الحكومة توضح الهدف من ملاحظات السيسي على قانون الإجراءات الجنائية    رئيس جامعة العريش يسلم شهادات انتهاء البرنامج التدريبي الخاص بتأهيل وتدريب المعيدين الجدد    آخر تحركات الدولار أمام الجنيه بعد قرار المركزي خفض الفائدة    بسبب اعتراض أسطول الصمود، بلجيكا تستدعي سفيرة إسرائيل    أمين عام الناتو يدعو لتعزيز التعاون مع المفوضية الأوروبية لدعم القدرات الدفاعية    سعر الدولار ينخفض لأدنى مستوى عالميًا مع قلق الأسواق من الإغلاق الحكومي الأمريكي    نجل زيدان بقائمة منتخب الجزائر لمواجهتي الصومال وأوغندا بتصفيات المونديال    استشهاد 53 فلسطينيًا فى قطاع غزة منذ فجر اليوم    طاقم حكام سوداني لمباراة بيراميدز ونهضة بركان في السوبر الأفريقي    مصر في المجموعة الأولى ببطولة العالم لكرة اليد تحت 17 عام بالمغرب 2025    نتائج 6 مواجهات من مباريات اليوم الخميس في دوري المحترفين    عودة لاعب ريال مدريد.. قائمة منتخب فرنسا لمواجهتي أذربيجان وأيسلندا    ضبط صانعي محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو تتضمن ألفاظًا خارجة تتنافى مع قيم المجتمع    التعليم: امتحان الإنجليزي لطلاب الإعادة بالثانوية العامة على المنهج المطور    العثور على جثة مسن داخل مسكنه بالشرقية    «النار دخلت في المنور».. كيف امتد حريق محل ملابس إلى عقار كامل في الهرم؟ (معايشة)    فريق عمل يوميات عيلة كواك يحتفل بإطلاق المسلسل    تركي آل الشيخ يكشف السر وراء نجاح موسم الرياض    خبير علاقات دولية ل"اليوم": ما فعله الاحتلال ضد قافلة الصمود إرهاب دولة    «هل الأحلام السيئة تتحقق لو قولناها؟».. خالد الجندي يُجيب    انطلاق النسخة التاسعة من مسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال 30 يناير    مصر تبحث مع البنك الدولي تعزيز التعاون بمجالي الصحة والتنمية البشرية    حزب العدل ينظم تدريبًا موسعًا لمسئولي العمل الميداني والجماهيري استعدادً لانتخابات النواب    ضبط طن مخللات غير صالحة للاستخدام الآدمي بالقناطر الخيرية    البابا تواضروس الثاني يلتقي رهبان دير القديس الأنبا هرمينا بالبداري    «الوزراء» يوافق على تحويل معهد بحوث السادات إلى كلية التكنولوجيا الحيوية    تركيا.. زلزال بقوة 5 درجات يضرب بحر مرمرة    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    البلدوزر بخير.. أرقام عمرو زكى بعد شائعة تدهور حالته الصحية    نجل غادة عادل يكشف كواليس علاقة والدته بوالده    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس لدعم حملة ترشح خالد العنانى فى اليونيسكو    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2أكتوبر 2025.. موعد أذان العصر وجميع الفروض    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    المصري يختتم استعداداته لمواجهة البنك الأهلي والكوكي يقود من المدرجات    ما يعرفوش المستحيل.. 5 أبراج أكثر طموحًا من غيرهم    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    14 مخالفة مرورية لا يجوز التصالح فيها.. عقوبات رادعة لحماية الأرواح وضبط الشارع المصري    لهجومه على مصر بمجلس الأمن، خبير مياه يلقن وزير خارجية إثيوبيا درسًا قاسيًا ويكشف كذبه    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    السيولة المحلية بالقطاع المصرفي ترتفع إلى 13.4 تريليون جنيه بنهاية أغسطس    برناردو سيلفا: من المحبط أن نخرج من ملعب موناكو بنقطة واحدة فقط    وزير الري يكشف تداعيات واستعدادات مواجهة فيضان النيل    الكشف على 103 حالة من كبار السن وصرف العلاج بالمجان ضمن مبادرة "لمسة وفاء"    تفاصيل انطلاق الدورة ال7 من معرض "تراثنا" بمشاركة أكثر من 1000 عارض    السفير التشيكي يزور دير المحرق بالقوصية ضمن جولته بمحافظة أسيوط    رئيس الوزراء: ذكرى نصر أكتوبر تأتى فى ظل ظروف استثنائية شديدة التعقيد    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    تحذيرات مهمة من هيئة الدواء: 10 أدوية ومستلزمات مغشوشة (تعرف عليها)    القائم بأعمال وزير البيئة في جولة مفاجئة لمنظومة جمع قش الأرز بالدقهلية والقليوبية    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الميكانيكا الكمية – أول الغيث قطرة
نشر في شباب مصر يوم 18 - 11 - 2014

في ليالي الشتاء قارسة البرد، نجلس حول المدفأة نراقب لهبها ونستمتع بدفئها ودفئ اللمة والصحبة. لكن هل فكرنا كيف ينتقل إلينا هذا الدفئ، ونحن بعيدون عن لهب المدفأة؟
هذا الدفئ عبارة عن أشعة غير مرئية تعطينا الشعور بالراحة من ألم البرد. نسميها الأشعة تحت الحمراء. لماذا هذا الاسم؟ لأنها تأتي أسفل الضوء الأحمر في التحليل الضوئي
لو كان نيوتن قد وضع المنشور الزجاجي في مسار الضوء بالمقلوب، لجاءت الأشعة أعلى الضوء الأحمر وصار اسمها في هذه الحالة، فوق الحمراء. مجرد اسم
مع شئ من الملاحظة المتأنية، سنكتشف أن الإشعاع الحراري هذا شئ عام في الطبيعة. الشمعة تعطينا الضياء والحرارة. شمسنا العظيمة تعطينا أيضا الضياء والحرارة. حتى النجوم البعيدة جدا والتي يقاس بعدها بالسنين الضوئية، هي الأخرى ترسل ضوءها مصحوبا بأشعة حرارية،يمكن قياسها، إلى الأرض
في القرن التاسع عشر، تم اكتشاف قوانين الإشعاع الحراري الأساسية. دعنا نذكر بعضها:
أولا، كلما قمنا بتسخين جسم ما، كلما زاد توهجا وتألقا. كذلك كمية الإشعاع المنبعثة من الجسم تزداد مع التغير في درجة حرارته. إذا زادت درجة حرارة الجسم ثلاثة أضعاف، مثلا، فإن كمية الإشعاع المنبعثة منه تزداد مئة ضعف. (غريبة دي)
ثانيا، لون الأشعة المنبعثة من الجسم تتغير مع ازدياد درجة حرارته. راقب قطعة من الحديد توضع على شعلة البوتاجاز. في البداية تكون قطعة الحديد داكنة اللون. ثم يصبح لونها قرمزي خفيف، يتحول إلى اللون الأحمر. مع استمرار التسخين، يصبح اللون برتقالي ثم أصفر. بعد ذلك تصبح قطعة الحديد والإشعاع المنبعث منها أبيض اللون.
الحداد يستطيع معرفة درجة حرارة قطعة الحديد المصنعة بدقة من لونها عند التسخين. عندما يكون اللون قرمزي، تكون درجة الحرارة 500 درجة مئوية، وعندما نصل إلى اللون الأبيض، تكون درجة الحرارة 1000 درجة مئوية
علماء الفيزياء لا يكتفون بذلك. إنهم يريدون دراسة علاقة الأجسام بالإشعاع الحراري بغض النظر عن نوع الجسم ومعدنه. إنهم يريدون جسما يستخدم كقياس لهذه الظاهرة بدقة، تقارن به باقي الأجسام.
الجسم الذي نبحث عنه، لا يجب أن يرسل قبل التسخين أي ضوء خاص به، حتى لا يؤثر في لون الإشعاع الناتج من التسخين. المعادن اللامعة تعكس تقريب معظم الضوء الساقط عليها. أما القطيفة السوداء، فهي تمتص معظم أشعة الضوء الساقطة عليها، لذلك تظهر سوداء حالكة.
السحرة في عروضهم يستخدمون خاصية القطيفة السوداء، لأنها لا تعكس الضوء . فالصندوق المغطى بالقطيفة السوداء، لا تستطيع ملاحظته. الساحر يستطيع أن يستخدمه لإخفاء المنديل أو الحمام أو حتى نفسه
وجد علماء الفيزياء أن الجسم الأسود هو ما نبحث عنه. الجسم الأسود يمتص كل الضوء الساقط عليه. إذن أي أشعة يقوم بإرسالها سيكون سببها التسخين فقط
لكن هذا يتوقف على مقدار السواد في الجسم الأسود. حتى الفحم النباتي، قد يكون به شوائب تجعله ليس أسود تماما. قد يكون أسود أو أفتح من القطيفة السوداء. إذن كلاهما لا يصلحان لهذا الغرض
العلماء لا تيأس. جاءوا بصندوق خاص. مطلي من الداخل بالسخام أو الهباب الأسود. شعاع الضوء الداخل من فتحة صغيرة، لا يستطيع الخروج منها ويمتص بالطلاء الداخلي. بذلك يكون الشعاع الخارج من الفتحة، عند تسخين الصندوق، هو ناتج التسخين فقط، وليس بسبب الإنعكاسات الضوئية. هذا الصندوق نسميه الجسم الأسود
دعنا نكتب قوانين الإشعاع الحراري بلغة الفيزياء. القانون الأول يقول بأن كمية الإشعاع الحراري للجسم الأسود، أي الطاقة المنبعثة في صورة إشعاع وحرارة من الصندوق في الثانية، تتناسب طرديا مع درجة الحرارة المطلقة مرفوعة للأس الرابع
الأس الرابع تعني مضروبة في نفسها أربع مرات. درجة الحرارة المطلقة من اكتشاف العالمين الألمانيين، ستيفان وبولتزمان في القرن التاسع عشر، وهي تعادل 273 درجة تحت الصفر المئوي
القانون الثاني للإشعاع يقول: مع زيادة درجة حرارة الجسم الأسود، يقصر طول موجة الإشعاع المنبعث منها، وتقترب من المنطقة البنفسجية في التحليل الطيفي. هذا القانون يسمي قانون وينز للإزاحة، نسبة إلى العالم النمساوي وينز
الآن لدينا قانونين للإشعاع يمكن تعميمها على كل الأجسام بدون استثناء. التجارب أيدت القانون الأول، ووجدنا أن الأجسام تزداد توهجا بالحرارة. لكن المشكلة في القانون الثاني.
مع ازدياد الحرارة، يظل الجسم يشع موجات ضوئية، لونها في البداية قرمزي ثم أحمر ثم برتقالي ثم أصفر، ويتوقف عند اللون الأبيض ولا يقترب أبدا من اللون البنفسجي. أو كما نقول بالبلدي، قانون الإزاحة يعصلج عند اللون الأبيض.
للتغلب على هذه المشكلة، حاول عالمان إنجليزيان هما رايلي وجينز دمج قانوني الإشعاع في قانون واحد يقول: شدة الإشعاع الحراري المنبعث من الجسم الساخن، تتناسب طرديا مع درجة الحرارة المطلقة، وتتناسب عكسيا مع مربع طول موجة الإشعاع
يبدو في البداية أن هذا القانون ينطبق مع النتائج العملية. لكن ثبت أنه صالح عندما يكون الإشعاع لونه أحمر أو أصفر أو أخضر أو أبيض، لكنه يفشل عند اللون الأزرق والبنفسجي وفوق البنفسجي. سبحان الله، أليست كلها ألوان؟
هذا القانون يعني أنه كلما صغر طول موجة الإشعاع، كلما زادت حدته وكثافته. لكن التجربة لم تثبت صحة ذلك. كما أن القانون يسمح لشدة الإشعاع أن تزداد بدون حدود، وهذا لا يحدث في الطبيعة
هذا الوضع الذي لا يحسد عليه، سمي ب"كارثة الأشعة الفوق بنفسجية". حدث هذا في نهاية القرن التاسع عشر. لم يكن أحد يتخيل أن كارثة قانون واحد من قوانين الفيزياء، تصبح كارثة بالنسبة لعالم الفيزياء الكلاسيكية برمته وسبب انهياره بالكامل.
لقد وجد العلماء أنفسهم في بيت يحترق. أخذوا يجرون من ركن إلى ركن. لم يفكروا في القفذ من النافذة إلى النهر. فالنهر لم يعتادوا السباحة فيه. كما أن البيت عزيز عليهم، عاشوا فيه طيلة حياتهم. حاولوا إخماد النار، ولم يتصورا تركها والجري بعيدا عنها
مع كارثة الإشعاع الحراري، جاءت كوارث أخرى مثل كارثة عدم وجود الأثير وازدواجية الضوء وثبوت سرعته. هنا تنبه بعض العلماء لحاجتهم إلى علم فيزياء جديد، لكي يحل محل القديم الذي لم يعد صالحا لتفسير هذه الظواهر.
إذا لم تؤيد الحقائق الجديدة النظرية، علينا أن نقوم بتعديلها، أو لتذهب النظرية إلى الجحيم غير مأسوفا عليها. يخبرنا التاريخ، أن الحاجة هي أم الاختراع. وعظماء الرجال يظهرون عند المصائب والأزمات
الخروج من مدلهمة الفيزياء الكلاسيكية، جاء على يدي ماكس بلانك، الذي أتى عام 1900م بمفهوم الكم، وألبرت أينشتاين الذي أتى عام 1905م بنظرية النسبية، وفسر لنا تأثير الضوء على أسطح المعادن. فما فعله كلاهما يستحق عليه كل هذه الضجة؟
ما جاء به بلانك لا يعتبر اكتشافا بالمعنى الدقيق. كان لدينا قانونان يتعاملان مع الإشعاع الحراري للأجسام الساخنة. عندما دمجا في قانون واحد، واجه كارثة الأشعة فوق البنفسجية.
بلانك كان في الأبعينات من العمر. ظل لسنوات عديدة يدرس الإشعاع الحراري. لكن نظرية الإشعاع الحراري وصلت إلى طريق مسدود رآه أمام عينيه. وكان مثل أقرانه يبحث عن طريقة للخروج من هذه الورطة.
قام بفحص كل الخطوات المنطقية وكل التجارب والأجهزة المستخدمة وتأكد أنها كلها سليمة تخلوا من العيب. هنا سلك بلانك مسلكا آخر، شبيه بالقفذ من النافذة هربا من النار التي تشتعل في صرح البناء بدلا من محاولة إطفائها
في وقت لاحق، أخبرنا بلانك أنه كان يعمل بهمة ونشاط غير عادي لم يعهده من قبل لحل هذه المشكلة في نهاية القرن التاسع عشر. وإذا بأفكار هامة بدأت تظهر له، وبدأت تبدو ممكنة بالرغم من غرابتها. أخذ بلانك يفحص كلا منها على حدة
أولا، فحص الأفكار البسيط. رالي وجينز قاما بدمج قانونين الإشعاع في قانون واحد. هذا القانون أعطانا نتائج كارثية بالنسبة للإشعاع قصير الموجة. ما الضرر في دمج هذين القانونين مع قانون وينز السابق ذكره والخاص بالإزاحة، ولكن بطريقة مختلفة. العلماء لا تيأس من البحث عن الحقيقة.
قام بلانك بعدة تجارب للبحث عن قانون عام لا يتعارض مع النتائج. بعد عدة محاولات، وجد هذا القانون. القانون به رموز ليس لها معنى في عالم الواقع. مجرد توليفة عشوائية لكميات لا يربها رابط. لكن الغريب، أن هذه التوليفة قد آتت أكلها، وطابقت تماما نتائج التجربة.
من قانون بلانك الجديد، استطاع اشتقاق قانون ستيفان-بولتزمان وقانون وينز. كما أن القانون الجديد لا يؤدي إلى نتائج غير محدودة وغير عملية مثل القوانين السابقة. قانون صحيح يتفق مع التجارب كما يقول العلماء.
نصر مبين، وخروج من الأزمة؟ ليس بالضبط. بلانك عالم بحق وحقيق. لم يكن مقتنعا. التخبيط على مفاتيح البيانو عشوائيا قد ينتج عنها نغمة موسيقية. ولكن هل هناك برهان على أن هذا التخبيط لابد أن ينتج عنه نغمة موسيقية؟ القانون يجب أن يكون مشتقا من شئ ما. وليس هابط علينا من السماء عن طريق الوحي هكذا.
لكن قانون بلانك لا يمكن اشتقاقه من قوانين الفيزياء الكلاسيكية. ومع هذا، يعطينا نتائج مبهرة. لقد وجد بلانك نفسه في موقف درامي مثير. لديه قانون أو صيغة قابلة للاستخدام وتأتي بنتائج عظيمة، لكنه لا يستطيع القسم بصحتها طول الوقت وفي كل الأحوال
لأنه ليس لديه برهان لها وفقا للفيزياء الكلاسيكية. فأي الطرق يسلك؟ طريق الحقائق الجديدة أم طريق الفيزياء الكلاسيكية المتعارف عليها. لقد اختار بلانك طريق الحقائق الجديدة
ماذا يوجد في الفيزياء الكلاسيكية منع بلانك من اشتقاق قانونه؟ شئ بسيط لم نلتفت إليه من قبل، وهو اعتبارنا أن الطاقة مستمرة كالماء في الأنهار الجارية. لكن عالم الذرة وجسيماتها متناهية الصغير يقول عكس ذلك.
في نهاية القرن التاسع عشر، اكتشفت جسيمات الذرة والفراغ بينها. الجسيمات لها حدود، أي أنها جزر منعزلة وغير مستمرة، لكن الفراغ بينها هو فقط المستمر. حركة الجزيئات وتصادمها مع بعضها يمكن أن نطبق عليها قوانين التصادم من الفيزياء الكلاسيكية بدون مشكلة.
لكن ماذا نفعل بطاقة الإشعاع وهو موجات وليس جزيئات؟ لقد أثبت ماكسويل أن الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية، أي يتولد من تذبذب وتداخل المجالين الكهربي والمغناطيسي. إذن طاقة الضوء يجب أن تتبع قوانين الموجات وهي مستمرة تنساب مثل الماء في النهر.
بالنسبة للطاقة، لا نعرف شيئا اسمه الطاقة المتقطعة. أي التي تتدفق مثل نقط المطر أو رصاص المدفع الرشاش. تركيبة الذرة لا تتطلب أن تكون الطاقة مجزأة إلى قطع صغيرة. ضوء الشمعة يملأ الغرفة بالإشعاع المتصل، والشمس ترسل لنا ضوءها الغير متقطع. وكذلك طاقة حركة الأجسام تبدو لنا طاقات متصلة ومستمرة.
لكن أخينا العزيز بلانك، يفاجئنا بأن الطاقة ليست متصلة ومنسابة كالماء في الأنهار، بل هي متقطعة تنتقل فيما يشبه فلاشات وومضات متعاقبة، مثل نقط المطر ورصاصات المدفع الرشاش. الطاقة مقسمة إلى أجزاء أو فتافيت صغيرة، الفتفوته
منها اسمها "كوانتا"، جمعها "كوانتم"، وتعني "كمية"
ومن هنا جاء الاسم "الميكانيكا الكمية.
وجود "الكوانتا" في قانون بلانك هام جدا، ولا يستقيم القانون بدونها. كوانتم الضوء، أو فتافيت الضوء، هي أجزاء صغيرة جدا من الطاقة. هنا يتحفنا بلانك بمعلومة أخرى هامة. كوانتم الطاقة هذه، تختلف وفقا لنوع الإشعاع. كلما قصر طول موجة الإشعاع، أي كلما زاد تردده واقترب نحو اللون البنفسجي، كلما زادت طاقته
هذا يمكن التعبير عنه بمعادلة رياضية، وأرجو أن لا أخيف القارئ العزيز إن كان غير ملما بأسرار علم الرياضيات. يمكنه في هذه الحالة المرور على مثل هذه المعادلات مرور الكرام بدون أن يفقد الموضوع أهميته وفائدته.
E=hv
معادلة بلانك هذه بسيطة وجميلة، تقول إن طاقة الكوانتا (فتفوتة الطاقة) تتناسب تناسبا طرديا مع تردده (v). أما المقدار (h) فهو ثابت التناسب الطردي. تم إيجاده عن طريق التجربة، ويسمى ثابت بلانك تكريما لجهد الرجل في هذا المجال.
كان يمكن تسميته بأي اسم آخر، المهم هنا ليس الاسم وإنما المقدار، وهو ثابت بالنسبة لكل الأشعة، مقداره صغير جدا، 6.6 مقسومة على 1 أمامه 27 صفر، إيرج في الثانية (وحدة الطاقة)))
ما علينا سوى ضرب هذا الرقم في تردد الأشعة لمعرفة طاقتها بالإيرج في الثانية. من هنا كانت الأشعة السينية، التي لها تردد كبير، طاقتها كبيرة تجعلها تستطيع اختراق جسم الإنسان وتصويره من الداخل
هذه الطاقة لا تأتينا متصلة، ولكن متقطعة كالمطر. مصباح كهربائي صغير قوة 25 وات، يرسل كمية كوانتا (فتافيت الطاقة) في الثانية الواحدة مقدارها 6.6 مليون مليون مليون كوانتا في الثانية
بالطبع عين الإنسان لا تستطيع أن ترى هذه الكوانتا المتقطعة. وهذه فكرة عرض الفيلم السينمائي، الذي تبدو أحداثه متصلة، بينما هي في الواقع صور منفصلة متتالية
ليس المهم هنا هو كمية الكوانتا المتدفقة في الثانية، وإنما المهم هو معدل تدفقها، الواحدة بعد الأخرى.
بلانك كان يعي مدى جسارته في مهاجمة الفيزياء الكلاسيكية. لكنه لم يكن يتخيل مدي تأثير أفكاره في تطور علم الفيزياء في السنوات التي تلت اكتشافه
السنوات الأولى، 1901، 1902، 1903، و1904م، مرت بدون أن يتنبه أحد لمدى خطورة اكتشاف بلانك. اللهم بعض الأبحاث في الموضوع نفسه تعد على الأصابع. لكن في عام 1905م، نشر موظف صغير في مكتب توثيق الاختراعات السويسري، البرت أينشتاين، رسالة خاصة بتأثير الضوء على أسطح المعادن، نال بسببها جائزة نوبل في الفيزياء.
لقد كان معروفا في ذلك الوقت أن الإلكترونات تقفز من سطح المعادن عند تسليط الضوء عليها. هذه فكرة توليد الكهرباء من الشمس. لكن لم يكن أحد يعرف
لماذا يحدث هذا.
الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية. من الصعب تخيل أنها قادرة على إخراج الإلكترونات من سطح المعادن. ليس هناك تصادم بين جزيئات، مثل التصادم الذي يحدث بين كرات البلياردو.
هناك أمر عجيب آخر تم اكتشافه. وهو أن بعض موجات الضوء مختلفة الطول (أي مختلفة الألوان)، هي القادرة على هذه الخاصية. الإلكترونات تبدأ في الهرب من السطح عند طول موجة ضوء معينة. لكن إذا قمنا بزيادة طول الموجة، أي تغيير لون الضوء، تتوقف الإلكترونات عن الهرب، مهما قمنا بزيادة شدة الضوء
شعاع الضوء يحمل طاقة، هي التي تنزع الإلكترون من السطح المعدني. زيادة شدة الضوء تؤدي إلى زيادة عدد الإلكترونات التي تهرب من السطح. لكن في حالة تغير طول الموجة، يتوقف كل شئ. لماذا؟
لماذا الإلكترونات صعبة المراس في تخير نوع طعامها؟ هذا شئ لا يفهمه علماء الفيزياء بالمرة. هنا يأتي المنقذ. ألبرت أينشتاين.
البرت أينشتاين عالج المشكلة من زاوية أخرى. في الحالات العادية، الإلكترون مرتبط بذرات السطح المعدني. لكي نطرد الإلكترون من السطح، نحتاج قليلا من الطاقة. لكن الضوء له طول موجة. موجة الضوء هذه تتصرف كجسيم صغير، يحمل الطاقة وينقلها إلى الإلكترون فيجعله قادرا على الهرب من الأسر.
سبحان الله، لقد رجعنا إلى نظرية نيوتن التي تقول بأن الضوء عبارة عن جسيمات دقيقة. لكن ما مقدار طاقة هذه الجسيمات الضوئية؟ الحسابات أثبتت أنها صغيرة جدا. إذن لماذا لا تكون مساوية ل"كوانتا" بلانك التي ذكرها بلانك منذ 5 سنوات ماضية. تخمين ذكي جدا.
لهذا، قال أينشتاين أن الضوء عبارة عن تدفق طاقة من الكوانتا. عند كل طول موجة ضوئية، تكون الكوانتا التي يحملها الضوء متساوية في المقدار تماما. هذه الكوانتا، فتافيت الطاقة، أسماها أينشتاين "فوتونات الفوتونات تحمل طاقة صغيرة. تصدم بها الإلكترون بقوة مناسبة، فتنزعه من السطح المعدني. إذا لم تكن هذه الطاقة كافية، فلن يهرب الإلكترون. حسب معادلة بلانك، الطاقة يحددها تردد الموجة. وكلما زاد طول الموجة، قل ترددها، وبالتالي قلت طاقتها. وتفشل في مهمتها.
شدة الضوء لا تهمنا هنا بقدر طول الموجة. إلكترون واحد لا يحتاج أكثر من فوتون واحد بطاقة مناسبة لكي ينزعه من السطح المعدني. هذا يفسر لنا تأثير الضوء على أسطح المعادن. لكنه تفسير، مثل أبحاث بلانك، قوضت أساسيات الفيزياء الكلاسيكية
وللحديث بقية، فإلى اللقاءإن شاء الله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.