د. أحمد صبحي منصور مازال الحديث موصول حول موضوع فوازير رمضان الفقهية السمجة الصيام بين تيسير الإسلام ورذالة الفقهاء ونقول بعون الله تعالي الأتي :- 1 بعد الصحوة التي أسسها أهل القرآن ، وبعد أن ألقينا أحجارا في بركة التفكير الراكدة الآسنة تجرأ كثيرون على نقد الموروث والمتواتر ، ما كان منه صحيحا أو باطلا . وتجرأ كثيرون على البحث في القرآن الكريم بلا استعداد أو تأهيل فكرى ، يدخلون عليه بأهوائهم ، فمن يريد جعل الصلاة ثلاثة أو اثنتين ينتقى من الآيات ما يريد ، ومن لا يعجبه تشريع عقوبة السارق يستشهد بآيات قرآنية يرد فيها مصطلح ( قطع ) بإسلوب المجاز جاهلا أن آيات التشريع تأتى بأسلوب علمي محدد لا مجاز فيه ، ومثله من يرفض تشريع ( فاضربوهن )، ومن يريد تعطيل الصيام يشكك في التقويم القمري ،. من هنا استمرت ( فوازير رمضان ) أو( أساطير رمضان ) بفضل الفقهاء الجدد. 2 إذ ظهرت مقولات حديثة تشكك في التقويم القمري والذي على أساسه يتم حساب شهر رمضان والأشهر الحُرُم وما كان يحدث من نسيء . ويصل القارئ المقتنع بهذا إلى الشك في أن رمضان الذي نصومه ليس رمضان الحقيقي . هذه مقولات خاطئة تماما . ولو افترضنا جدلا صحة هذه المقولات وإنه على سبيل الافتراض أن الناس صاموا شهر رجب على أنه شهر رمضان ، فالمستفاد مما سبق أن الله جل وعلا الغفور الرحيم لن يؤاخذهم ، طالما يصومون ابتغاء وجه الرحمن جل وعلا . ولكن نتوقف في لمحة للرد على هذه المزاعم : ثانيا : 1 قبل نزول القرآن الكريم بقرون كانت الحضارات القديمة تعرف التقويم الفلكي؛ القمري والشمسي ، من الصين شرقا إلى حضارة المايا في أمريكا الجنوبية ، وما بينهما من حضارات الهند والعراق وإيران والمصريين القدماء . ولم يكن العرب قبل الإسلام بعيدين عن هذه المعرفة ، بل كانوا يؤدون على أساس التقويم القمري فريضة الحج كل عام في الأشهر الحُرُم الأربعة ، والله جل وعلا عندما تكلم عن فريضة الحج كأحد معالم ملة إبراهيم قال : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) البقرة197 ) . قال جل وعلا (أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) ، لم يذكرها جل وعلا لأنها بالنسبة لهم (أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ). كانت معلومة بالنسبة لهم ، ويتجلى هذا في سؤالهم عن مشروعية القتال فى الشهر الحرام : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) البقرة 217 ). 2 وفى تشريع خاص بزمانه ومكانه أعطى رب العزة مُهلة الأشهر الأربعة الحُرُم للمشركين الكافرين المعتدين على البيت الحرام بعد فتح مكة ، وكان أولئك المعتدون قد نقضوا العهود ، وهمُّوا بإخراج الرسول من مكة ، وهى تفصيلات قرآنية تشير لأحداث هائلة أهملتها سيرة ابن اسحق ، وهو أول من كتب السيرة للخليفة المهدي العباسي ، وتناقض فيما كتب مع ما جاء عن سيرة النبي والمؤمنين ومن حوله في القرآن الكريم ، وتجاهل الكثير من الوقائع تقربا للعباسيين الذين كان جدهم ( العباس ) مشركا قائما بسقاية الحاج ، ونزل فيه قوله جل وعلا : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) التوبة ) . يهمنا هنا الإنذار الذي وجهه رب العزة جل وعلا للمشركين المعتدين ، قال جل وعلا : ( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)التوبة 2:(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)التوبة 5). ونفهم منه بعد تلاعب المحمديين بالأشهر الحرم أن الأشهر الحرام تبدأ بافتتاح موسم الحج في أول شهر ذي الحجة ثم تتتابع إلى نهاية الشهر الرابع : ربيع الأول . صحابة الفتوحات بزعامة أبى بكر وعمر وعثمان استحلوا الأشهر الحرم وقاموا فيها بفتوحاتهم الظالمة المناقضة للإسلام ، وبعدها صارت سُنّة سيئة للمحمديين نسيان الأشهر الحرم واستحلال الاقتتال فيها وفى غيرها . العرب في الجاهلية كانوا أقل سوءا ، مع معرفتهم بالأشهر الحُرُم كان يقومون فقط بالنسيء ، يستحلون شهرا منها ويستبدلونه بشهر آخر من بقية الأشهر ، وهذا هو زيادة في الكفر كما قال جل وعلا ( التوبة 37 ) ، ولكن نستفيد منه معرفتهم بمطالع الشهور القمرية والتقويم القمري. 3 وفى التأكيد على معرفتهم بالتقويم القمري نذكر أن من تشريعات القرآن الكريم ما جاء منها مرتبطا بالشهر القمري المتعارف عليه ، مثل الايلاء ( البقرة 226 ) وعدة الأرملة ( البقرة 234 ) وعدة المطلقة ( الطلاق 4 ) وكفارة الظهار ( المجادلة 4 ) . ونفس الحال في شهر رمضان بقوله جل وعلا : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) البقرة 185 ) . هنا خطاب لأناس يعرفون ما هو شهر رمضان وما هو الصيام . 4 ولقد سألوا النبي محمدا عليه الصلاة السلام عن الأهلة ( جمع هلال ) وكالعادة لم يبادر عليه السلام بالإجابة ، بل انتظر حتى تأتى الإجابة من رب العزة ، ونزل قوله جل وعلا : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) سورة البقرة ويتعرفون على مقدم الشهر القمري من رؤية الهلال في سماء صحرائهم الصافية. جاءت الإجابة بأن ( الأهلة ) هي ( مواقيت للناس) أي في تحديد الأشهر وفى تحديد بداية شهور ( الحج ). 5 في القرآن الكريم إشارات للتقويمين الشمسي والقمري ، فالله جل وعلا يقول : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 96 الإنعام ). الشمس والقمر ( حسبانا ) أي بدوار القمر حول الأرض وبطواف الأرض حول الشمس يكون الحساب للشهور والسنين ، بالتقويم القمري وبالتقويم الشمسي . هذا خطاب خوطب به العرب وقت نزول القرآن الكريم ، وهم الذين كانوا يعلمون الاهتداء بالنجوم في أسفارهم وصحرائهم وسمائهم الصافية ، يقول جل وعلا يخاطبهم بما يعلمون في الآية التالية : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) الأنعام ) ويكرر ذلك ويؤكده (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل ). بل يقول رب العزة يخاطب خاتم النبيين عليهم جميعا السلام : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) الطور ) أي يأمره بالتسبيح بالليل وحين تدبر اى تختفي النجوم ، أي يخاطبه بثقافة معروفة في عصره ، ثقافة تتعامل ليس فقط مع التقويم القمري بل مع النجوم . وفى هذا السياق نقرأ قوله جل وعلا في توقيتات فريضة التسبيح المنسية : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) طه ) ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) الروم ) (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) ق ) فى التأكيد على أنهم كانوا ( يعلمون ) هذه الآيات الإلهية فيما خلق الله جل وعلا نستشهد بالمزيد : يقول جل وعلا : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) يونس ). هنا تفصيل ( لقوم يعلمون) أن الله جل وعلا قد ( قدّر القمر منازل) ليعلموا وليتعلموا من خلاله عدد السنين والحساب بالتقويم القمري. ويقول جل وعلا أيضا عن منازل القمر من المحاق إلى الهلال إلى البدر : ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) يس )، والعرب هم الذين ابتدعوا أسماء لمنازل القمر تدل على علمهم الدقيق بها . كما يقول عن التقويم الشمسي والقمري : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) الرحمن ) ، ويقول رب العزة : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) الإسراء ). هذه آيات خوطب بها العرب الذين يعرفون التقويم القمري وبه يتعاملون ويؤدون الحج والصيام . والشعر الجاهلي يتجلى فيه هذا العلم . وهناك إشارة للفارق الزمني بين السنة القمرية والسنة الشمسية في قوله جل وعلا : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)الكهف )، أي 300 سنة بالتقويم الشمسي أو 309 بالتقويم القمري . 4 التقويم الشمسي تتبعه الفصول الأربعة . ومن رحمة الله جل وعلا أنه لو كان الصيام بالتوقيت الشمسي لظل الصيام في الشتاء فقط أو في الصيف فقط أو الربيع فقط أو الخريف فقط ، وبدون تغيير . التقويم القمري يجعل رمضان يحلُّ بتتابع زمني دقيق في كل فصول العام ، بما يُضاف إلى التيسير الذي يصاحب تشريع الإسلام وتشريع الصيام على وجه الخصوص . 5 ولا يقولنّ أحد أنه حدث مثل هذا الخلل في تحديد بداية رمضان ونهايته في الحضارة العربية . شهر رمضان كان يمثل مناسبة هامة ، يسجلها المؤرخون ، وتقام فيها الاحتفالات ، واستحدثوا في نهايته عيد الفطر . أي ليس شهرا منسيا . أضف إلى ذلك معرفة العرب والأمم المفتوحة بالحساب الفلكي ، ثم شهرة علماء العرب والمسلمين في هذا المجال بحيث أخذ عنهم الغرب.وذلك موضوع يطول شرحه لو دخلنا في إسهام المسلمين والعرب في علم الفلك ، وهو موضوع معترف به من الغربيين ، إذ كان العلماء العرب والمسلمون منارة للعالم وقتها ، هذا قبل أن يقضى الحنابلة على تلك الحركة العلمية ، وكل ما أسهم الحنابلة في علم الفلك خرافاتهم بأن الشمس عندما تغرب تذهب لتسجد للرحمن و.. الحديث الملعون ( صوما لرؤيته )، الذي قام بتغييب الحساب الفلكي عن تحديد بداية ونهاية شهر رمضان . وقد أفردنا له مقالا بهذا العنوان . أخيرا نعيد تأكيد ما سبق : ظهرت مقولات حديثة تشكك فئ التقويم القمري والذي على أساسه يتم حساب شهر رمضان والأشهر الحُرُم وما كان يحدث من نسيء . ويصل القارئ المقتنع بهذا إلى الشك في أن رمضان الذي نصومه ليس رمضان الحقيقي . هذه مقولات خاطئة تماما . ولو افترضنا جدلا صحة هذه المقولات وإنه على سبيل الافتراض أن الناس صاموا شهر رجب على أنه شهر رمضان ، فالمستفاد مما سبق أن الله جل وعلا الغفور الرحيم لن يؤاخذهم ، طالما يصومون ابتغاء وجه الرحمن جل وعلا . كل عام وأنتم بخير . ---------------------------- د. أحمد صبحي منصور من علماء الأزهر الشريف سابقا