د. أحمد عبد الهادى الجميع من شدة الإرهاق قرر البقاء فى غرفته بالفندق بعد تناول طعام العشاء.. إلا أنا قررت ممارسة طقوسى الجنونية.. ارتديت الجاكيت الجلدى وأحكمته حول جسدى فالجو شديد البرودة .. وحدى والكاميرا والقلم وبعض الأوراق.. فردت ياقة الجاكيت لوقاية العنق من الصقيع الذى استقبلنى على باب الفندق .. اكتشفت أن صديقنا أحمد السجينى ينتابه نفس القلق والفكرة .. السجينى واحد من الشباب الذين اقتحموا البزنس بشكل قوى.. لف ودار حول العالم كثيرا.. هو يرغب فى اكتشاف بكين من الداخل هو الآخر ... تجمعت رؤانا ورغباتنا معا.. بدأنا فى الدوران فى شكل دائرة حول الفندق حتى إذا تهنا نستطيع العودة بسهولة.. لحظات والمطر بدأ فى زخات متتالية .. البرد يجمّد الأطراف والوجوه عارية ورغم ذلك لم نشعر بأى شىء سوى المتعة فى اكتشاف المجهول.. الشوارع نظيفة وزخات المطر تساقطت فوقها فغسلت ذرات الغبار التى علقت بها من الأيام الماضية.. فاكر انت لما الحاجة ست البيت فى الأرياف عندنا تنتهز فرصة قدوم العيد وتقرر كنس وترتيب البيت ثم رش المياه أمام المنزل مثلما تفعل كل الزوجات والأمهات حتى الفجر.. وكل الأوراق والقمامة التى جمعتها تقوم بعدها بإحراقها أمام البيت.. ؟ الحاجة بتاعة بكين عملت كده بالضبط.. مع الفارق بأن الشوارع هنا نظيفة طوال الليل والنهار.. وما إن تساقط المطر حتى ازدادت الشوارع بحبات من اللؤلؤ المائى.. شكل جميل للشوارع بعد المطر.. الشوارع هنا واسعة جدا ... خمس حارات فى كل اتجاه.. لايوجد نظام الدوران فى أى شوارع رئيسية.. بل هى شوارع اتجاه واحد وطريق واحد.. أين ذهب المليار و300مليون بنى آدم مش عارف أنا والله ؟.. لا أحد فى الشوارع.. حتى فى النهار لاتوجد أى تكدسات مرورية أو زحام بشر.. الإتوبيسات التى تسير فى الشارع بنظام العربتين.. غالبيتها الآن يسير بالكهرباء.. على جانبى كل اتجاه هناك حارة مخصصة للدراجات.. وهناك حاجز بين الطريق المخصص للدراجات وطريق السيارات بدرابزين صغير غير مرتفع شكله جميل ورقيق.. وعلى الرصيف على جانبى الطريق هناك طريق حديد لايتجاوز عرضه نصف المتر وموضوع بشكل منحنى.. لكن انحناءة الطريق الحديدى صغيرة للغاية وفى قمة الانحناء توجد علامات بارزة.. أما العلامات البارزة فوق الطريق الحديدى فهى مخصصة لمكفوفى البصر ممن يحملون عصاهم الخاصة وترشدهم للطريق.. الأهم من كل ذلك أن بكين.. عاصمة أقوى دولة فى العالم.. التى أصبحت صاحبة قرار غير عادى فى كل الكرة الأرضية.. بكين بجلالة قدرها سكانها ينامون من السابعة مساء .. ؟ تخيل.. أى والله مش عارف العالم دى معندهاش تلفزيونات مثلا أوسينما أومسرح.. أوكوبرى قصر النيل.. أوحتى شارع جامعة الدول العربية وبنات بتقف فيه ؟.. فين البنات بتوع بلاد برة اللى بيقفوا يصطادوا الأجانب بالليل.. وفين العرى.. ؟ طيب بلاش دى ؟ فين الشباب والعواطلية والصيع وبتوع النواصى اللى بيسهروا بالليل ؟.. طيب بلاش دى ... ياعم فين القهاوى بتاعة وسط البلد اللى بتفضل سهرانة لحد تانى اليوم الفجر ؟.. إلا مافيه مكان واحد يوحد ربنا قابلناه عشان حتى نستريح فيه ؟ المحلات مفتوحة.. هناك مولات.. هايبر ماركت موجود.. سوبر ماركت.. حتى الأكشاك الصغيرة موجودة بس مش كتير.. يعنى فى كل جولتنا لم أجد سوى كشك أوإثنين وسط العاصمة بكين.. لأنها حاجة تطمنك أن فيه حياة هنا.. ؟ إيه الحكاية يكونش غلطنا فى العنوان وبدل مانتجوّل فى بكين غلطنا وبنتجول فى كفر أبوجمعة ؟ شوية مطر يجعلوا الجميع داخل المنازل بعد أن تتوحل الطرقات ؟ والحقيقة أن ذلك هو رتم وطقوس الحياة اليومية للشعب الصينى حتى فى العاصمة نفسها.. العمل طوال أيام الأسبوع.. النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا.. تقديس ساعات العمل.. تقديس ساعات الدراسة.. فقط لايوجد أجازات إلا فى نهاية الأسبوع.. وحتى نهاية الأسبوع يقضيها الشباب وأرباب العائلات فى أماكن مختارة بعناية ومدروسة أيضا بعناية.. لذلك لم يكن غريبا أبدا أن تتقدم الصين ويتأخر غيرهم .. إلحق فيه واحدة على الجانب الآخر من الشارع أهه ؟ توجهنا لها فهى تبيع شىء أمامها وتجلس على جانب الطريق.. ما إن اقتربنا من السيدة حتى اكتشفنا أنها تبيع قطع الأناناس.. قال السجينى وهو يفتش بخبرة ودربة فى قطع الأناناس : هاو ماتش ؟.. حمدنا ربنا وإكتشفنا أنها تتحدث باللغة الإنجليزية زى اللبلب.. ردت وقالت : القطعة الواحدة بخمسة عشر يوان فنظر لى فقلت له : لاياعم إعفينى أنا من أكل الشوارع طب بس دوق وبعد كده اتكلم . منين جبت اليقين ده ياسيدى ؟ تركنى ونظر لها وقال بلغته الإنجليزية : الإثنين بسبعة يوان ثم بسرعة ألقى أمامها بالقطع النقدية دون أن يعيرها التفاتا ومضينا من أمامها ... قلت له : إحنا نهايتنا إن شاء الله فى قسم الشرطة.. كنت أتصور أن السيدة اعترضت على السعر الذى تم منحه لها.. لكن الحقيقة أنها كانت راضية وسعيدة أيضا.. وضحك السجينى وهو يناولنى قطعة أناناس موضوعة مثل الخروف المشوى على السيخ .. فأمسكت بالقطعة من العود الخشبى الممددة عليه بحذر.. سأتذوق جزء منها على سبيل التجربة لكن لايمكن أن أواصل أكلها بالمرة .. الطبيب دوما يحذرنى من أكل الشوارع .. ألتزم بالتعليمات حرفيا .. هنا فى الصين كل شئ قابل للتفاوض حتى قطع الأناناس الموجودة بالشوارع.. أوالسندويتشات.. لا مش كده وبس.. ده حتى الأجهزة الإلكترونية.. كانت هناك عدة ساعات فى نهاية رحلتنا للتسوق.. انتهزناها ودخلنا معا جميعا فى مول بمدينة شنغهاى.. المول يضم كل شىء.. من الإبرة للصاروخ.. مئات المحلات المتلاصقة فى كل طابق.. يتجاوز العشرين طابق.. مساحته تتجاوز العشرة آلاف متر.. يتصدر شنغهاى.. وكان رغم ذلك يعد هو أصغر المولات الموجودة.. منذ الطابق الأول وحتى آخر طابق.. الحركة على قدم وساق.. ورغم ذلك كل شىء تشعر بأنه هادئ .. حتى الموسيقى والأغانى التى تنساب من بعض المحلات هادئة.. الشباب يقف بطريقة جميلة كما لو كنت رئيسا للجمهورية ويقفون لتحيتك على الجانبين.. غالبية البائعيين فتايات.. واعمل حسابك طالما أن حضرتك دخلت محل اعرف أنك هتتشرى يعنى هتشترى.. مش بمزاجك .. دخلنا نشترى حقيبة كبيرة لأحدنا.. الحقيبة سعرها يتجاوز المائة والخمسين يوان.. الرجل رفض ومضى.. البنت جذبته بشدة.. ظلت تضحك معه وتحدثه بلغة إنجليزية سليمة .. حتى وصلت معه لنصف السعر ورغم ذلك رفض الرجل بشدة.. فى الأخر أخذ الشنطة بعشرة يوان ؟ .. وصاح صديقنا محمد السملى وهو أحد القيادات الحزبية بالمغرب : يعنى إيه ؟ أنا اشتريت الشنطة بربع الثمن وتصورت أنى مفيش منى ؟ أخونا السجينى عرف اللى فيها.. لأنه سافر وحضر هنا كثيرا.. وقضمت قطعة صغيرة من الأناناس.. ياقوة الله .... إيه ده ياباشمهندس ؟ قلتها للسجينى.. وأنا ألوك القطعة بين أسنانى غير مصدق.. فقطعة الأناناس كانت مثل الأيس كريم.. لكنه أيس كريم ربّانى.. طبيعى.. من أرض الصين.. هذه الدولة التى أجادت زراعة وصناعة كل شىء.. حتى إنها نجحت فى زراعة برتقال صغير جدا.. كل برتقالة تستطيع سيادتك أن تأكلها على مرة واحدة.. لكنه برتقال لايقشر.. لأن القشر به فوائد غذائية عظيمة لايمكن أن يتجاهلها علماء الصين.. واقتصادا للوضع نجحوا فى تهجين وزراعة هذا البرتقال الذى ما إن تناولت واحدة منه حتى صحت وصرخت واندهشت بنفس الطريقة التى أعلنت عن اندهاشى بها الآن.. الأناناسة ملهاش حل.. كأنها قطعة حلويات إسفنجية.. سكر معقود.. حلاوتها ليست شديدة.. لكنها جميلة.. المطر تزايد فوق أرصفة وشوارع بكين.. الليل كان جميلا.. والصقيع لم نشعر به.. رغم تجمد أطرافنا.. لكننا كنا نسير فى الشوارع الخالية من كل شىء.. إلا منا .. وامتدت الجولة حتى منتصف الليل.. وعندما عدنا للفندق اتضح أننى نسيت العود الخشبى الصغير الذى كانت تتمدد عليه قطعة الأناناس ممددا هو الآخر بين يدى.. وملابسنا ابتلت.. وعندما دخلنا لوبى الفندق قال السجينى : يادوبك ألحق أنام شوية لأنى خلاص مش قادر.. قلت له وأنا أدقق النظر ناحية فتاة تعزف على البيانو فى أحد جوانب البهو.. أنا هستنى شوية.. وجلست بالقرب منها وابتسمت لها محييا.. فأومات بطرف عينيها كأنها تشكرنى على الحضور.. فلم يكن هناك أحد فى البهو ورغم ذلك تعزف بأناملها الرقيقة بشكل رائع وبعشق.. هى لاتعزف بل تحتضن قطع البيانو.. تكاد تلتهمها بعشق.. مثلما التهمت أنا قطعة الأناناس بتأنى وعشق.. طبعا مع الفارق فى التشبيه .. الموسيقى غذاء الروح.. وده أناناس غذاء المعدة .. لحظات وكانت هناك أكواب مياه دافئة أمامى من إحدى مضيفات الفندق.. ثم اقترب عدد من الشباب منى لعلى احتاج ثمة شىء.. وخلية النحل تعمل كما لو كان كل ركاب السفينة تايتنك موجوديين معى.. وخجلت من نفسى لأنى قليل الذوق وشغلت الجميع هنا.. وصفقت للفتاة بهدوء حتى لا أخدش صمت المكان وانسياب نغمات البيانو الجميلة.. ثم عدت لغرفتى.. واكتشفت أننى كنت غارق فى المياه وبعضا من قطع الثلج التى تساقطت دون أن ندرى بها.. والغريبة يا أخى أننى لم أصب بأنفلونزا.. ناس فعلا مفترية والله .. ================ من كتاب (إلى الصين سيرا على الأقدام)