص من ذلك الضيف يعود ذلك الإناء من جديد فارغاً يكاد بريق نظافته يضيئ الكون حتى !! .. فهل تجد إي إستفادة من ذلك ؟! , هل تجد أن العقل قد وصل إلى أقصى درجات التعلم والثقافة التي لطالما تمنى أن يصل لها ؟ , وكيف ذلك وهو كلما يتقدم خطوة يتراجع المئات إلى الخلف !! .. ما الدافع من جعل طالب العلم يخرج من أداء إمتحانه وهو يجهل حتى إسم المادة الدراسية التي أدى فيها إختباره ؟! , وهل تعتقد أنه في تلك اللحظة قادر على إسترجاع معلومة حتى وإن كانت واحدة عما تخلل عقله من معلومات عديدة في هذا العلم الذي كان يتدارسه بل وكان يغرق فيه بكل حواسه ويجد في هذا الغرق نجاته ؟! حتماً الوضع غريب ويزداد في غرابته مع كل لحظة أكتب فيها أنا هذا المقال , وأشعر بالضجر لما وصل له حال الع وأشعر بالسخط لما وصلنا نحن البشر إليه من تدني لقيمة وتقدير هذا المنبع الفكري الفلسفي العظيم الأثر , الذي إذا أردنا وصف مدى عظمة أثره وما يفعله في عقولنا البسيطة قد أظل في مقعدي هذا أكتب وأكتب وأوصف حتى تقوم الساعة .. فهذا العقل الذي بدأ بأفكار بسيطة تبدأ ب : كيف بدأ الكون يا أمي ؟ , مروراً ب : ما الحكمة من خلقنا ؟ , إنتهاءً بأعمق الأفكار وأقصاها وأشدها إضطراباً وتوهجاً وإناره لظلمة وعتمه العقل , كيف لهذا العقل أن يتبدل حاله هكذا بين ليلة وضحاها من الظلام المخيف الذي يبعث في نفوسنا الفزع والنفور إلى كرنفال من الأضواء المبهجة التي تجعلنا نرى في ظلمة ليله قمراً مُشعاً مُتوهجاً بكل الأفكار التي تبني عقلنا وتزيده إبداع , وهذه هي وظيفة العلم يا كرام , فدون ذلك الكنز والثروة الضخمة لن نستطيع أن نتقدم نحن البشر خطوة في طريق إنسانيتنا , ولن يستطيع العقل أن يثب وثبة الفكر المثالي .. هل رأيت يوماً كنزاً ثميناً لهذه الدرجة ؟ , لا مال ولا جاه ولا سلطان يجعلك تشعر بنبض عقلك الحقيقي سواه , فمع كل حرف تبدأ بفهم معناه ومع كل علم تبدأ بتدارسه حق الدراسة يبدأ نبض عقلك هو الأخر في إسترجاع حياته , كأنها صعقة كهربائية قد أتت وحدثت في موعدها المظبوط المثالي في محاولة للحاق به وإنقاذه من ضياعه الذي كان مُحتم حدوثه ولكن بقليلاً من العلم إستطاع إسترجاع حياته الفكرية من جديد .. ذلك هو الكنز الأصلي لحياة عقلنا , ذلك هو المعنى الأساسي لإستمرار حياته , فدون أن يشعر بمعنى وجوده ويلمس أثر .. ذلك الوجود فلن يستطيع أن يحيا لحظة زيادة في هذا العالم , هذا العالم الذي قد حكم عليه بإعدامه قبل أن يشعر بوجوده فلا تبخل عليه بقيلاً من أكسجين تنفسه , لا تبخل عليه ببعضاً من العلم الذي يظل فيه حياً مهما طال الزمان أو إختلف المكان وتبدل من صحراء ذات رمال ذهبية إلى بحر ذو أمواج عاتية مضطربة , إجعله دوماً صاحب علم لا ينتهي أو يجف , كتلك الورقة التي تتساقط من الشجرة بعد أن أعلنت ذبولها وإنتهاء عملها الخلاب في بث الطاقة والجمال في الحياة , ولكن فصل الخريف قد قضى على حياتها وحيويتها , فلا تجعل أداء إختبار بسيط يتحول لفصل الخريف لمعلوماتك وعلمك , لا تجعل المعلومات هذه تتساقط في تسارع إلى أرضيه جمود الفكر القاسي , الذي وإن وقعت عليه أي فكرت أخذت تتهشم وتتكسر وتفنى وتتحل في تلك التربة , لا , بل إجعل علمك في عقلك دوماً مُزدهراً , يبعث في كل له فياضاً من الإبداع والإبتكار , لا يكتفي بمعلوماته الوحيدة بل يبحث دوماً عن الأكثر والأكثر , وإن وجد ما يبحث عنه لا يرضى عن نتيجة بحثه ويبحث من جديد , فقد يجد الأجدد الذي يدفع بعقله نحو المقدمة ويجعله حقاً يستحق لقب " طالب علم " .. فاطلب العلم ولا تكن دافعاً له لعقلك فقط , فالطلب هو الهدف الأسمى ومن يطلب الشئ حتماً سيصل له مهما كلفه الأمر