- إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن المواطن المصري قد بلي- منذ عشرات السنين – بنظام سياسي ديكتاتوري مستبد ، يؤمن بحكم الفرد الواحد ، ولا يعرف لتبادل السلطات سبيلاً ، وذلك منذ قيام الثورة في الخمسينيات ، واستبدال النظام الملكي ليحل محله النظام الجمهوري ، وحتى نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير ، وإسقاط النظام المستبد ، ولكي يضمن الحزب الحاكم السابق بقاءه في السلطة لأجل غير مسمي ، فإنه قد انتهج سياسات قاسطة مستبدة تضمن له ذلك ، لذا فقد عمل على محورين أساسيين أولهما :- العمل على انتشار الأمية السياسية بين جموع المواطنين ، والثاني :- العمل على إفقار المواطن ، وتجويعه ، وتركه يدور حول دائرة مفرغة ، مكرسًا كل وقته وجهده من أجل توفير لقمة العيش التي تعود أن يحصل عليها بصعوبة بالغة ، بحيث يصبح غير قادر مادياً ، أو معنوياً أن يثقف نفسه ، أو حتى يعرف أبسط حقوقه وواجباته السياسية ، وما له وما عليه حيال وطنه. - ولأن الأقدار قد شاءت للمواطن المصري بأن يغوص في عمق الوحل لمدي نصف قرن من الزمان تقريباً ، فقد نجح الحزب الحاكم السابق نجاحاً فائقاً في تحقيق أهدافه ، ومخططاته ، وسياساته المتردية حيال هذا الوطن ومواطنيه ، ونتيجة لذلك ، فقد أصبح المواطن المصري جهولاً بالثقافة السياسية تماماً ، ولقد سطرت بخصوص هذا الشأن مقالاً تحت عنوان "المواطن بين الإصلاح السياسي والأمية السياسية " ، وطالبت من خلاله القيادة السياسية - آنذاك - بأن يقوم نخبة من فقهاء السياسة والقانون بتسطير كتاب ، يوضح للمواطن حقوقه وواجباته السياسية ، وكيفية ممارسة العمل السياسي ، ودور الأحزاب السياسية ، وأهمية تعددها ، على أن يدرس – كمادة أساسية – بأحد مراحل التعليم الأساسي ، وبذلك فإننا سنضمن محو الأمية السياسية عند معظم المواطنين ، وعلى الرغم من أنه قد نشر بإحدى صحف المعارضة الحزبية العريقة ، في غضون العام الماضي ، ونظراً لأن ذلك المطلب الثمين كان سيتعارض مع سياسات الحزب الحاكم السابق ، الذي أثبت فشله الذريع ، وقد يعرض مستقبله للخطر ، وفقدان السلطة بين عشية وضحاها ، فقد جعل قيادات الحزب الحاكم السابق أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم ، وأصروا على عدم الإصغاء لهذا المطلب القومي ، والسعي لتحقيقه ، من أجل أن يضمن الحزب الشمولي الحاكم بقاءه في السلطة ، دون منازع ، أو منافس حقيقي إلى ما لا نهاية. - ونتيجة لتلك السياسات الفاشلة ، فقد أودى الحزب الحاكم السابق بحياة هذا الوطن ومواطنيه إلى قاع الغبراء ، بعد أن كان يضاهي النجوم في عنان السماء ، لدرجة أن الكثير من الأنظمة السياسية ، والمنظمات الحقوقية العالمية قد صنفت وطننا في مقدمة الدول الديكتاتورية المتأخرة في شتي المجالات ، ولو نظرنا للدول المتقدمة التي حرصت على تطبيق الديمقراطية الحقيقية دون حذف أو نقص ، سنجد الفرق واضحاً جلياً بين تلك الدول ووطننا ، فعلي سبيل المثال ، فإننا لو عدنا بأذهاننا منذ الثمانينيات حتى هذه اللحظة ، سيتبدي لنا تبادل السلطات ، بصورة شبه دورية في الكثير من دول العالم المتقدمة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسرائيل ، في حين أنه لم يحدث في وطننا حراك سياسي حقيقي ، أو تبادل للسلطات طيلة هذه الفترة الزمنية الطويلة . - ولأن السياسات المعوجة لا يمكن لها أن تأتي بثمار ، فإن الأمية السياسية التي تميز بها المواطن المصري ، والتي أصبحت من أبرز سماته وسجاياه ، فقد أدي ذلك لتردي وفساد النظام السياسي السابق في وطننا ، وأصبحت المقاعد السياسية ، من القاعدة إلى القمة قاصرة على أناس أو عائلات دون غيرهم ، وفي مقدمتهم رجال المال والأعمال من الذين أتقنوا فن الاحتكار ، والمتاجرة بعرق الشعوب ودمائهم ، وعلى الصعيد الآخر ، فإن سياسة تجويع الشعوب ، وعدم قدرة المواطن على توفير متطلباته الأساسية ، فقد أدي ذلك إلى انتشار البطالة في مجتمعنا ، ونتيجة لذلك ، فقد انتشرت الجرائم المتباينة كالقتل ، والسرقة ، والاغتصاب ، وتجارة المخدرات ، والجنوح للتطرف والإرهاب ، وممارسة الرذيلة والفاحشة ، ناهيك عن هروب وفرار الكثيرين من أبناء وطننا ، للدول العربية والأجنبية ، بالطرق الشرعية وغير الشرعية ، مما أثر بالسلب على أخلاقيات مجتمعنا . - وفي الواقع فإن المواطن المصري حينما يفر من قسوة الفقر والقهر والظلم الذي يشهده في وطنه ، مهاجرًا لإحدى الدول العربية أو الأجنبية ، فإنه يجد الفرق واضحًا كوضوح الشمس في ضحاها بين وطنه الذي فر منه ، والدولة التي هاجر إليها ، فعلي أسوأ الأحوال فإنه يحصل على لقمة عيش كريمة مقابل نصبه ولغوبه ، ليس ذلك فحسب ، بل إنه يوفر بعد متطلباته الأساسية المال اللازم لأسرته ، والذي ينفعهم وينقذهم من الجحيم الذي يعيشونه في وطنهم فيخرجهم من ظلمات الفقر إلى نور الغني ، وحينئذ يندم المهاجر على كل لحظة قضاها في وطنه دون جدوى ، ولسان حاله يقول " لو لم أكن مصريًا ، لوددت أن أكون أمريكياً ، أو أوروبياً ، أو خليجياً ، أو حتى سودانياً ". - والحقيقة أن رغد العيش الذي يلاقيه المواطن المصري في دول الخارج التي يقطنها ، يجعله غير شغوف للعودة لوطنه ، مما يجعله يمكث أعوامًا عديدة ، ثم يعود لوطنه مجبرًا ليقضي أقل من ثلاثين يومًا بين أهله وزوجته وأولاده ، وليس حبًا ، أو اشتياقًا لوطنه ، ومن هنا بدت المشكلة ، فهؤلاء المهاجرون ، أو الهاربون إن صح التعبير لن يجدوا بأي حال من الأحوال نصف فرصة في وطنهم مثل التي يحصلون عليها في دول الخارج ، وفي نفس الوقت فإن أهالي هؤلاء المهاجرين ، وأزواجهم ، وأولادهم قد انتعشوا اقتصاديًا ومعيشيًا إلى حد ما ، وصعدوا فوق خط الفقر الذي لم ولن ينسوه مهما صعدوا أو انتعشوا ، لدرجة أنهم يفضلون الموت خيرًا من أن يعود هؤلاء المهاجرين إلى وطنهم ، فيزج بهم جميعًا مرة أخرى إلى أدني ما تحت خط الفقر الذي ودعوه بصعوبة بالغة في الماضي. - وبلا ريب فإن انتشار مثل هذه الظاهرة الاجتماعية الخبيثة ، وعلى وجه الخصوص ، في الريف المصري ، فقد أدي ذلك إلى انهيار وفساد الكثير من الأسر المصرية ، وذلك بسبب اغتراب الزوج عن زوجته وأولاده لأعوام عديدة ، فالزوجة قد عرفت وطعمت بنهم أشهي الأطعمة بعد أن كانت عاجزة عن توفير فتات الموائد التي كانت تملأ بها جزء من فاقتها في الماضي ، نظرًا لتحسن حالة زوجها الاقتصادية في دول الخارج ، والذي انعكس عليها ماديًا بصورة ايجابية ومباشرة ، وقد ارتدت أرقي وأينع الملابس الداخلية والخارجية بعد أن كانت ترقع ثوبها مائة مرة قبل أن تودعه ، وتقيم له عزاء الرحيل ، وحينئذ يطاردها شبح الفراغ العاطفي ، والذي لا بد للمرأة أن تملأه ، بطريقة أو بأخرى ، وإلا أصيبت بالانهيار العصبي ، وعدم الاتزان نفسيًا كما أكد لنا علماء النفس ، فإذا ما أبصرت المرأة يمينًا وشمالاً ، بعد أن ملأت فاقتها بأشهى الفاكهة والمأكولات ، وارتدت أجمل وأينع الثياب ، فلم تجد بعلها ، فإنها تبحث في التو واللحظة عن رجل يملأ فراغها وعواطفها ، من خلال تبادل النظرات الرومانسية ، والعبارات العاطفية ، وقد يصل الأمر لممارسة الجنس والرذيلة بينهما إن سنحت لهما الفرصة ، وعلى أسوأ الأحوال ، فإنها تلجأ لممارسة الجنس الفردي من خلال مشاهدة مواقع الدعارة والجنس على شبكة الإنترنت إن لم تتح لديها فرصة لإقامة علاقة واقعية وطبيعية مع أحد الرجال ، ذلك لأن المرأة بطبيعتها العاطفية الجارفة تقوى وتضعف ، وتحب وتكره ، وتهوى وتبغض ، وتعطي وتأخذ ، وتنسى وتتذكر ، تصديقاً للمثل الشعبي الذي يقول " حبيبهن من حضر ، وعدوهن من غاب" ، لذا فإن في تقديري أن أكثر من تسعين في المائة من الزوجات اللاتي يهجرهن أزواجهن ، لأعوام عديدة في دول الخارج يلجأن لإقامة علاقات آثمة ، وغير شرعية مع الرجال ، أما العشرة الباقية فإننا نجدهن يسبحن في محيط مواقع الدعارة والجنس أمام شاشات الإنترنت. - أما الضحية الثانية لتلك الظاهرة الاجتماعية العقيمة فهم الأبناء ، ذلك لأن المرأة بأي حال من الأحوال لا تستطيع أن تحل محل الرجل من حيث تربية الأبناء ، وحسن تنشئتهم ، فاغتراب الأب عن أبنائه لأعوام عديدة ، وانشغال الأم في البحث عن الرجل المناسب الذي يستطيع أن يملأ فراغها وعواطفها بمهارة ، ويشبع رغبتها وغرائزها بجدارة ، يفقد الأبناء القدوة الحسنة التي هم في أمس الحاجة إليها في طفولتهم وشبابهم ، ونتيجة لذلك ، فإننا نجد معظم أبناء هؤلاء المهاجرين يسلكون مسالك الانحلال والانحراف الأخلاقي ، مما يجعلهم يسيرون ، ويتصرفون ، ويفعلون ما يشاءون دون ناصح أو رقيب ، نظرًا لافتقادهم الأب أو المربي إن صح التعبير ، والذي هو في المقام الأول من شأنه إثابة أبناءه إن أحسنوا أو أفلحوا ، أو معاقبتهم وتهذيبهم إن ضلوا أو أخطأوا ، هذا بالإضافة لانشغال الأم بشهواتها وغرائزها ، مما يجعلها غير جديرة ، أو صالحة أخلاقيًا لأن تمثل القدوة الحسنة لأبنائها ، والمؤسف أن تلك الظاهرة الاجتماعية المسرطنة ، والتي أصفها بالطامة الكبرى ، قد انعكست بالسلب على قاعدة عريضة في مجتمعنا ، مما يهدد مجتمعنا كله بالانحلال والانحراف الأخلاقي. - ولقد حرصت الشريعة الإسلامية الغراء ، بل وحذرت المجتمع المسلم من الوقوع في مستنقع تلك الظاهرة الاجتماعية الشاذة ، وذلك من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة ، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا قد أعطي المرأة الحق في طلب الطلاق إذا آلي أي حلف زوجها أن لا يجامعها لفترة تزيد على أربعة أشهر تصديقاً لقول الله تعالي " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفورٌ رحيم * و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " سورة البقرة – آية } 226-227 { ، ولقد ورد بتفسير القرآن العظيم لابن كثير- الجزء الأول - بشأن هاتين الآيتين الكريمتين أن الإيلاء الحلف ، فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة فلا يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها ، فإن كانت أقل من أربعة أشهر فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر ، وليس لها مطالبته بالفيئة (أي الجماع) في هذه المدة ، أما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفئ ( أي يجامع) وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا حتي لا يضر بها ، وروى مالك عن نافع عن عبدالله بن عمر أنه قال :- " إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتي يوقف فإما أن يطلق وإما أن يفئ " ، وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولى بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ عن عبدالله بن دينار قال :- " خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :- تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها :- كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ - فقالت :- ستة أشهر أو أربعة أشهر ، فقال عمر :- لا أحبس أحداً من الجياش أكثر من ذلك ، لذا فإن قانون الأحوال الشخصية (الوضعي) في وطننا لم يتجاهل تلك الظاهرة الاجتماعية القاسطة ، لكونه يعتبر الشريعة الإسلامية مصدرًا أساسيًا للتشريع كما ورد بالمادة الثانية من الدستور ، فالمادة الثانية عشر من القانون رقم 25 لسنة 1929م ، المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 م تنص على أنه إذا غاب الزوج سنة فأكثر بلا عذر مقبول جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضي تطليقها بائنًا إذا تضررت من بعده ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه. - فيا أيها المغتربون ، الذين أجبرهم الجوع ، واضطرهم لمفارقة وطنهم وأهلهم ، وأزواجهم ، وأولادهم لأعوام عديدة ، اتقوا الله في أزواجكم وأولادكم ، ولا تتركوا أزواجكم وأولادكم لفترات زمنية طويلة ، فقد يعرضهم ذلك للانحلال والانحراف الأخلاقي ، وحكموا ، وطبقوا ما نص عليه الشرع والقانون في هذا الشأن.