الدكتور / رمضان حسين الشيخ خلقنا الله سبحانه وتعالى مختلفين في أشياء كثيرة، منها الشكل والطباع واللغة والاهتمامات وغيرها الكثير، لا لشيء سوى أن نتعارف ونتشارك في ما بيننا ويعوض كل منا الآخر ما ينقصه وذلك في قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". وعلى رغم كل هذه الفروق والاختلافات بين البشر أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الله لا يفرق بين عباده، إلا على أساس التقوى فقط، وذلك في قول الرسول: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"، إذن الاختلاف هو أساس الكون، وبدونه بالتأكيد لا تستقيم الأمور. إن أول قصة إنسانية تعود إلى الاختلاف وانتهت بالاقتتال هي ما كانت بين قابيل وهابيل، اللذين تحاكما إلى تقديم القربان، ويشار في روايات التفسير أن هابيل قدّم كبشاً سميناً وهو أفضل ما يملك، في حين قدّم قابيل قمحاً رديئاً وهو أردى محاصيله الزراعية، وقد كسب هابيل الرهان، وأصبح من حقه أن ينتسب للمتقين. ولم يستطع هابيل أن يرد هذه الحقيقة، فكانت ردة فعله أن قال لأخيه «لأقتلنك». هكذا أنهى قابيل بالدم الاختلاف الراجع في أساسه إلى الغيرة والمكابرة، بينما رفض هابيل هذا الخيار بقوله: «لئِنْ بَسَطتَ إِليَّ يدَك لتقتلني ما أَنا بباسطٍ يدِيَ إِليكَ لأَقْتُلك إِنِّي أَخافُ الهَق ربَّ العالمينَ» (المائدة، 28)، لأن فيه تشريعاً لمبدأ التصفية، لتصبح الغلبة للقوة الجسدية، أو تصبح المراهنة على الخيار بين السكوت والرضوخ أو التهديد بالموت، لذا أرسى هابيل قاعدة التعايش مع الاختلاف ونبذ العنف. ولو استرجعنا التاريخ سنجد أن حياة الانبياء قبل تلقيهم اشارات الدعوة من الله عز وجل كانوا في حال اختلاف مع امتهم والشك لم يخمد داخلهم الا بعد تلقيهم رسالة الدعوة من الله. الاختلاف في الرأي يمثل جزءا من خصوصية العقل البشري بل انه يمثل عمق تميز الانسان عن غيره من المخلوقات، فكل المخلوقات الحية تتسق في حالة عالية من التشابه في المكون نفسه، لانها لا تملك عقلا يحركها تكتفي من الحياة بطعامها ومائها وهوائها وشيء من غريزة البقاء لاستمراريتها في الحياة دون تقدم وتطور.. لكن، يبدو أن للبشر رأيًا مختلفًا، الاختلاف بنظرهم لا يعني سوى الكراهية المتبادلة، المشكلة أن كل فريق يرى نفسه هو الأصح، وكل من عاداه باطل، هذه الفكرة المترسبة في الوجدان البشري تجعلنا غير قادرين على تقبل الآخر، أو الاعتراف بوجوده حتى، إذا نظرنا عن كثب، سنكتشف أن كل الصراعات، والحروب، والقتال، وحتى المشاحنات الصغيرة اليومية، تنطوي على هذه الفكرة، أنت مختلف معي في الجنس، في العقيدة، في المبادئ، في الجنسية، في الأفكار، في الميول، أنت تشجع فريقًا رياضيًا ما، وأنا أشجع الآخر، كل هذه الاختلافات تكبر وتتحول كل يوم إلى فجوة عملاقة ستبتلع الجميع. فلنتأمل قليلاً لنفهم كيف أن عدم تقبلنا للإختلاف هو في جوهره عدم تقبل للذات، فلولا الإختلاف لما كنا نحن نحن، ولما كنت أنت أنت، وهو هو.. إذن يختلف الناس من حيث الشكل واللون والعرق واللغة والمعتقد، أي أننا نختلف سواء من حيث الفطري أو المكتسب، لكننا نتحد من حيث جوهر الوجود، وجوهر وجود الإنسان ما هو إلا تحقيق إنسانيته، وفي مسعى تحقيق إنسانية الإنسان قد نختلف في الوسائل والسبل كما قد تواجهنا نفس التحديات وربما تختلف، لكن قد نتفق جميعاً على أن التحديات الحقيقية التي تواجه تحقيق الإنسان إنسانيته هي الجهل والفقر والظلم وغياب العدالة، وبالتالي فإذا تبين لنا العدو الحقيقي للانسان سيتحد الشخص مع أخيه وأبن عمه وجاره وأبن مدينته وأبن وطنه وأبن قارته... لمواجهة العدو الحقيقي للإنسانية، وبالتالي لن نفكر بعد ذلك في مشاكلنا الهامشية مع الجار أوأبن العم أو المنتمي إلى لغة ما أو عائلة أو قبيلة إلخ. من هذا المنطلق يجب علينا ترسيخ فكرة الاختلاف، بداية من الخُلق وصولاً إلى أقوالنا وأفعالنا. ومن المهم جداً تدريس رأي الإمام الشافعي، رضي الله عنه، عندما قال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". فإذا تأملنا فيه فسوف نتأكد أننا نحتاج إلى تعلّم ثقافة الاختلاف لا الخلاف؛ فليس كل ما يُعجبك بالضرورة سيُعجب الآخرين، وليس كل ما تؤمن به من أفكار ومعتقدات بالضرورة يكون له لدى الآخرين نفس الاعتقاد والإيمان أو له نفس الدرجة من التأثير والأهمية، وليس كل ما تراه صحيحاُ هو في نظر ورؤية الآخرين كذلك.. ليس كل ما تراه في مفهومك على كونه خطأ قد يبدو على نفس الصورة في مفهوم الآخرين.. كما أنه ليس كل ما يُناسب ذوقك وتعشقه قد يناسب الآخر ويقبله.. وقديما قيل: الناس فيما يعشقون مذاهبُ، وكما قيل: لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع.. إذا أخذنا هذا الفكر الراقي في الاعتبار، فلن يثور كل منا من أجل رأيه بل سيكون عليه أن يستمع إلى رأي الآخرين، وإذا أصر على رأيه فعليه أن يقدم الأدلة والبراهين على صدق كلامه، هذا إن لم يقتنع برأي الآخرين لأن لديه ما يثبت خطأ هذا الرأي. وأهم من إثبات الرأي طريقه إثباته، فيجب أن يكون هذا باللين والرفق في الكلام، لأن الكلام الليّن يغلب الحق البيّن. أما في ما يتعلق بالأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي، فكل إنسان يستطيع أن يأخذ بالرأي الذي يميل إليه قلبه. وهناك ما يسمى بالقاعدة الذهبية في فقه الاختلاف لدى علماء المسلمين، حيث يقولون: "نجتمع في ما اتفقنا فيه ويرحم بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه". مثال: "هل مصافحة الرجال النساء والعكس تنقض الوضوء؟". الامام أبو حنيفة قال: "إنها لا تنقض الوضوء"، أما الإمام الشافعي فقال: "إنها تنقض الوضوء". وإذا كان حال العلماء الاختلاف، فما بال غير العلماء؟ ما بال كل إنسان منا يتشبث برأيه ويتعصب له ويفترض الكذب فى الآخرين ويقلل من آرائهم؟ إن الاختلاف هنا هو مجرد اختلاف فى آراء حياتية وليس عقائد ثابتة. إذاً، لا بد لنا من ترسيخ هذا المفهوم لدى الجميع ألا وهو أن نتفق في الجوهر ونختلف في المظهر وأن نتعلم ثقافة الحوار والاختلاف، وفكرة الرأي والرأي الآخر، لأن لكل منا عقله وتفكيره، ولا يحب أحد منا أن يقلل الآخرون من شأنه أو يسفهوا رأيه. ويؤسفني أنني أشاهد يومياً إشتعال مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات التلفزيونية، وخصوصاً بعد ما سمي بالربيع العربي، بجدالات عقيمة تنتهي بالسباب والشتائم وحمل الحقد والضغينة على الآخر .. لأننا ببساطة لا نتقن ثقافة الاختلاف – ولا أعمم – ولم نتعلم منذ الصغر تقبل الرأي الآخر المختلف معنا سواء في الأسرة الصغيرة أو المدرسة أو الجامعة أو حتى على مستوى المؤسسات، وهذا ما يولد القمع داخلنا لنمارسه فيما بعد على الآخرين من حولنا لتصبح العلاقة متعدية وكل يتصرف بحسب سلطته. إننا نحتاج إلى إعادة صياغة حوارنا الأسري في المنزل وعدم اقصاء الطفل عن مجالسة الكبار لكي لا ينتج لنا جيل مكبل بالخجل والتردد وعدم الشجاعة الادبية والثقافية، ولم يعد لإقصاء الطفل / الشاب مكان في زمن المتغيرات، حتى نؤصل في ذاته كيف يتحاور مع الناس وذلك بالقدوة لجعله يحضر الحوار الاسري ويشترك بالحوار الاسري ويتم إحترام رأيه حتى نبني في شخصية الابن والبنت الثقة بالنفس والشجاعة الأدبية لأنهم هم الجيل الذي يعول عليه بناء ثقافة الحوار من الأسرة أولاً، ثم من المناهج التعليمية من خلال الحوار التربوي لينطلق بها إلى المجتمع في سلوك حضاري راق يجعل من الحوار سلوك حياة ينطبع على شخصيته في تعاملاته اليومية داخل البيت والمدرسة والجامعة وداخل مؤسسات المجتمع هنا نكون انتجنا جيلاً يعي ثقافة الحوار ويتمثله سلوكاً في القول والفعل، والاختلاف في طبيعته يمثل شكلا حضاريا، والمجتمعات التي لا تحترم مفهوم الاختلاف باعتباره حقا للجميع مجتمعات لا تتقدم بل تصبح في حالة ركود قاتل للعقول المبدعة.. والحل الأوحد هو تنمية ثقافة الاختلاف خاصة لدى الأجيال الجديدة، فهي وحدها القادرة على فتح آفاق جديدة رحبة لنا جميعا في تقبل الآراء الأخرى، والاستفادة منها، بل وتحويلها إلى فكر مستنير تشترك فيه عقول مختلفة.. ويجب أن نؤمن بأن الخلاف في الرأي يجب ألا يفسد الود، وأن مناقشة الأفكار أجدى وأكثر فائدة من اعتقال الآراء، وأنه إذا أشار إصبع إلى القمر، فالأغبياء وحدهم هم الذين ينظرون إلى الإصبع. فلقد خلق لنا المولى عز وجل أذنين، ولم يخلق لنا إلا فما واحدا فقط، لنسمع أكثر مما نتكلم، فمن منا لا يختلف مع الآخر؟ وهل هناك مشكلة في أن يكوّن الفرد لنفسه آراء خاصة به تعكس ثقافته وشخصيته وسلوكه؟ لذا، يجب علينا أن نعي ثقافة الاختلاف على أنها احترام كل وجهة نظر ورأي واختيار مخالف لآرائنا وأفكارنا واختياراتنا، وسماعه ومناقشته في أجواء يسود فيها الاحترام والهدوء وسعة صدر؛ وذلك بإفساح المجال لصاحبها للتعبير عنها وشرحها؛ فالاختلاف رحمة وهو سبب أساسي لازدهار المجتمعات، أما الخلاف فهو جوهر تحجّرها وتخلّفها؛ فهل آن الأوان لمجتمعنا المصري الذي يسكننا ولا نسكنه أن ينال حظه من تلك الثقافة خاصة في عهدنا الجديد؟! عزيزي القارئ.. فما أحوجنا في هذه الأيام لإتقان هذه الثقافة وتعلم أدب الاختلاف وعلى رأسها احترام الرأي الآخر وتقبل ما يقوله أثناء الحوار بغض النظر عن القناعة به، والتسامح معه مهما تباعدنا في وجهات نظرنا أو معتقداتنا الدينية أو العرقية أو المجتمعية. وهنا علينا أن نبدأ بأطفالنا لينشأ لدينا لاحقاً بعد جيل ديمقراطي يقر بحرية إبداء الرأي بعيداً عن التعصب والكراهية، جيل يحاور برقي ولا يعرف الإقصاء. وفقنا الله وإياكم لما فيه خير وطننا العزيز.. اللهم احفظ مصر بلداً أمنا بقيادته الحكيمة وارزق أهله من الثمرات والخيرات ومتع أهله بنعمة الأمن والأمان انك على كل شئ قدير. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي مصمم منهج فرسان التميز لتغيير فكر قادة المؤسسات [email protected]