لم يكن لدى النية للكتابة عن حضرتها ولكنها عندما نادتنى على غير موعد لم أجد نفسى سوى آتية طائعة ملبية النداء وكيف لا ألبى وأنا التى أحمل لها كل هذا الحب والمشاعر وكيف لا ألبى وهى صاحبة الكرامة وحفيدة المصطفى ونفيسة العلم والمعرفة كيف لا ألبى وهى التى يتلاشى فى حضرتها اليأس ويذهب الضجر ويذوب الحزن وينتهى القلق ليحل السلام والهدوء والطمأنينة وكيف لا ألبى وهى التى ما أن يذكر إسمها هى بالذات حتى تأمن الروح ويطمئن القلب وتغفو العين وتلين الكلمات وكيف لا ألبى وهى الزاهدة العابدة التى حجت ثلاثين مرة سيرا على الأقدام وأضاءت بعلمها الأرجاء وراح منها أبناؤها القاسم وأم كلثوم فى حضنها فصبرت وإستعوضت ربها بنفس راضية. إنها نفيسة الدارين التى أوصى سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بدفنها فى مصر وقد حفرت قبرها بنفسها فى دارها لتبقى حية دائما بين المصريين وفى قلوبهم وهى التى من عليها المولى عز وجل بكرامة أن يدعو الداعى فى رحابها فيستجيب العلى العزيز القدير ومن إعتاد على زيارتها يعى ما لهذه الزيارة من أثر بالغ على روحه ونفسه وقلبه خاصة لو كان فى ضيق . ولدت السيدة نفيسة يوم الأربعاء الحادى عشر من ربيع الأول عام 145 هجريا وجاءت الأنثى بعد عشرة من الذكور لذا طغت الفرحة على والدها محمد الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن على بن أبى طالب وجاءت فرحته تيمنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كانت له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفلهن وجبت له الجنة فسأله أحد الصحابة ولو كانت إثنتين ؟ فقال ولو إثنتين فقالوا ولو كانت واحدة ؟ فقال النبى ولو كانت واحدة " وقد أسماها والدها نفيسة نسبا لعمتها السيدة نفيسة بنت زيد وسجد لله شكرا بقدومها وقت أن كانت توأد البنات حية ثم رفع يديه للسماء ودعا "اللهم أنبتها نباتا حسنا وتقبلها قبولا طيبا وإجعلها من عبادك الصالحين وأولياءك المقربين اللهم إجعلها معدن الفضل ومنبع الخير ومصدر البر ومشرق الهداية والنور اللهم إجعلها نفيسة العلم وعظيمة الحلم وجليلة القدر" وقد إستجاب المولى وتقبلها عنده وفى يوم مولدها جاء رسولا من الخليفة المنصور ودخل المسجد الحرام حتى وصل الى والدها الحسن الأنور ثم أخرج كتابا وقدمه إليه فى إحترام وتوقير ومعه عشرين ألف دينار وكان الكتاب تفوح منه رائحة المسك ففتحه الحسن فإذا فيه الأمر بتوليته إمارة المدينة لذا نشأت السيدة نفيسة بالمدينة وحفظت القرآن قبل أن تتم العاشرة من عمرها وتفقهت فى الدين على يد والدها حتى تزوجت من إبن عمها إسحاق المؤتمن وبزواجها هذا إجتمع نور الحسن والحسين فى بيت واحد لأن زوجها هو حفيد الحسين رضى الله عنه ويروى أنه حين تقدم إسحاق لوالدها صمت ولم يرد عليه جوابا فقام إسحاق من عنده ودخل الحجرة النبوية وتوجه الى النبى وقال يا رسول الله إنى خطبت نفيسة بنت الحسن من أبيها ولم يرد جوابا وإنى لم أخطبها إلا لخيرها ودينها وعبادتها فرأى والدها النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال له " يا حسن زوج إبنتك لإسحاق المؤتمن" . وفى العشر الأواخر من رمضان عام 193 هجريا جاءت السيدة نفيسة الى مصر بعد أن زارت بيت المقدس وقبر الخليل إبراهيم مع زوجها وإبنها وبنتها وإستقبلها أهل مصر إستقبال الفاتحين عند العريش لما كانوا يعلموه عنها من ورع وتقوى وعلم وما أن دخلت مصر حتى أنزلها السيد جمال الدين عبدالله الجصاص كبير التجار وقتها بمنزله ثم إنتقلت الى دار أم هانىء بمنطقة المراغه وهو مكان بالقرب من منطقة الفسطاط حاليا وهناك ظهرت أول كرامة لها فى مصر بأن شفى من ماء وضوءها فتاه مقعده وهى بنت أيوب اليهودى فأسلم أهلها ومن كانوا معها . ويطلب الزوج من زوجته ان تعود معه الى المدينة فيتمسك أهل مصر بها وتستأذنه هى بالبقاء بعدما رأت فى المنام جدها صلى الله عليه وسلم يأمرها بالبقاء فى مصر وفى غربة الأب تمرض إبنتها أم كلثوم وتموت ومن بعدها شقيقها الأصغر قاسم لتنعيه الأم الثكلى " آلا تلك المسرة لاتدوم ولا يبقى على الدهر النعيم " ولا يعود إسحاق رغم مراسيلها له وكان قد تزوج وأنجب فى المدينة . كان ظلم إبن طولون قد طال المصريين جميعا فأستغاثوا بالطاهرة فسألت عن موكبه فقالوا بالغد فإعترضت الموكب وكان قد عرفها فقالت له " ملكتم فأسرتم وقدرتم فقهرتم وخولتم ففسقتم وردت إليكم الأرزاق فقطعتم هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذه غير مخطئة ولا سيما من قلوب أوجعتموها وأكباد فجعتموها وأجساد عريتموها فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم إعملوا ما شئتم فإنا صابرون وجوروا فإنا بالله مستجيرون وإظلموا فإنا الى الله متظلمون " فعدل فى وقته . كانت دارها بمثابة حصن الأمان لكل من دخل مصر وكان لحضرتها دور كبير فى مجىء الإمام الشافعى الى مصر ولما ثارت ضغينه ضده من أتباع الإمام مالك طلبوا من الحاكم طرده من مصر وإلا كانت الفتنة فإستجاب الحاكم لطلبهم وأنذر الشافعى بالخروج من البلاد بعد ثلاثة أيام ودعت له السيدة نفيسة وتدخل القدر ومات الحاكم وبقى الشافعى إماما لمصر ولم تدرى حفيدة النبى إن كان ما حدث كان كرامة لها أم كرامة للإمام . وبعد وفاة الشافعى شعرت نفيسة الدارين بأن موعدها قد إقترب فبدأت تعد نفسها للقاء الذى طالما إنتظرته فحفرت قبرها بيديها فى حجرتها بمنزلها الذى أهداه إليها والى مصر عبدالله إبن السرى إبن الحكم وهو الذى أصبح فيما بعد مسجدها الحالى وكانت قد أوصت بألا يعدها لقبرها إلا زوجها الذى حضر مصمما على دفنها بالبقيع وإعترض المصريين وحملوا له من الأموال ما لايحصى ولا يعد على ظهور العير حتى يتركها لهم ولكنه آبى وبات الناس حول قبرها يبتهلوا الله آلا يريهم فراقها آبدا وقد إستجاب عز وجل فقد خرج عليهم إسحاق فى الصباح مشرقا مبتسما وهو الذى كان معروفا عنه أن الإبتسامه لاتعرف لثغره طريق ليقول لهم أنه لن يأخذها حيث رأى جده رسول الله فى المنام قائلا " دع نفيسة بنت الحسن للمصريين فهم الأولى بها " وبقيت الطاهرة وبقى مسجدها حتى الأن ملاذا لكل من يمن عليه ربه بدعوة مستجابة ساعة صلاة الفجر فى حضرة الست .