- لقد سئمت - في الحقيقة - حينما علمت " يقيناً " أن تلك القرية العريقة ، التي كانت في غضون الماضي القريب ، لا تعرف للتشدد ، أو التطرف الديني سبيلاً ، قد بليت - مؤخراً - " بفيرس السلفية " المسرطن ، من خلال " تسمم " أذهان بعض شبابها - بجرعات - من سموم الفكر السلفي المتطرف ، والذي أحزنني ، وجعلني كظيماً ، أن شباب هذه القرية - جميعهم - كانو يتميزون بالبساطة ، والسماحة ، والرشد ، والاعتدال ، الديني ، والفكري ، على حد سواء ، حتى وقت قريب ، لدرجة أنني كنت - دائماً - ما أشعر بأنهم - في تقديري - يمثلون الأسوة ، والقدوة الحسنة لشباب المسلمين ، لإنهم كانوا - في تصوري - يجسدون الصورة الحقيقية الحية ، لجوهر ، وسماحة الدين الإسلامي الحنيف ، شكلاً ، ومضموناً ، ناهيك عن أنهم قد كانوا - حسب يقيني - بمثابة " القبلة " الحقيقية ، التي يتوجه حيالها شباب القرى المجاورة ، إن ضلوا السبيل ، أو أخطأوا الطريق ، ومن ثم ، يتسنى لهم ، بعد ذلك ، الفهم - الصائب - لمرادفات الدين الإسلامي الصحيحة . - والذي أذهب عني الحزن ، لبعض الوقت ، شيئاً ، فشيئاً ، هو أنني قد - تيقنت - من أن شباب الفكر الصوفي المعتدل ، يسعون - دائماً - لإقامة " مناظرات " علمية ، منطقية ، مفتوحة ، مع " ضحايا " التيار السلفي ، هناك ، والذي أسعدني - كثيراً - أن أحد أبناء الطريقة البرهامية ، ويدعى الشيخ " علاء خير حسن الشمولي " ، قد دعا بعض شباب التيارات السلفية ، بقصد مناظرتهم ، بالعقل ، والمنطق ، والحجج الرشيدة ، وما إن تشاوروا ، فيما بينهم ، حتى وافقوا على - قبول - المناظرة ، والحق أقول ، أن الشيخ " الشمولي " قد أثبت لهم - شيئاً - من الفطنة ، والحكمة ، حينما اشترط عليهم ، بأن لا - يضيقوا - ذرعاً ، من مجريات الحوار ، الذي سيدور بينهم ، مؤكداً لهم - في الوقت نفسه - بأنه سيتخلى عن الفكر الصوفي ، وسينتمي لفكرهم السلفي ، حال اقتناعه - طوعاً - بحججهم ، وبراهينهم ، أو أنهم - في المقابل - " ملزمون " بالعزوف ، والتخلي عن فكرهم السلفي ، حال اقتناعهم - يقيناً - ، بحججه ، وبراهينه ، جملة وتفصيلاً . - وافتتح الشيخ " الشمولي " المناظرة ، بقراءة " أم الكتاب " ، وما إن وصل لنهاية السورة ، قائلاً :- " صدق الله العظيم " ، حتى وجه إليه أحد السلفيين ، سؤالاً ، مفاده :- ألا تعلم يا " شمولي " أن قراءة " صدق الله العظيم " ، في نهايات السور القرآنية ، هي " بدعة " ، وأن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، على حد قولهم ، وحينئذ تعمد " الشمولي " أن يبدي لهم " مسبحته " الخاصة ، وهو ممسك بها ، بيده اليمنى ، وما إن رأوها ، حتى اشتد غضبهم ، قائلين :- إن هذه " المسبحة " هي - أيضاً - بدعة ، لأن النبي لم - يستخدمها - في حياته ، على حد زعمهم الخاطئ ، فابتسم - آنذاك - الشيخ " الشمولي " في وجوههم ، قائلاً :- إذا كان أحدنا " مبتدع " ، فهو - يقيناً - أنتم ، ولست أنا ، قالوا :- كيف يا " شمولي " ، أتسخر منا ؟ ، قال :- كلا ، لأنكم قد " قيدتم " ما أطلقه الله ، و" أطلقتم " ما قيده الله ، وابتدعتم في دين الله مالم ينزل به سلطاناً ، قالوا :- كيف يا " شمولي " ؟ ، قال :- إن الله - جل وعلا - لم ينزل - نصاً - صريحاً ، من خلال القرآن الكريم ، أو السنة المطهرة ، ينهانا من خلاله ، بعدم قراءة " صدق الله العظيم " ، في نهايات السور القرآنية ، وكونكم تنهون الناس عن قراءتها ، حسب أهوائكم ، يعني أنكم " مبتدعون " ، ذلك لكونكم قد قيدتم ما أطلقه الله ، إذا ما اعتبرنا جدلاً أن قراءة " صدق الله العظيم " في نهايات السور ، من منطلق تصديق الله تعالى ، فحسب ، وهكذا " المسبحة " فإن الله لم ينهانا من استخدامها ك " أداة " ، أو " وسيلة " للتسبيح ، أو الذكر ، وكونكم تنهون الناس عن استخدامها ، حسب أهواءكم الشخصية ، فإنكم - بذلك - مبتدعين ، لأنكم قد " قيدتم " ما أطلقه الله ، والدليل على ذلك ، أن الله قد حضنا على " الذكر " ، في حين أنه لم يحدد لنا الكيفية ، أو الوسيلة ، ليترك لنا الحرية في ذلك ، لقوله تعالى " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " وبذلك ، فإنكم قد افتريتم في دين الله " الكذب " وأنتم تعلمون ، بل ، واحتملتم بهتاناً وإثماً مبيناً ، وأضاف " الشمولي " قائلاً :- إن مفهوم " البدعة " يكمن في إطلاق ما قيده الله ، أو تقييد ما أطلقه الله ، وما عدا ذلك ، فإنه يندرج تحت مسمى " البدعة " الحسنة ، أو ما يعرف بفضائل الأعمال ، التي يثاب عليها العبد يوم القيامة ، ما لم يتعارض مع النصوص الثابتة ، وما لم يصدر به نص " شرعي " صريح ، بالأمر ، أو النهي ، على حد سواء ، بمعنى ، أن فريضة " المغرب " ، مثلاً ، ثلاث ركعات ، فإذا صليت أقل أو أكثر من ذلك ، فإنك - حينئذ - قد ابتدعت " بدعة " سيئة ، تتعارض مع ما قيده ، وحدده الله ، وفي المقابل ، فإن الله قد حضنا على المعروف من القول ، دون أن يحدد - لنا - قولاً معيناً ، أو محدداً ، فإذا ألزمت ، أو أكرهت الناس على قول معين ، فإنك بذلك قد ابتدعت " بدعة " سيئة ، لكونك قد قيدت ما أطلقه الله ، وقس على ذلك ، أما إن ابتدعت " بدعة " حسنة ، قولاً ، أو فعلاً ، على حد سواء ، ولم تتعارض مع نص صريح ، فهذا جائز ، إن لم يؤجر العبد عنه يوم القيامة ، وما إن انتهت " المناظرة " حتى خرجوا ، ولم يجدوا " دراجاتهم " البخارية ، مما دفعهم لأن يتغيثوا بالشيخ " الشمولي " ، الذي أكد لهم ، أنه قد تخلص منها ، لكونها " بدعة " ، حسب فهمهم العقيم ، وفكرهم الشاذ ، معللاً ، أن النبي وأصحابه لم - يمتطوها - في حياتهم ، وحينئذ ، نظر عضهم لبعض ، وكأن الطير قد استقر على رؤسهم ، وفي النهاية ، قد أقروا بأنهم كانوا خاطئين ، فقال لهم الشيخ " الشمولي " :- لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .