دكتور على عبد الله بركات “لقد استغرق قطع رقبته دقيقة أو بعض دقيقة من الزمان، لكننا قد نحتاج إلي قرن كامل قبل أن ننجب عالما آخر مثله”….. العالم الرياضي المعروف “لاجرانج”. لا يعرف الكثيرون أن التحريض على الثورة الفرنسية كان يقوم على الإشاعات التي نالت من الملك والعائلة المالكة ورجالات الحكم في فرنسا.. فقد تم تشويه صورة الحكام بطريقة ممنهجة ومنظمة.. وكان رائد تشويه الملكية الفرنسية في ذلك الوقت الفيلسوف الفرنسي “فرانسوا ماري أروي” الشهير ب”فولتير” ( 1684-1778) الذي كانت كتاباته تغمز وتلمز على الملك لويس الرابع عشر، وشرعية الملك لويس الخامس عشر.. ومن بين الافتراءات التي ظل فولتير يحوم حولها كي يجعلها تتحول من فرية إلي حقيقة في ذهن الناس، موضوع السجين الغامض الذي أودعه لويس الخامس عشر في السجن، وأطلق على هذا السجين الرجل ذو القناع الحديدي.. فقد أخذ فولتير –مستغلا الغموض الذي يلف قصة هذا السجين- في نسج فرية نالت من حب واحترام العائلة الملكة في نفوس الناس في ذلك الوقت.. فقد أشاع في سطور كتاباته أن هذا السجين هو الابن الشرعي للملك لويس الرابع عشر.. وان أخيه الملك لويس الخامس عشر ابن سفاح أنجبته الملكة من علاقة غير شرعية مع أحد الكرادلة.. ثم استغلت الملكة الظروف فألقت بالملك الشرعي في السجن وفرض عليه عدم كشف وجهه كي لا يعرف الناس الشبه بينه وبين والده الملك.. فقد كانت الإشاعات، وما تزال هي السلاح الفتاك الذي يستخدمه الطامحون للسلطة في بعض المجتمعات.. ففي سبيل الوصول للحكم تغتال جماعات اليمين المتطرف في الدول العربية الحكام معنويا بما تبثه من إشاعات، يستقبلها العامة كأنها حقائق مسلمة.. وإبان أحداث 25 يناير 2011 في مصر تصاعدت الإشاعات عن ثروة مبارك، التي أخذت تبثها قناة الجزيرة، وقت أن كان لها مصداقية عند المصريين.. ثم تبددت هذه الأوهام بعد أن استحوذ اليمين المتطرف على الحكم في مصر، ودان له القضاء بتعين نائب عام ينتمي لهذا التيار، وفشل فشلا ذريعا في إثبات أن مبارك كان يمتلك أموالا طائلة كما كان يشاع وقت أحداث 25 يناير في مصر.. ولم يكن أحد من المصريين البسطاء يتصور أنه استخدم وقودا لحرق نظام فاشل كي يحتل مكانه نظام أكثر فشلا.. لم يكن أحد يتوقع أنه يثور على نظام لمصلحة حكام جدد لا تعنيهم من قريب أو بعيد قيم الحرية والعدالة والعيش الكريم التي كان ينادي بها الثائرون.. لم يكن يدور بخلدهم أنهم يهدمون نظاما – مهما تحفظ المرء على أدائه لم يكن سوى نظاما وطنيا- ليقيموا مكانه نظاما خائنا للثوابت الوطنية.. لم يكن يدور بخلد بعض المصريين وهم يرفضون نظام مبارك أنهم يمهدون الطريق لقوى الظلام كي تتمكن من بلادهم لتذهب بها نحو المجهول.. فما أشبه اليوم بالأمس.. إنها حوادث متكررة وإن اختلف الزمان والمكان، واختلفت الأسماء والمسميات.. فبعد وقت قصير من اشتعال الثورة الفرنسية بنهاية القرن الثامن عشر، أصبح الزمام في يد المتطرفين، فشاع في فرنسا كلها القلق والخوف والرعب والذعر.. وهو ما يطلق عليه عصر الإرهاب الثوري.. فباسم “الشعب” يريد أشيعت الفوضى في أرجاء فرنسا.. فقد قبض -باسم الشعب يريد- على الملك والملكة وسيقوا من القصر نحو المقصلة.. وأقام زعماء الثوار في قصر “التويلري” يصدرون الأوامر بالقبض على هذا وتنفيذ الإعدام في ذاك.. في هذا الجو المشحون بالغضب والفوضى العارمة كان أحد علماء باريس، مكبا على أنابيبه وأنابيقه في معمله الكيميائي.. كان هذا العالم رجلا لا تخطئه العيون وقد أنفق جانبا كبيرا من ثروته ونشاطه في خدمة فرنسا.. وقد أيد الثورة في عام 1789، لأنها كانت فرصة سانحة لتحقيق العدالة التي طالما طالب بها من قبل، ورفع الضيم عن كاهل الطبقات الدنيا في المجتمع الفرنسي، وخاصة الفلاحين المعدمين.. لكن بعد عام من الثورة رأى أنها صارت في أيدي النازعين للعنف والإرهاب والحرب، فناشد القائمين عليها الاعتدال وضبط النفس.. ولم يعجب كلامه المتطرفين بالطبع.. وفي تلك الأجواء المشحونة بالغضب عليه، ظل هذا الرجل ملازما معمله يراقب في سكينة وصفاء ذهن تجربة كان قد أعدها لمساعده “سيجان”.. فكان “سيجان” يقوم بإجراء التجربة، و”أنطوان-لوران لافوازييه” (1743-1794) يراقب النتائج ويفسرها ويملي على زوجته النتائج التي يتوصل إليها بتفسيراتها، من خلال ملاحظاته على سير التفاعلات الكيميائية.. وفي 24 نوفمبر 1793 فتح الباب بقوة، ودخل جنود المحكمة الثورية، يقودهم رجل يرتدي قبعة الثوار، ومن خلفهم جمهور صاخب.. كان الرجل الذي يقود الجنود والجمهور نحو “لافوازييه” هو “جان بول مارا” (1743-1793) الذي انتحل لنفسه لقب “صديق الشعب”!.. ربما تذكر “لافوازييه” أو لم يتذكر ذلك الموقف الذي لم ينساه صديق الشعب “مارا”.. كان “مارا” الذي عمل بالطب سنوات، ثم قام بإجراء بعض التجارب في مجالي البصريات والكهرباء، يحاول أن ينال شرف عضوية الأكاديمية العلمية الملكية قبل الثورة.. وكانت هذه الأكاديمية من أبرز المجامع العلمية في العالم.. ولا يلتحق بها المرء عنوة أو من خلال السلطة، بل كانت تضم في عضويتها الباحثين والفلاسفة والمفكرين المرموقين.. ومن ثم فقد غبطها زعماء العالم في ذلك الوقت.. وبالطبع عرضت أبحاث “مارا” على “لافوازييه”.. لم تكن أبحاثه ترقى لنيل شرف العضوية، ومن ثم فقد رفض طلبه.. ولم يكن يتوقع يوما أن تأتيه الفرصة لينتقم من الذي وقف أمام طموحه في نيل ذلك الشرف العظيم.. لكن ها هو يقف موقف القوة أمام من حال دون رغباته.. ولم يشعر “لافوازييه” بموقف الضعف، لكن “مارا”، الذي كان يصدر صحيفة تتحدث باسم الثورة الفرنسية، كان يشعر بالزهو والخيلاء، من جراء صيحات الغضب التي كانت تزأر من خلفه.. إنها تهمة واحدة فقط هي التي تضع “لافوازييه” في موقف الضعف والهوان: “صديق الملك عدو الشعب”.. قالها “مارا” في وجه الجمهور الصاخب الذي يجره من خلفه كالقطيع.. ومن ثم فقد اقتيد الرجل نحو السجن، الذي قبع فيه شهورا في انتظار المصير المجهول.. وفي شهر مايو من عام 1794 حوكم “لافوازييه” أمام اللجنة المالية بمحاكم الثورة.. وتطوع أحباب الشعب من أمثال “مارا” بتلفيق التهمة تلو التهمة للرجل.. لكن المحكمة لم تكن بحاجة لهذه التهم، كي تقضي بحكم قاسي على “صديق الملك” و”عدو الشعب”.. فقد أصدر “مارا” صديق الشعب الحكم عليه من قبل.. ولا يد للمحكمة من تأييد حكم “صديق الشعب” على “عدو الشعب”.. ومن ثم فقد أصدرت المحكمة حكمها على “لافوازييه” بالإعدام.. وبالطبع لم يكن الكل يسير في ركاب القطيع.. فقد كان هناك حكماء، قالوا كلمة حق في صالح عالم قضى جل حياته مكبا على تجاربه لخدمة الإنسانية.. قالوا لرئيس محكمة الثورة: إن لافوزييه عالم قضى سنوات حياته في خدمة العلم.. وأن إعدامه جريرة في حق الإنسانية.. لكن لم يكن لرئيس محكمة تم انتخابه من بين “أصدقاء الشعب” أن يقف أمام “إرادة الشعب” المزعومة.. فرد قائلا: “ليست الجمهورية في حاجة للعلماء”.. وسيق “لافوازييه” في عربة مكدسة بأعداء الشعب المزعومين نحو ميدان الثورة.. وأعدم بين صيحات النصر والغبطة بالانتقام من أعداء الشعب.. حز عنقه مع آخرين.. وانتهت حياة أعظم مجدد في علم الكيمياء في اقل من ثوان.. وضاع جثمانه بين جثامين الآخرين.. فلم يعرف له قبر حتى الآن.. ولم يكن الكل مغتبطا بقتل “لافوازييه”.. فلم يكن الكل مدفوعا بغريزة الانتقام.. كانت هناك أصوات حكيمة تنبعث من ضمائر حية، لا تروقها فورة الانتقام التي اجتاحت النفوس الحانقة، التي فتحت أمامها الأبواب لتتحكم في مصائر الناس دون دراية أو حكمة.. كانت هناك أصوات عاقلة تفهم طبيعة الحياة، التي يجب أن لا يغيب عنها التسامح، مهما طغى الظلم في عصر أو زمن.. فلن تتحقق أحلام المدينة الفاضلة على الأرض.. وما حياة الإنسان على الأرض إلا دورات من الظلم متعاقبة، تتحقق على يد هذا أو ذاك.. وأن العدل المطلق لن يتحقق على الأرض.. وعلى النفوس الحكيمة أن تضع التسامح سبيلا.. فما يراه البعض اليوم عدلا، يراه البعض الآخر غدا ظلما وجورا.. وفي وسط الغوغاء التي تصدرت مشهد الثورة الفرنسية، خرج صوت الحكماء يؤبن العالم لافوازييه”.. فقال العالم الرياضي المعروف وقتها “لاجرانج”، وقد قطعت في ثوان معدودات رأس “لافوازييه”: “لقد استغرق قطع رقبته دقيقة أو بعض دقيقة من الزمان، لكننا قد نحتاج إلي قرن كامل قبل أن ننجب عالما آخر مثله”…… بالطبع لم يعجب قول “لاجرانج” النفوس المدفوعة للانتقام وقتها.. لكن أحفاد هؤلاء الغضبى بعد مضي السنين، يبحثون عن جثمان “لافوازييه” لتكريمه، بما يليق بعطائه للإنسانية، التي قلما يجود فيها الزمان بعالم مجدد مثله، حررت أبحاثه علم الكيمياء من الخرافات التي كانت ما تزال تعلق يه من آثار القرون الأولى حيث يمتزج فيها العلم بالخرافة.. وما يدل على أصالة ” لافوازييه”، حفاوة تاريخ العلم به، رغم المهانة التي تلقاها في نهاية حياته.. واعتبار قطع رأسه علامة سوداء، ووصمة عار في تاريخ الثورة الفرنسية.. فقد كانت خسارة الإنسانية في إعدام ” لافوازييه” خسارة فادحة بكل المقاييس.. وبعد عام ونصف من إعدامه اعتذرت الحكومة الفرنسية عن هذه الفعلة الشنعاء.. وأعيدت محاكمته وتم تبرئته من التهم التي وجهت إليه في فورة الفوضى والإرهاب.. وأعيدت أملاكه التي صودرت لزوجته.. وفي أكتوبر من عام 1795 أقام ليسيه الآداب والفنون حفل تأبين لذكرى “لافوازييه”.. وأزيح في الحفل الستار عن تمثال نصفي ل” أنطوان-لوران لافوازييه”، كتبت عليه هذه العبارة: “ضحية الطغيان، وصديق الآداب والفنون المبجل، إنه لم يمت، ولم يزل يخدم الإنسانية بعبقريته”.. لقد استطاع الحكماء في فرنسا وقتها تبيان الحقيقة.. فلم يكن لافوازييه فاسدا.. ولم يكن الباستيل معقلا للظلم.. فالقلعة التي أشيع أنها كانت سجنا كبيرا يلاقي فيه السجناء الظلم والقهر، لم تكن إلا مكانا يسجن فيه عدد قليل من الناس كانوا ينعمون فيه بالعيش الرغيد، حتى أن البعض كان يرفض أن يغادره بعد أن يفرج عنه.. وأستطاع الحكماء أن يميزوا بين الحقيقة والإشاعات التي كان يروج لها الدهماء، أثناء الفوضى التي رافقت الثورة الفرنسية.. فقد كان لافوازييه إصلاحيا نبيلا.. هذا هو “لافوازييه”، الارستقراطي النبيل، أما “مارا” فقد كان جزاءه من جنس عمله.. فتاة غاضبة قامت باغتياله، وهو يعيش مطاردا شريدا، ووحيدا منبوذا.. فالانتقام الذي دعا إليه، أشاع الفوضى التي أودت به، قبل أن ينفذ حكم الإعدام في “لافوازييه”..