الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة-قسم الأدب العربي-جامعة عنابة تحولت ذكرى8فيفري1958م، منذ سنوات خلت، إلى رمز من رموز النضال في المغرب العربي،حيث امتزج فيها دم الشعب الجزائري بشقيقه التونسي،بعدما قصفت قوات الاستدمار الفرنسي قرية سيدي يوسف الحدودية...،بيد أن هذا الحادث الأليم،والذي كانت ترمي فرنسا من ورائه إلى قطع الروابط،وفصل التلاحم بين تونسوالجزائر،أضحى رمزاً يخلد ذكرى امتزاج دماء الأشقاء من أجل وحدة الهدف،والمصير. وبهذه المناسبة، فإن ما نسعى إليه من خلال هذه الورقة هو أن نُلقي وجهاً من الضياء،على جهود الدكتور محمد صالح الجابري في مجال تدعيم العلاقات الثقافية بين الجزائروتونس، وذلك من خلال الوقوف مع كتابه القيم الموسوم ب:«التواصل الثقافي بين الجزائروتونس». لا شك في أن الصلات الفكرية والثقافية بين تونسوالجزائر،تعد من النماذج الطريفة، والفريدة،و تعتبر نموذجاً للصلات الحميمة التي تنشأ بين قطرين حميمين، وكما عبّر عن ذلك الدكتور محمد صالح الجابري فهي تُعتبر مثالاً نادراً لعلاقات الجوار الإيجابي والخصيب بين الأقطار العربية التي تجمع بينها حدود مشتركة،وهي صلات ذات مظاهر متعددة،ومتنوعة،كما أنها مشتملة على ميادين شتى، تعليمية، وثقافية، وصحفية، وسياسية، ويُرجع الدكتور محمد صالح الجابري المصدر الرئيس لجسور التواصل بين البلدين إلى ذلك التحريض الذي أطلقه العلاّمة عبد الحميد بن باديس للطلبة مشدداً على ضرورة الالتحاق بجامع الزيتونة للنهل من علومه المتنوعة. ويتطرق الدكتور الجابري في مبحثه الأول من الكتاب،والموسوم ب:«احتفالات تونس بذكرى الشيخ عبد الحميد بن باديس» إلى ذلك الاحتفاء والتقدير الكبير الذي حظي به رائد النهضة الجزائرية في البلاد التونسية،فعبد الحميد بن باديس شيد جسوراً للتواصل بين البلدين،وكان كلما حلّ بتونس يحظى باستقبال حار،فيهب لاستقباله العلماء والساسة،وتفتح له النوادي والمنابر لإلقاء محاضراته،ويلتف التونسيونوالجزائريون حوله ويحتفون به أيما احتفاء ،وبعد وفاته أصبح تاريخ وفاته مناسبة وطنية مغاربية«وفُرصة لعقد اللقاءات، واستلهام العبر، وتجديد العهد مع النضال،وإلقاء الخطب والكلمات والقصائد التي تؤثل كفاح ونضال المغاربة ضد الاستعمار،وتُعرف بأمجادهم،وتستعرض صفحات من تاريخهم المجيد،فخلال خمس عشرة سنة من وفاة ابن باديس أقام التونسيون تارة بمفردهم،وطوراً بمشاركة المهاجرين الجزائريين إلى تونس سبع مناسبات لتكريمه بداية من سنة1946وحتى سنة1955،وكانت مدار هذه المناسبات شخصية الراحل العلمية والإصلاحية،ودوره في الإصلاح الوطني والديني،وما قدم من جليل الخدمات لترسيخ القيم والفضائل، والدفاع عن العروبة والإسلام، وبناء المغرب العربي،كما كانت هذه المناسبات منطلقاً للإشادة بنضال الجزائريين جميعاً ووطنيتهم،وتضحياتهم في سبيل وطنهم،ولما كانت الغاية من هذه المناسبات تعبئة المشاعر،وبعث الحماس والنخوة في نفوس المشاركين والمساهمين في إحيائها،ووصل ماضي كفاحهم بحاضره،والتأكيد على روح التضامن بين الشعبين التونسيوالجزائري،فقد استأثر الشعراء بصدارة هذه المنابر واللقاءات،وفاقت نسبة المشاركين منهم فيها نسبة الكتاب والخطباء والساسة،نظراً للتأثير الذي كان للشعر خلال هذه الفترة، ولحاجة الجمهور الماسة إلى الكلمة الصادية،والمنفعلة،والقادرة على إلهاب الحماس،والتجاوب مع ما يعتمل في النفوس من غليان وتوتر،ونزوع للثورة والرفض والتحدي والعناد والإصرار»(1). ويقصر الدكتور الجابري عرضه لما قيل في ذكريات الإمام عبد الحميد بن باديس في تونس على القصائد الشعرية،فيُقدم لها شرحاً وافياً فيما يتصل بمعانيها ،ومضامينها،فمن أبرز شعراء تونس الذين شاركوا في إحياء ذكرى الإمام ابن باديس:محمد الشاذلي خزندار، ومصطفى خريف، وجلال الدين النقاش،ومحمد زيد، ومنور صمادح، وفاطمة بوذينة،فقد عبر الشعراء في قصائدهم عن مواقفهم من الاستعمار،وعن تضامنهم مع القضايا المغاربية، ومؤازرتهم الشديدة لأشقائهم الجزائريين، ومثال ذلك قصيدة«قلب المغرب» للشاعر مصطفى خريف،والتي كتبها بمناسبة الذكرى السادسة لرحيل العلاّمة عبد الحميد بن باديس،فاستهلها بتحية الجزائر وبالترحيب بالجزائريين الطلبة في الزيتونة بقوله: حي الجزائر فهي قلب المغرب واهتف لفتيتها الكرام ورحب واحمل من الخضراء نفحة ودها للأقرب الأدنى لها فالأقرب من رأس أطلسها الأشم لسفحه ولغابه ولغيله المتأشب سطعت رباه وأينعت وتنفست كتنفس الإصباح بعد الغيهب تلك القوادم رنقت فأجابها خفقان قلب في الجوانح ملهب فابسط يداً لبني أبيك مصافحاً وخذ المحبة،واعط، وادفع واجذب فهم الأعزة من سلالة يعرب نفدي بمهجتنا سلالة يعرب(2) وقد ركز الشاعر مصطفى خريف في قصيدته على مكانة الطالب الجزائري في قلوب التونسيين،وأشاد بصمود الجزائريين في وطنهم،كما افتخر بتاريخهم الذي يحفل بالانتصارات والبطولات،وفي الأخير وقف للحديث عن العلاّمة الشيخ عبد الحميد بن باديس،باعث النهضة العلمية ،ورائد الجهود الإصلاحية،فيصفه بقوله: عبد الحميد أبَا البلاد وشيخها لا يستجد العرب غيرك من أبِ ذكراك تبعث في النفوس عزائماً فمنحت علًّتنا دواء مجرب صغت الحنيفة والعروبة مذهباً أكرم به،أكرمْ به مذهب ومضيت كالجبار هبَّ مُصمماً لم يثن همتَه نباحُ الأكلب وبذرت بذراً طيباً وسقيته الإ خلاص في البلد الكريم الطيب حتى استوى وربَا وأخرج شطأه فانظر إلى ثمرٍ وروضٍ معشب أشرق بروحك فوقنا وأمدنا بشهاب مقتبس،وأملل نكتب(3) ومن أهم قصائد الشاعر مصطفى خريف التي أشاد فيها بأرض الجزائر وأمجادها قصيدة«أرى فجراً يسري نحونا»،والتي ألقاها بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل العلاّمة عبد الحميد بن باديس،وذلك سنة:1948م،تلك المناسبة التي اشترك فيها كذلك الشاعر محمد زيد،الذي ألقى قصيدة ملؤها الشجن ركز فيها على ذلك الفراغ الرهيب الذي تركه رحيل رائد النهضة الجزائرية،فطفق يصفُ الظلام المخيم على الوجود،والطيور الصامتة، والربوع الناكبة ،وكل ذلك بسبب وفاة شيخ الأجيال: ماذا أقول ونايُ الروح أسيان ووجه دهري أكدار وأحزان والأفق مغفٍ فلا نور الصباح به مُحيِ،ولا نغم الأطيار فتان وغيمة الجو مد الساقيات،وأطباق وأدخنة تطغى وأدران(4) وأما الشاعر محمد الشاذلي خزندار،صديق ابن باديس، وزميله في الدراسة بالزيتونة،فهو يرى بأن ذكرى ابن باديس هي بمثابة تجديد للروابط والعلاقات بين أقطار المغرب العربي،وقد أهداه روائعه الشعرية،التي كان يستعيد من خلالها ذكرياته الخاصة به،وعلاقاته المتميزة معه،فيعبر من خلالها عن مدى توقيره،وتقديره لذلك العلاّمة الجليل،وكذلك الشأن عند الشاعر جلال الدين النقاش الذي طالما وصفهُ في شعره بأنه مفخرة للعروبة وللمسلمين قاطبة، وركزت الشاعرة فاطمة بوذينة في شعرها على إبراز الدعائم التي أرساها، والأسس التي وضعها منذ إطلاقه لصرخته المدوية بأن الشعب الجزائري مسلم،وإلى العروبة ينتسب،كما أنها جعلت مبادئه منطلقاً وتقديماً للوصف والتعمق في شمائل رائد النهضة الجزائرية. وأما الشيخ البشير الإبراهيمي أمير البيان،فقد جمعته علاقات طيبة بتونس، وأهلها،إذ يعود أول اتصال له بتونس وبالزيتونة،إبان إقامة أسرته بالمدينة المنورة،حيث تتلمذ على الشيخ محمد العزيز الوزير،و بوساطته تعرف على مكانة جامع الزيتونة، ودوره المتميز،فتوثقت صلته به،وأعجب به أيما إعجاب،وعلى الرغم من أنه لم يتخرج منه، ولم يقرأ فيه إلا أنه ما فتئ يُثني عليه كل الثناء،ومنذ أن انضم الشيخ الإبراهيمي إلى جمعية العلماء التي كان أغلبية أعضائها قد تخرجوا من جامع الزيتونة،كان متجاوباً تجاوباً كبيراً مع توطيد العلاقات بتونس ساعيا إلى ذلك بمختلف الطرائق الممكنة وذلك« نظراً لما كان يتميز به الإبراهيمي من حسّ سياسي، ومن إيمان متجذّر بوحدة المغرب العربي،ووجوب تضافر جهود أقطاره ومناضليه لإجهاض المخطط الاستعماري الذي كان يهدف إلى تمزيق شمل هذا المغرب، وفصله عن بقية الأقطار العربية الأخرى،وانتهاج سياسات متباينة بين أقطاره لتعميق الخلاف بين زعمائه،وخلق ما يُسمى بتضارب المصالح،وتأكيداً لهذه التوجهات نجد الشيخ الإبراهيمي الذي أوكلت إليه جمعية العلماء مهمة الاتصال الخارجي مع الأقطار العربية القريبة والبعيدة يشدّ الترحال مراراً إلى تونس للالتقاء بعلمائها وزعمائها،وللاطلاع على أحوال العمال والطلبة الجزائريين المهاجرين، والاجتماع بهم وحثهم على تكوين الجمعيات الطلابية والثقافية،والكتابة في الصحافة التونسية للتعريف بوطنهم وقضيتهم، وعقد الصلة مع نظرائهم في تونس ليكونوا حلقة الوصل بين الجمعية وبين سائر المؤسسات العلمية والوطنية في تونس، وبفضل هذه اللقاءات والزيارات،وهذا الدور الذي قام به الإبراهيمي على أكمل وجه نشأت جمعية(الطلبة الجزائريين الزيتونيين) في الثلاثينيات بتحريض من الإبراهيمي نفسه إثر اجتماع عقده مع العمال والطلبة في أحد أحياء العاصمة التونسية وهو حي(الحجامين)،إذ أشار إليهم الأستاذ الإبراهيمي بالكتابة في الصحافة التونسية،إظهاراً لما يُكابدونه من أتعاب،وقد تولى المهمّة أحد الطلبة فكتب عدة مقالات في الصحافة،ومن هنا ابتدأ إطار الطلبة يتكون ووحدتهم تقوى وتشتد فأصبحوا يكونون الاجتماعات الخاصة،ويشاركون كطلبة لهم وحدة أدبية في الاجتماعات العامة التي تعقدها الجمعيات المحلية»(5). وقد كان الشيخ الإبراهيمي-عليه رحمة الله-يُكنُ لأرض تونس الطيبة، وأهلها البررة،كل الحب والتقدير،وكان يصفها بأنها«قبلة الجزائر العلمية، ،ومنارتها التي تشرف منها على أنوار الشرق فلا عجب إذَا حرصت جمعية العلماء على تمتين الجبال الواصلة بين الجزائر وبنيها،وعلى توضيح ما يخفى من أحوال الجار على جاره، ولعل أروع الأناشيد الخالدة التي تجسد صدق عاطفة الكاتب نحو تونس وأهلها وزُعمائها يتمثل في رثائه للباي المناضل محمد المنصف الذي توفي سنة 1949والذي أبعدته فرنسا عن بلاده بسبب مواقفه الوطنية إلى مدينة(الأغواط)بجنوبالجزائر أولاً،ثم إلى مدينة(تنس)على شاطئ البحر غرب مدينة الجزائر قبل إبعاده إلى بلدة(بو)جنوبفرنسا حيث توفي،فكانت وفاته مبعث حزن لجميع المناضلين في الشمال الإفريقي،ومن ضمنهم الكاتب الذي أبنه بمقال يعبر عن لوعة المشاعر التي انتابته وانتابت كل الجزائريين حين بلغهم خبر نعيه،متمنياً لو أن الأقدار اختارت الجزائر تربة له لتحظى بهذا الشرف الأثيل، وتفسح له في جنانها وقلوب بنيها مكاناً عالياً إلى جانب الشهداء من أبنائها»(6). وأما عن أصداء كتابات الشيخ المبارك الميلي،وجهاد الأمير عبد القادر في الصحافة التونسية،فقد أحاط بها الدكتور محمد صالح الجابري في بحثين مستقلين،ففي البحث الأول الموسوم ب:«مبارك الميلي والصحافة التونسية»،تعرض من خلاله إلى الاهتمام الكبير الذي حظي به المبارك الميلي في الصحافة التونسية، وذلك عند صدور كتابه الهام «تاريخ الجزائر في القديم والحديث»،فركزت الصحافة التونسية الأضواء عليه،واحتفت به أيما احتفاء وأثنت على جهود صاحبه«واعتبرته من الأعمال الجليلة التي جاءت في إبانها،لا لتسد النقص الذي تشكو منه المكتبة الجزائرية فحسب،وإنما اعتبرته ضرباً من ضروب المقاومة،وتصويباً للأخطاء والمغالطات التي تقصَّد إليها الأجانب من المستعمرين في خطة مبيتة لتشويه تاريخ الجزائر، وفي المبحث الثاني المعنون ب:«أصداء جهاد الأمير عبد القادر في الصحافة التونسية»أبرز الدكتور الجابري الاهتمامات الكبيرة التي حظي بها كفاح الأمير عبد القادر الجزائري من قبل جريدة«الرائد التونسي»،إذ صدر خبر وفاته في أول عدد منها بعد الوفاة مباشرة،تحت عنوان:«نزيل دمشق وفقيدها»،وقد صيغ ذلك الخبر صياغة أدبية مليئة بالشجن والتفجع على رحيل الأمير عبد القادر،كما غلب على تلك الكلمة الاقتضاب والسجع،ووصف خصال الأمير الأدبية والعلمية والسياسية، وفي العدد الموالي منها خصصت الجريدة ملفاً خاصاً عن الأمير. وقد تضمن كتاب الدكتور الجابري عدة دراسات أخرى،نذكر من بينها: -نضال الجزائر في الشعر التونسي. -و مفدي زكرياء شاعر الوحدة المغربية. -و تونس في مذكرات مالك بن نبي. فذلكة: لا يملك المتبصر في هذا السفر إلا أن يُثني على الجهود التي بذلها الدكتور محمد صالح الجابري-عليه رحمة الله- من أجل تقديم دراسة وافية، ورؤى معمقة و متنوعة عن الوشائج الثقافية العميقة والمزدهرة بين البلدين، وأبحاث هذا الكتاب دالة على ذلك ،فقد تطرق من خلاله المؤلف إلى شتى الروابط الثقافية بين البلدين الشقيقين وأبرزها من خلال جملة من المنابر كالمجلات والجرائد والمسرح والرحلات والمذكرات، فيمكن القول إننا وقفنا مع أهم كتاب تناول العلاقات الثقافية بين البلدين، وأحاط بها من شتى الجوانب،فهو يعدّ موسوعة حقيقية،وإن أهم ما يتسم به كتاب الدكتور محمد صالح الجابري تلك الطريقة المنطقية، والمتسلسلة في طرحه لمواضيعه،فكلما غُصت فيه أكثر،ألفيت بأن أهميته ليست حكراً على تلك المواضيع وحسب، بل فيما يُقدمه لك من دعوات للتعمق، والبحث ، والتأمل بين دفتيه،فأنت تُقبل عليه ، وتستوقفك فيه خصال عدة،فتُعجب بتلك اللغة السليمة الصافية والأنيقة،وتنبهر بذلك الأسلوب الجميل والسلس على الرغم من بساطته، وابتعاده عن التكلف، والتصنع. الهوامش: (1)د.محمد صالح الجابري:التواصل الثقافي بين الجزائروتونس،دار الغرب الإسلامي،بيروت،لبنان،ط:01،1990م،ص:08. (2)د.محمد صالح الجابري:التواصل الثقافي بين الجزائروتونس،ص:12. (3) نفسه،ص:14-15. (4) نفسه،ص:20. (5) نفسه،ص: 36-37. (6) نفسه،ص:47. العنوان: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة MOUHAMED SAIF ALISLAM BOUFALAKA ص ب:76 A ( وادي القبة) -عنابة – الجزائر Èالمحمول: 775858028 (213) 00 أو 559884600 (213)00 الناسوخ (الفاكس) : 35155438 (213)00 البريد الإلكتروني : [email protected]