"الحمد لله خير ربنا كتير" جملة كثيرا ما كنا -كمصريين - نرددها وعلي وجوه معظمنا ابتسامة رضا تنم عن حالة قبول وقناعة بالأحوال وتقسيم الله للأرزاق بين عباده بلا حسد أو حقد علي ما في أيدي غيرنا, إنما للأسف تغيرت هذه الصورة تماما الآن ولم نعد نسمع عند سؤال أحد عن أحواله إلا الشكوى والسخط علي كافة المستويات واستبدلت جملة "الاشية معدن ب"الحالة ضنك الضنك" كناية عن ضيق الحال والعوز, لكن لماذا يشعر الكثيرون منا حاليا حتى الميسورين والمستورين قبل الفقراء والمعوزين بالضنك؟ لماذا لا تتوقف ألسنة معظمنا عن الحديث المتذمر من العيشة واللي عايشنها؟ ولما لا نمتنع عن سرد موبقات كل من حولنا وأخلاقهم المنعدمة وأطماعهم ونظهر أنفسنا في شكل الملائكة البريئة وأغلبنا- إلا من رحم ربي -كل همه في الحياة أن يقاتل بجميع الوسائل كل من تتعارض مصالحهم مع مصالحه وأطماعه . المدرس يشكو من سوء سلوك التلميذ، متناسيا أنه لم يعد في الأغلب الأعم قدوة حسنة بل تاجر علم يوزع علمه علي من يدفع وثمنه يرتفع مع كل موجة غلاء في الأسعار وكأنه تاجر ألبان وخضراوات!! وتجار الألبان والخضراوات يصرخون من جشع تجار الجملة وبخل المستهلكين وكأنهم أبرياء من جريمة استباحة المشترين ونهب ما استطاعوا هم وتجار الجملة وكل التجار لمختلف السلع الاستهلاكية أو المعمرة من جيوب المستهلكين, الذين ليسوا أبرياء أيضا من فتح أدراجهم للرشوة إذا كانوا موظفين أو رفع أسعار الكشف والعمليات في عياداتهم إذا كانوا أطباء أو إساءة المعاملة مع المرضي وذويهم إذا كانوا ممرضات إلا من "يفتح مخه" ويفهم معني كلمة "حمدا لله علي سلامته" ويضع يده في جيبه ويخرجها بما تيسر كلما شاهد أحدا من فريق التمريض ليضمن أدني حقوق قريبه المريض من الرعاية حتى في أغلي المستشفيات. دائرة الانتقام لا تستثني أحدا في مجتمعنا, نعم دائرة قررنا أن ندخلها جميعا وغاية همنا كيفية الانتقام من بعضنا البعض, بالإشاعات وترويج الأكاذيب, بممارسة الفساد في كل نواحي الحياة, بنشر الثقافة الاستهلاكية التي حولتنا لتروس في آلة الماديات التي أصبحت شغلنا الشاغل, "اللي معاه قرش يساوي قرش, وسطتك هي هويتك, اللي تغلب به العب به, إن جالك الطوفان ارمي ولدك تحت رجلك, اللي ملوش أهل الجنيه هو أهله وسنده" مجموعة ضئيلة من كم كبير من أفكار أخلاقية واجتماعية صارت تحكمنا وزادت شراستنا في الدفاع عنها والتمسك بها مما حول حياتنا لضنك الضنك. وهذا الضنك امتد من الجانب المادي للجانب النفسي والوجداني حيث حدثت لنا شروخ عميقة في شخصياتنا وأنفسنا التي عششت فيها غربان الوحدة والاكتئاب والهواجس والهذيان بعد أن سيطرت الماديات علينا فزادت معدلات الجريمة والإدمان والتفكك الأسري والتحرش والاغتصاب والأمراض النفسية وحالات الانتحار..الخ. وبنظرة سريعة علي أحوال المجتمع المصري فسنجد أن الناجين داخله هم فقط من يمتلكون فضيلة الحمد والرضا مما حال بينهم وبين التقاتل مع الجميع من أجل منصب أو نفوذ أو وظيفة أو ميراث, فالحمد والرضا لن يجعلا أحدا يهين والديه لينقض علي "تحويشة" عمرهما, ولن يحولا أخا لقاتل لاخواته أو امقاطع لهم من أجل شقة أو قطعة أرض متنازع عليها, من يقبل بأرزاق الله وقسمته في الحياة لن يلوك في سيرة الناس ويخوض في أعراضهم ولن يبيع ضميره وشرفه المهني أو الشخصي من أجل مكاسب رخيصة مهما عظمت. من يسعد بنصيبه من الدنيا ولو بدا ضئيلا ونجده حامدا شاكرا في كل الأوقات هو من لا ينسي الله في كل المواقف .. من يتحول سلوكه لبطاقة هوية لإنسانيته التي تنحاز لقيم الحق والخير والجمال - تلك القيم المفقودة في واقعنا- وتناصر الفقير وتحارب الفقر لا الفقراء, وتقاوم الفساد والمفسدين لا تناصرهم أو تدافع عنهم, وترفض القبح في النفس البشرية وسلوكياتها المعوجة ذلك القبح الذي دانت له أوضاعنا واعتدناه كجزء أصيل من حياتنا اليومية. "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ", وعد الله حق وواقع وذكر الله ليس فقط بممارسة العبادات والطقوس الدينية بل بأن تتحول سلوكياتنا لمرآة لديننا, وعلينا أن نكف عن الشكوى والاستجداء واستعذاب أدوار الضحية ولنواجه أنفسنا بأننا السبب فيما نعيشه من أحوال صعبة بل قاسية علي البعض فمن تهن عليه نفسه ويحولها لإله لا هم لها إلا الماديات لن يجني إلا الضنك لاسيما النفسي وهو الأقسى والأشد إيلاما.