المشهد العام في مصر علي مدي الشهور القليلة التي أعقبت ثورة 25يناير يكشف عن جوانب عديدة تستحق التوقف أمامها ومحاولة فهمها والإجابة عن بعض علامات الاستفهام المطروحة علي الرأي العام والتي تتزايد يوما بعد يوم.. وأولها هو : هل هناك ما يدعو إلي القلق أو الخوف من الوضع الراهن؟ خاصة أن بعض مظاهره مزعجة مثل الانفلات الأمني أو الانشغال بالماضي علي حساب الحاضر والمستقبل .. والمخاوف من انتخابات برلمانية قادمة قد يكتسحها التيار الديني وفي مقدمته جماعة الإخوان المسلمين .. وهي المخاوف التي جعلت أبناء الوطن ينقسمون إلي تيارات مختلفة يطرح كل تيار منها رأيه الذي لا يري غيره مع أن كل الآراء قد تكون مقبولة مادام الهدف واحدا وهو مصلحة الوطن .. فهناك أصحاب شعار الدستور أولا قبل الانتخابات البرلمانية وفي مواجهتهم من يري في مجرد طرح هذا الرأي انقلابا علي استفتاء 19 مارس ويتمسك بالانتخابات البرلمانية أولا وهناك تيار يعبر عنه مثلا السيد عمرو موسي وهو تيار يلح علي إجراء الانتخابات الرياسية أولا وبعدها سوف يتم استكمال بناء باقي مؤسسات الدولة .. وهناك من ينادي وبشدة بضرورة استمرار القوات المسلحة في مسئولياتها لإدارة شئون البلاد وتمديد الفترة الانتقالية وفي المقابل ينادي البعض الآخر ومنهم المجلس الأعلي للقوات المسلحة نفسه بضرورة الإسراع بتسليم السلطة إلي حكومة مدنية؟ ! والحقيقة أن ما تشهده مصر بعد الثورة يعد انعكاسا منطقيا لسنوات سابقة من الاستبداد والدكتاتورية ... ومن يقارن أحوال مصر اليوم بأحوالها منذ أسابيع سيجد أن الأوضاع بصفة عامة تتحسن في كافة الاتجاهات وأن حالة السيولة التي كان عليها الوطن تتراجع وأن مواقع كثيرة بدأت تتماسك من جديد وتعود لأداء دورها وهو ما يعني أن ما يبدو علي السطح من مؤشرات القلق هو هواجس مشروعة بعد سنوات أهدر فيها تماما رأي الشعب .. نعم أخشي مثل كثيرين أن يؤدي إجراء انتخابات برلمانية قريبة إلي سيطرة أو اكتساح التيار الديني بكافة أطيافه لهذه الانتخابات مما يؤدي بنا إلي برلمان يفتقد التوازن بين الأغلبية والمعارضة ويفتح الباب أمام احتكار السلطة لهذا التيار .. ولكنني في نفس الوقت أخشي من أن يحدث ذلك مع أي تيار آخر غير التيار الديني وأعتقد أن المواطن المصري أصبح أكثر وعيا ولن يسقط في فخ منح الثقة المطلقة والتفويض علي بياض لأي قوة من القوي السياسية بما فيها ائتلافات الشباب المتعددة بعد أن عاش سنوات المعاناة من سيطرة ونفوذ الحزب الوطني المنحل .. من هنا أعتقد أنه مع بدء الانتخابات وأمام صناديقها سوف يؤدي اختيار الشعب إلي إيجاد توازن للقوي السياسية داخل البرلمان المصري القادم ولن يسمح لقوة من هذه القوي أن تنفرد بالسلطة وأن تعود بمصر إلي الوراء وإلي ما قبل 25 يناير 2011 . تبقي القضية الأهم التي تشغل الناس في الوقت الراهن وهي قضية تسليم السلطة إلي حكومة مدنية وانتهاء مهمة المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي تحمل مسئولية إدارة شئون البلاد منذ 11 فبراير 2011 ورغم الخلاف الكبير بين رأي يتمسك بتنفيذ البرنامج الزمني الذي ينتهي بعد عدة شهور وبنهايته ينتهي دور المجلس العسكري ورأي آخر يطالب بتمديد مهمة المجلس العسكري في إدارة شئون البلاد لتصل إلي أكثر من عامين فإن الأمر يتطلب في رأيي تقييما موضوعيا يحقق في الدرجة الأولي مصلحة ومستقبل الوطن .. وإذا كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة نفسه حريصا علي ألا يترك مناسبة واحدة تمر دون أن يؤكد رغبته في إنهاء دوره في أسرع وقت فإن الأمر يتطلب مناقشة هادئة للقضية تبدأ بتحديد الهدف من تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة مسئولية إدارة شئون البلاد وأن نتفق علي أنه عندما يتحقق هذا الهدف يصبح من المنطقي بل والضروري أن تتفرغ القوات المسلحة لمهامها الأساسية والمقدسة في الدفاع عن أمن الوطن وحدوده .. والهدف من إدارة المجلس الأعلي للقوات المسلحة لشئون البلاد هو ببساطة تحقيق تماسك الدولة المصرية واستكمال مؤسساتها الدستورية علي أسس جديدة واستقرار الأوضاع الداخلية علي نحو يعيد مشاعر الأمان والثقة في أن يخطو الوطن علي طريق الدول الديمقراطية .. وعندما يتحقق هذا الهدف في أي وقت ينتهي دور القوات المسلحة في إدارة شئون البلاد .. قد يتحقق هذا الهدف بعد بضعة شهور أو أكثر ولكن يظل ذلك هو المعيار الحاكم لاستمرار أو انتهاء دور القوات المسلحة في إدارة شئون البلاد .. ولا أظن أن هناك من يغامر أو يخاطر باستقرار الوطن مطالبا بإنهاء دور القوات المسلحة في ظل ما يشهده الشارع المصري يوميا من آثار سيولة تتجلي مظاهرها في اعتصامات وإضرابات ومظاهرات فئوية وقوي معادية للثورة تمارس عمليات مشبوهة هدفها الوحيد الإخلال بأمن الوطن واستقراره .. باختصار شديد فإن القوات المسلحة تولت مهمة إدارة شئون البلاد علي غير رغبة منها وسوف تترك هذه المهمة تحت شرط واحد وهو أن تعبر مصر هذه المرحلة الانتقالية بأمان وأن تضع أقدامها علي أول طريق الديمقراطية وعلينا جميعا أن نتحرك للوصول إلي هذه المرحلة وألا نتعامل مع المرحلة الانتقالية باعتبارها مرحلة انتظار وترقب لما هو قادم .. بل هي مرحلة حركة وعمل لتجاوز كافة الأوضاع الحالية حتي نصل إلي المستقبل !!