عندما تطأ قدماك المكان، ترى مشهدا يقشعر له البدن، وتدمع له العين رغما عنها, أما الآذان فتلتقط آثار خطوات الأقدام علي رمال الأحواش وبعض الأصوات الأخرى التي تنم عن حياة أخرى، هذا المشهد هو ساكنو مقابر الإمام الشافعي الذين لم يجدوا يد تمتد لهم، أو توفر لهم حياة كريمة، وظلوا يسكنون المقابر لعقود طويلة لا يشعر بمعاناتهم أحد، وكأنهم غير موجودين، واعتبرهم المسئولون من ضمن الأموات، رجال وسيدات وشباب وأطفال في سن الزهور لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا آباءهم يقطنون هذه المقابر، ويعيشون على الكفاف الذي يقدمه لهم أصحاب القلوب الرحيمة، حيث تقاسموا مع الموتى كل شيء، النوم والمعيشة، النفس، حتى الهواء الذي يستنشقونه يوميّا تجده مخلوطا برائحة عظام الموتى، ومن هنا قررت بوابة "الشباب" زيارة مقابر الإمام الشافعي التي يحدها من الشرق تلال المقطم ومن الغرب عين الصيرة ومساحات من الأرض الفضاء، للإطلاع على أحوال معيشتهم، ونقل مدى معاناتهم. "نفسي ولادى يتعلموا ويخشوا مدارس وجامعات ويبقى ليا مكان زى كل الناس أخذ فيه راحتي" هكذا قالت زينب، البالغة من العمر 37 عاما أحد قاطني هذه المنطقة، وذكرت قائلة :"ولدت وتزوجت في هذه المقابر ولدي من الأولاد ثلاث، وأعيش مع أفراد أسرتي في هذا المدفن منذ أكثر من 20 عاماً، نعاني الكثير من المشاكل الحياتية الغير أدمية بخلاف عيشتنا مع الأموات، فلا يوجد لدينا مياه أو نور وما"عندناش" حمام و"بنستحمى" في "طشت جنب أي تربة". بينما قال محمود أحد ساكنى المقابر، إنه يعمل مساعد تربى، ويعيش في هذا المكان منذ 22 سنة مقابل 20 جنيها في الدفنة، ويأخذ معاش 327 جنيها من الضمان الاجتماعي ولديه ولد حاصل على معهد 4 سنوات، يساعده في مهنته، مغلوب على أمره. وألتقطت حكمت أطراف الحديث فذكرت أن حقها الأصيل وأملها الوحيد في الحياة هو الحصول علي شقة بعيدة عن المقابر خاصة وأنهم معرضون للطرد في أي وقت منه, كما أكدت قائلة:"أن محدش غاوي يجاور الأموات ويقل راحتهم عشان إحنا كمان مش مرتاحين, المحافظة وعدتنا بشقق من 2008 ومفيش حاجة بتتنفذ". في حين أوضحت الحاجة سعدية أن الأزمة ليست في نقص الخدمات فقط، فذكرت قائلة:"مشكلتنا الحقيقية في الأمان، فنحن لا نشعر بالأمان على أنفسنا ولا أولادنا لأن المنطقة أصبحت مليئة بمدمني المخدرات وسارقي الجثث الذين يأتون ليلاً ومع وجودهم يتحول المدفن إلى ملهى ليلي، فنحن نغلق باب المدفن بعد صلاة المغرب" وأضافت:" أنه ليس من الصعب أبداً أن يقتل قتيل دون أن يشعر به أحد لنفاجأ مع طلوع النهار بالجثث ملقاة هنا أو هناك". وبعد حديث الحاجة سعدية استكملت الجولة وسط البيوت التي يتكون بعضها من مجموعة قوائم خشبية تستند علي قوالب الطوب الصغيرة التي تكون مجموعة من بيوت الدور الواحد فيما كانت العشش مساكن لآخرين، فالتقيت بمجموعة من الأطفال اللي قلبهم مات كما يصفون أنفسهم ويفتخرون بذلك, خاصة بعد أن قضوا سنواتهم الأولي بين أصوات الصراخ والعويل لأهالي بعض المتوفين وحكايات الأرواح والعفاريت التي توارثوها عن الآباء فباتت أحاديثهم لا تخلو أبدا من الخرافات والحكايات التي يؤمنون بحدوثها ويتداولونها فيما بينهم ومع الزائرين. ومن بين مجموعة من الأطفال تحدث محمد البالغ من العمر 14 سنة وقبل توجيه أي سؤال بادرنا بالحديث عن حياة المقابر ليلا التي رواها وكأنها فيلم رعب يحفظ مشاهده عن ظهر قلب فتذكر الأصوات والصراخ الذي يتردد ليلا مؤكدا أن الجميع يلزم بيته ليلا خوفا من البلطجية واللصوص. وفى ظل انعدام الخدمات لم يجد ساكنو مقابر الإمام الشافعى معينا سوى الجمعيات الخيرية، فذكر أحد أصحاب هذه الجمعيات عندما توجهنا إليه :" أشارت أحدث الدراسات أن عدد ساكنى المقابر فى الجمهورية يصل إلى مليون ونصف مصرى، وأن أكثر من 60% منهم داخل القاهرة، مابين الإمامين والسيدة نفيسة وعين الصيرة والبساتين وصلاح سالم والقاهرة القديمة، ووجه في نهاية حديثة رسالة إلى الدولة بضرورة توفير سكن آمن لسكان المقابر وذويهم.