لم أكن أتوقع أن تحدث ثورة في مصر بهذا الحجم وهذه العبقرية في التخطيط والتنفيذ بعدما وصلنا إلي مرحلة ما بعد اليأس في كل شيء .. لكن بعد نجاح الثورة تذكرت أشياء وحوارات وانطباعات كثيرة كانت تمر بخاطري وكنت أراها بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عن الطريقة التي أراها بها الآن . فقد عزيز
كنت أنا وأحد أصدقائي نجلس في المقهي كعادتنا مرة كل أسبوع , وكانت جلساتنا عبارة عن حوار يمتد لعدة ساعات نلعب خلالها الطاولة ونشرب الشاي تحت ظلال القفشات والنكات والسخرية من أوضاعنا وأحوالنا وأحوال الصحافة والحديث عن زملائنا الحنجوريين المتاجرين بالشعارات ليكونوا دائما أول الحاصلين علي مكاسب من أي أحد ومن أي جهة وطبعا كان الحوار عن مشكلات البيت والزوجات والأولاد وغلاء الأسعار من الموضوعات التي لا تمر جلسة واحدة دون ذكرها والتعجب من سرعة ارتفاعها وقفزها قفزات بهلوانية إلي الجو بشكل يجعلنا نعجز عن أخذ أنفاسنا لثباتها عددا من الأيام . ولكن اللهاث كان دائما من نصيبنا عند متابعتها .. وكذلك حوارات السياسة التي تتركز بالضرورة علي فترة التأبيد في الحكم التي تخطت الفترة القانونية للتأبيد (25 سنة ) ووصلت إلي 30 سنة .. ثم نصل إلي الزغلولة الكبيرة وهي التوريث ونظل نقول ونحكي ونفتي ونؤكد أنه لن يحدث وساعات نكون علي شبه يقين أنه سيحدث , وفي النهاية نزهق ونقول مفيش فايدة .. عندها يقول لي صديقي : الناس لازم تتحرك .. فأرد : لن يتحركوا .. فيقول : إحنا الحمد لله بنعاني لكن عايشين أنا عايز أعرف الفقراء ليه ما بيتحركوش .. فأقول : قبل أن تلوم علي الناس هل عندك استعداد تنزل الشارع في مظاهرات لرفع الأجور أو لفرض رقابة علي ارتفاع الأسعار الجنوني أو لوقف التوريث أو علشان أي حاجة فيجيب : لا .. أسأله : ليه .. يرد : علشان عيالي مين اللي هيصرف عليهم , وفي نهاية الجلسة التي غالبا ما تكون في الثالثة صباحا ندفع ثمن المشروبات ثم ننصرف . تذكرت هذه الجلسات بعد ثورة 25 وتحديدا بعد التنحي ( أو التخلي عن السلطة ) وتعجبت كيف وصلنا بالفعل لمرحلة ما بعد اليأس من تغيير أي شيء وكيف اسودت الدنيا في وجوهنا وكيف تبدل الحال بعد 25 يناير ووقتها تذكرت أغنية حمادة هلال ( والله وعملوها الرجالة ورفعوا راس مصر بلدنا .. ووقفوا وقفة رجالة مبروك لمصر ولولادنا ). الغريب أني أحيانا لا أصدق أن الثورة حدثت ثم أصمت لحظة وأقول : لا الثورة قامت بالفعل والتنحي حصل وبعدها أعيش في حالة من عدم التصديق ثم فترة من الشك , وهذا ما حدث لي لكن بدرجة أكبر بكثير عندما توفي أبي قبل خمس سنوات وظللت بعدها لعدة أشهر لا أصدق أن أبي مات ثم أستسلم للأمر الواقع ثم أشك , وعندما تحدثت مع الطبيب قال لي إن هذه الأعراض تحدث للإنسان عندما يفقد عزيزا ( أي شخص عزيز عليه أب أو أم أو صديق ) ويظل الإنسان علي هذه الحال حتي يخرج بمرور الوقت من حالته ويصدق أن عزيزه قد مات ولن يعود وربما يلتقي به في الفردوس إن قدر الله له هذا . والغريب أن ما حدث لي منذ خمس سنوات عند فقد إنسان عزيز حدث بدرجة أقل هذه الأيام بعد تنحي إنسان لم يكن عزيزا بالمرة .
انظر ماذا فعل المصري وسوف تنبهر
عندما أشاهد الفضائيات أتنقل ما بين المحطات الكثيرة علي النايل سات لأشاهد فيلما هنا أو برنامج توك شو هنا أو أي شيء آخر يجذبني , وفي أوقات كثيرة أشاهد قنوات دبي أو سما دبي أو أبو ظبي ثم يظهر في الفواصل بين البرامج أوخلالها شعار شكله جميل ومعناه أجمل , عبارة عن كلمتين هما إماراتي وأفتخر .. بصراحة كنت أتضايق كثيرا وأحقد كثيرا وذلك لأني مواطن مصري لا أجد أي حاجة أفتخر بها .. أريد أن أعرف بماذا أفتخر .. هل أفتخر بالتعليم ومصاريفه التي لو أحصينا عدد كلمات منهج الصف الأول الابتدائي مثلا لوجدناها 10 آلاف كلمة ومصاريف العام الدراسي حوالي 5 آلاف جنيه ( في الأحوال فوق المتوسطة ) يعني الكلمة بنصف جنيه والحصيلة في نهاية العام تلميذ ناجح ومنقول للصف الثاني الابتدائي كل ما تبقي في دماغه حوالي 500 كلمة ب 250 جنيها وكمان لا يفهم نصفها .. أم أفتخر بالصحة ومعاهدها القومية التي في يوم من الأيام ذهبت سيدة أعرفها إلي معهد القلب لعمل رسم قلب وكانت النتيجة ذبحة صدرية حادة وعلاجا مكثفا تم صرفه من المعهد مجانا , وبعدما فزعت السيدة علي نفسها وخافت ذهبت لأحد أشهر أطباء القلب في مصر للكشف مرة أخري ومعرفة المرض بالضبط وتحديد العلاج المضبوط , وبعد الفحص قال لها : أنت لست مريضة بشيء فقالت : ورسم القلب الذي أجريته بالمعهد فقال إن أذرع جهاز رسم القلب بالمعهد التي ترسم الخطوط خلال الفحص غير مضبوطة والجهاز يحتاج إلي ضبط .. أم أفتخر بالشوارع المرصوفة أم بالمرور الجيد أم بسرعة إنهاء أي أوراق في أي مصلحة حكومية أم بقيام الحكومة برفع يدها عن المواطنين ليستغل بعضهم البعض وليطحنوا بعضا .. فاليوم أشتري كيلو اللحم من الجزار ب 60 جنيها وغدا يمرض الجزار فيكشف عند الطبيب ب 200 جنيه وغدا يذهب الطبيب للميكانيكي ليصلح سيارته فيأخذ منه مبلغا كبيرا وبعدها يذهب الميكانيكي ليشتري اللحم من الجزار لتبدأ الدائرة من جديد وهكذا دوائر متجاورة ومتداخلة من المعاملات المالية تترك فيها الحكومة كل مواطن يدوس علي الآخر وكأن كل مواطن عندما يبيع سلعة أو خدمة لغيره يقول في سره أهلا .. إنت وقعت ولا الهوا إللي رماك .. هل بعد ذلك أفتخر؟ .. طبعا لا . لكن بعد معجزة ثورة 25 يناير 2011 التي ستصبح بإذن الله ثورة للرقي بالأخلاق وكأن شعارها الشعب يريد الرقي بالأخلاق أجد نفسي أفتخر بأني مصري وأقول لكل من بجنسيته يفتخر انظر ماذا فعل المصري وسوف تنبهر .
علم مصر
كنت دائم الاعجاب بعلم ألمانيا وألوانه الساخنة , وهناك أعلام للدول كنت أطيل النظر إليها مثل علم اليابان وعلم كوريا الجنوبية لشكلهما المميز , أما علم الأرجنتين فأراه خارجا عن المألوف , وعلم روسيا يشعرني بالقوة , وعلم السعودية بلونه الأخضر مريح للعين وعندما تنظر إليه تأخذ ثواب الذكر بقراءة لا إله إلا الله محمد رسول الله إذا كانت هذه نيتك . أما علم أمريكا فأحار في وصف حالتي عندما أراه هل أشعر بالانبهار أم الغيرة أم الغيظ؟ .. عموما ألوانه وشكله لا يبعث الراحة في نفسي لأني أراه مليئا بالتفاصيل .. علم إنجلترا أشعر عندما أنظر إليه بالقوة ( قوة الدولة ), وعلم لبنان عندما أري شجرة الأرز في وسطه أشعر بالرخاء والخير . أما علم مصر فبصراحة لم أكن أستطيع أن أراه أو علي الأقل أطيل النظر إليه وذلك لتشابهه مع العديد من أعلام الدول من جهة بمعني أنه ليس متفردا , ولأني كنت أراه متنافرا وغير متناسق . ولأن انطباعاتنا عن الأشياء وإحساسنا بها يكون بمقدار المعلومات الإيجابية أو السلبية الموجودة لدينا عن هذه الأشياء أو عما ترمز له فإن انطباعاتي عن أشكال الأعلام هي ترجمة لمعلوماتي عن الدولة التي يرمز لها العلم , ولذلك فإن إحساسي بعلم مصر وانطباعي عنه قبل يوم 25 يناير 2011 هو إحساسي بمصر وما يحدث فيها قبل هذا اليوم , ولكن بعد الثورة أصبحت أري العلم بشكل آخر , اكتشفت أن شكله جميل وألوانه قوية وواضحة وأنه متميز بين أعلام الدول وبدأت أطيل النظر إليه فأشعر بالكرامة وأحس معني حب الوطن لدرجة أنني اشتريت علما وهي المرة الأولي في حياتي التي أشتري فيها علما . أخيرا أدعو الله أن تكون مصر التي كانت في خاطري قبل الثورة غير مصر التي ستظل في خاطري للأبد .