نائب رئيس جامعة أسوان يتابع سير أعمال الامتحانات بكلية الآداب    قيادي بمستقبل وطن: عودة الحوار الوطني يؤكد قدرته على دعم جهود الدولة    العاملين بالبناء تشكر القيادة السياسية على النهضة التي تشهدها مصر بالطرق والكباري    بدء الاختبارات الشفوية الإلكترونية لطلاب شهادات القراءات بشمال سيناء    لإنتاج 1000 ميجاوات.. تفاصيل افتتاح محطة كهرباء من الرياح    مطار القاهرة يسير اليوم الثلاثاء 527 رحلة جوية لنقل أكثر من 66 ألف راكب    جرائم إسرائيل.. وأمريكا «2»    «الوزراء السعودي» يجدد رفض المملكة القاطع مواصلة قوات الاحتلال الإسرائيلي انتهاكاتها السافرة    إصابة جندي بولندي في عملية طعن على يد مهاجر غير شرعي    مانشستر يونايتد وجيرونا مهددان بأزمات فى بطولات يويفا بسبب تضارب المصالح    مدرب منتخب الطائرة يتحدث عن حظوظ الفراعنة في أولمبياد باريس    «ميدالية ال 12».. ياسين حافظ يثير الجدل باحتفال جديد مع إمام عاشور    تشكيل زد لمباراة الداخلية بكأس مصر    التحفظ على نجل الفنان أحمد رزق في حادث تصادم بأكتوبر    تشييع جثمان شاب لقي مصرعه على يد صديقه في كفر الشيخ (صور)    تعاون جامعة عين شمس والمؤسسة الوطنية الصينية لتعليم اللغة الصينية    أفراح جوائز الدولة    الخميس.. قصور الثقافة تقيم حفل أغاني موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بمسرح السامر مجاناً    «الصحفيين» تنظم قافلة للعيون ومركز بصريات وتحاليل الأورام من الأحد المقبل (تفاصيل)    قومية سوهاج تقدم عرض اللعبة ضمن موسم مسرح قصور الثقافة بالصعيد    الأزهر للفتوى يقدم مطويَّةً فقهية توعوية للحجاج وللمعتمرين    محافظ الإسماعيلية يشيد بدور مجلس الدولة في فض المنازعات وصياغة القوانين    روسيا تطور قمرا جديدا للاتصالات    تعرف علي مناطق ومواعيد قطع المياه غدا الاربعاء بمركز طلخا في الدقهلية    تأجيل إعادة إجراءات محاكمه 3 متهمين بفض اعتصام النهضة    «الضوابط والمحددات الخاصة بإعداد الحساب الختامي» ورشة عمل بجامعة بني سويف    رئيس جامعة بني سويف يشهد الاحتفال بيوم الطبيب    شروط ومواعيد التحويلات بين المدارس 2025 - الموعد والضوابط    اشترِ بنفسك.. رئيس "الأمراض البيطرية" يوضح طرق فحص الأضحية ويحذر من هذا الحيوان    "حاميها حراميها".. عاملان وحارس يسرقون خزينة مصنع بأكتوبر    شبانة: لجنة التخطيط تطالب كولر بحسم موقف المعارين لهذا السبب    موعد إجازة عيد الأضحى المبارك 2024.. تصل إلى 9 أيام متصلة (تفاصيل)    محافظ مطروح يشهد ختام الدورة التدريبية للعاملين بإدارات الشئون القانونية    تشكيل الدوري الإنجليزي المثالي بتصويت الجماهير.. موقف محمد صلاح    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية البراجيل في ملوي غدًا    بشرى للمواطنين.. تفاصيل حالة الطقس ودرجات الحرارة حتى نهاية الأسبوع    الجنايات تعاقب عامل بالسجن 3 سنوات لإدانته بالاتجار في الحشيش    دفاع الفنان عباس أبو الحسن: تسلمنا سيارة موكلى ونتتظر سماع أقوال المصابتين    الطب البيطرى: تحصين 144 ألفا و711 رأس ماشية ضد الحمى القلاعية بالجيزة    خلال زيارته للمحافظة.. محافظ جنوب سيناء يقدم طلبا لوفد لجنة الصحة بمجلس النواب    محافظ الجيزة: تطوير وتوسعة ورصف طريق الطرفاية البطئ    مراسل القاهرة الإخبارية: الآليات الإسرائيلية تسيطر ناريا تقريبا على معظم مدينة رفح الفلسطينية    نسألك أن تنصر أهل رفح على أعدائهم.. أفضل الأدعية لنصرة أهل غزة ورفح (ردده الآن)    مع اقترابهم.. فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    إسرائيل تعتقل 22 فلسطينيا من الضفة.. وارتفاع الحصيلة إلى 8910 منذ 7 أكتوبر    عاجل| مع اقتراب عيد الأضحى.. مدبولي يتابع موقف توافر السلع في الأسواق    تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة فؤاد شرف الدين.. «كان يقاوم الألم»    فيلم السرب الأول في شباك تذاكر أفلام السينما.. تعرف على إجمالي إيراداته    رئيس وزراء إسبانيا: نعترف رسميا بدولة فلسطين لتحقيق السلام    وزيرة الهجرة تلتقي أحد رموز الجالية المصرية في سويسرا للاستماع لأفكاره    توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 28 مايو 2024.. مكاسب مالية ل«العذراء» ونصيحة مهمة ل«الميزان»    نقطة ضعف أسامة أنور عكاشة.. ما سبب خوف «ملك الدراما» من المستقبل؟    معهد صحة الحيوان يعلن تجديد اعتماد مركز تدريبه دوليا    مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية يوضح فضل حج بيت الله الحرام    وزير الصحة يبحث مع نظيره الفرنسي سبل تعزيز التعاون في اللقاحات والأمصال    دويدار: الجزيري أفضل من وسام أبو علي... وأتوقع فوز الزمالك على الأهلي في السوبر الإفريقي    حمدي فتحي: أتمنى انضمام زيزو لصفوف الأهلي وعودة رمضان صبحي    مدرب الألومنيوم: ندرس الانسحاب من كأس مصر بعد تأجيل مباراتنا الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لأنهم لايأكلون دقيق القمح !
نشر في بوابة الشباب يوم 24 - 02 - 2011

في العدد الأول من مجلة ( أكتوبر ) 31 أكتوبر سنة 1976 كان مقالي بعنوان : تعالوا نصنع مستقبل مصر . ومن السطر الأول قلت : إذا سافر اثنان في طريق واحد , واختار احدهما جانب الظل , والآخر اختار ضياء الشمس . فالذي سار في النور : شاب .. ولأن الشباب يبحث عن النور ليري أوضح , ونراه نحن أيضا .. والبلد الذي يملك ثروة من الشباب : بلد قد ضمن الحياة والحيوية والمستقبل .. فالشباب أوصياء علي العرش ,
عيونهم نجوم الغد .. قلوبهم توربينات الثورة والثروة !
وليس صحيحا أن كل ما صنعناه هو الهزيمة , وان الماضي كله اسود , وان الحاضر كله أبيض , والمستقبل أكثر لمعانا . فلا نحن آباء الهزيمة .. ولا الشباب أبناء النصر .. ولكن التاريخ كله شركة .. ونحن جميعا أطراف النزاع . نحن جميعا القاضي والمتهم والجريمة .. ولا احد بريئا ! ولا احد يتفرج علي احد .. إنما نحن جميعا أشخاص مسرحية واحدة ومؤلفوها والمتفرجون عليها .
ولذلك يجب ان نعمل جميعا معا علي اكمال مابدأنا , وتقويم ما التوي في أيدينا , وما التوت به ايدينا .. ولكن من الذي يقول لمن : اعمل فلا وقت للتثاؤب؟ !
ومن الذي يقول : انهض كفانا نوما؟
ومن الذي يقول للشباب : انتهي اللعب وبدأ العمل .. أو تحقق الأمل , فليكن أملا جديدا؟ !
ولا أحد يقولها لأحد .. إنما نقولها معا : كبارا وصغارا . أبناء الأمس وأحفاد الغد .. فالقضية واحدة . عندنا حياة وحيوية .. ويجب ان تكون ولدينا خطة .. وتكون الخطة مثل اشرطة السكك الحديدية مثبتة متينة متجهة إلي المستقبل .. يجب ان تفرز قواعد العمل وأصول النجاح .. تماما كما تفرز دودة القز حريرها وسريرها ..
فما هو المطلوب؟
المطلوب هو أن نقترب من شباب مصر .. تصور أن في مصر أطفالا , أي شباب الغد , وشبابا أي رجال اليوم , يبلغون هذا العدد العظيم .. تصور هذه الاعواد الخضراء .. هذه الزهرات اليانعة .. كلها يجب أن نرويها وننتظر .. يجب ان نهب عليها نسيما منعشا وننتظر . يجب الا تتحول أيدينا حولهم إلي ديدان قطن .. يجب الا تكون كلماتنا بينهم مبيدات حشرية , تأكل الدود واللوز والورق .
ولذلك : يجب أن نقترب منهم في حنان الأم وحب الأب .. ولكن ليس بالحب وحده والحنان وحده ينمو الأطفال وتزهر النباتات , إنما بالحب المضيء أي بالعلم والتربية الوطنية والأخلاقية .
فمن أين نبدأ؟
إن كل نقطة مهما نختلف أمامها , فمن الممكن أن تكون البداية .. إلخ .. إلخ ..
ولست في حاجة إلي أن اذكر الاسباب التي دفعتني إلي الاهتمام الشديد بالشباب أو القلق عليه .. فهذا خط علي جبيني وأحد همومي العريقة .. وقضية لم انته إلي حكم نهائي فيها .. وكثيرا ما توهمت أنني وجدت الحل .. وكثيرا ما وجدت ان من الضروري أن أستأنف الحكم .. وقد جاءت حيثيات الحكم لقضية القلق والخوف والعنف في أكثر من عشرات الكتب بقلمي , وفي عشرات الألوف من المقالات .. إنها إذن مشكلة لم أصل فيها إلي حل .
هل سبب ذلك أنني عرفت قلق الشباب ولم استرح بعد؟ !.. نعم ..
هل لأنني اشتغلت بالتدريس في الجامعة وعرفت من ويلات الشباب ما لم أكن أعرف؟ ! نعم ..
هل لأنني كنت شابا , وكانت لي عشرات الرؤوس فوق كتفي , وعشرات القلوب في جوانحي , فتحيرت بين المذاهب الفلسفية والدينية , ثم فتحت نوافذ برأسي , وضربت أبوابا بقدمي .. فارتدت الأبواب في وجهي جدرانا من الرفض , وتساقطت الأسقف علي رأسي صلبانا من الهوان؟ .. نعم ..
ولايمكن إلا أن أكون قريبا من الشباب لعلي أفهم ولعلنا .
وليس الذي عانيناه بالأمس , منذ انطلق الرصاص علي النقراشي باشا وجمال عبدالناصر , إلا سوء فهم أدي إلي أزمة تفاهم .. لان الذي حاولناه قليل , والذي فهمناه قليل جدا .. والقينا بكل شيء وراءنا وعلي اكتاف الآخرين .. وانشغلنا ونسينا .. ولكن آخرين من أبنائنا لم ينسوا .. فقضيتهم لم تنحسم , ومشكلتهم لم تجد حلا .. واتسعت المسافات بين الصغار والكبار .. ورمينا بالوحل كل وجه .. وألقينا الشوك في كل طريق وطاشت أيدينا تشير بالاتهام في كل اتجاه . وهكذا ملأنا شوارع مصر وبيوتها بالمتهمين والهاربين من العدالة .. ولم نعرف من هو الجاني علي من؟ ووقفنا عند ذلك , ورفعنا الجلسة لكي تنطق بالحكم بعد المداولة ولم ننطق بالحكم حتي الآن !!
فما الذي حدث؟ أو ما الذي لم يحدث؟
إننا لم نفهم بدرجة كافية ولذلك كان من الصعب ان نصحح اخطاءنا .. لاننا لم نر الخطأ فكيف نصحح مالا نراه .. أو مالا نريد ان نراه؟ ! هذه هي قضية القضايا : الأمس واليوم وغدا وبعد غد ..
ونحن الآن أمام أعمال عنيفة قام بها شباب من أبناء الطبقة المتوسطة , أي الذين يعيشون علي الحافة بين الفقر والأمل في التخلص منه .. وعلي مرأي من الأغنياء جدا أصحاب الثروات الاستفزازية , أي الذين فتح عليهم الانفتاح الاقتصادي كل أبواب السماء ذهبا وفضة , وأبواب الأرض غضبا وحسدا .
ولأنهم شبان فهم مثاليون , ولأنهم شبان فهم مندفعون , ولأنهم شبان فهم معتصمون .
فهم مثاليون لأنهم يرون أنفسهم رهائن الوضع الراهن , وهم لذلك ساخطون علي قيودهم , يريدون أن يتحرروا منها , فإذا تحرروا تحرر المجتمع أيضا , وهم لا يصبرون علي ذلك , فليس من صفات الشباب أن يصبروا كثيرا , إنه يتعجل الحل , ويري أنه لا حلول أخري إلا التي يراها , وكل الحلول الأخري كافرة , وهو يتعصب لرأيه , ويري أنه علي حق وأن غيره علي باطل , وأنه وحده الذي يجب أن يغير الدنيا بالرصاص , ولذلك يطلق الرصاص في كل اتجاه , ونحو الهدف الذي يريد , وهو يعلم أن قوات الأمن التي هي أقوي منه هي أضعف أيضا , لأنها لا تستطيع أن تحمي أقوي الحكام من مواطن واحد مجهول قرر أن يغتاله , ولأن قوات الأمن لا تستطيع أن تطلق الرصاص في كل اتجاه , فتصيب الأبرياء وهي تحاول أن تمسك إرهابيا واحدا , ولا تستطيع أن تنسف بيتا أو قطارا من أجل الإيقاع بمجرم واحد , بينما المجرم يفعل ذلك بسهولة !
وفي سنة 1973 وحدها كانت حوادث الإرهاب قد بلغت 122 حادثا , أكثرها في أوروبا وأمريكا و 74 فقط في بلاد العالم الثالث , كما أن أهم حوادث الإرهاب في المائة العام الماضية كانت فردية , فالرؤساء ماكنللي وكارنو وكيندي والزعيم غاندي اغتالهم أشخاص لا ينتسبون إلي جماعات أو منظمات أو حركات تحرير وطنية أو عالمية , وقد أثبت اغتيال هؤلاء العظماء قدرة الأفراد علي النيل من أقوي الأقوياء وعجز أجهزة الأمن كلها من التنبؤ بذلك أو منعه قبل وقوعه .
وأمام إرهاب الجماعات السياسية والدينية نجد أننا أمام ثلاث نوعيات من الناس , النوع الأول : هو المؤمن بدين أو مذهب , ولكنه في نفس الوقت يري أن هناك مذاهب أخري متعددة مختلفة , وأنه استراح إلي واحد منها , وأن من الممكن أن يأخذ من التجارب الإنسانية العريضة تدعيما وتأصيلا لمذهبه السياسي , ومعني ذلك أنه يري أن دينه ليس هو الدين الوحيد , وأن مذهبه السياسي ليس الثمرة الوحيدة علي شجرة التجربة الاجتماعية .
وأري أن هذا شاب معتدل متوازن , وأنه اختار الموقف الصعب , لأنه اختار بيتا متعدد الأبواب والنوافذ , وأنه اختار الكثير من الضوء , والشديد من الهواء والعديد من الزوار .
والنوع الثاني : هو المتعصب , أي الذي يؤمن بمذهب في الدين أو في السياسة ويمسكه كما يمسك سمك القرش فريسته لا يتركه إلا بالموت , ويري أن مذهبه هو المذهب , وأن دينه هو الدين , وأن الطريق إلي الجنة طريقه هو , وأن المنار ملتقي كل المخالفين له , وأن الدنيا حديقة واحدة , وفي هذه الحديقة شجرة واحدة , وعلي هذه الشجرة ثمرة واحدة , وأنه صاحب هذه الثمرة , وإذا كانت للآخرين حدائق فهي أرض خراب , وإذا كانت لهم أشجار فبلا أزهار ولا ثمار , وأنه كالذي اختار بيتا له مدخل واحد ونافذة واحدة , وهو يقف وراء الباب متربصا , فكل من يحاول أن يدخل فهو لص , وكل من يحاول أن يقترب فهو جاسوس , وهو قد اتخذ موقفا معاديا من كل الناس دون أن يدري أنه هو نفسه يقف في مقدمة أعدائه .
وهذا أسهل الأوضاع وأسوأها أيضا , فقد ضاق أفقه , واختنق عقله , فأصبح رأسه مثل عين الإبرة لا تتسع إلا لخيط واحد , وهو أيضا قد أصيب بعمي الألوان , فلا يري إلا لونا واحدا , هو لونه السياسي أو الديني , ولذلك يجب أن يري كل الذين مثله قد اتخذوا علامات تميزهم عن الناس , أي يجب أن يختلفوا بوضوح , فتكون لهم الجنة أو يكون لهم القميص الأسود أو الرمادي أو الأزرق , أما الذين بلا علامات تميزهم فلا وجود لهم , أو ينبغي ألا يكون لهم وجود !
والنوع الثالث : هو الإرهاب أي الذي آمن بأن مذهبه في الدين والسياسة واحد لا شريك له , وأن من واجبه هو أن يفرض هذا الرأي بالرصاص , أي أنه إنسان رفض الأوضاع , ويريد أن يغيرها بسرعة , وألا ينتظر التاريخ حتي يفعل ذلك , لأنه قادر علي أن يغير التاريخ بنفسه , أو بعدد قليل من المؤمنين بدينه ومذهبه السياسي , وهؤلاء هم الذين يسمونهم فلاسفة القنبلة أي الذين استقرت في رءوسهم أفكار ثابتة متماسكة منسقة وامتلأت أيديهم بالقنابل والرصاص .
وليس من الضروري أن يكون الواحد من هؤلاء فقيرا ليكون ساخطا , لأن السخط هو غضب في مواجهة وضع .. فمن الممكن أن يغضب الغني كما يغضب الفقير , وليس من الضروري أن يكون الساخط مريضا عقليا أو نفسيا , وإلا كانت كل الأوضاع الخاطئة خاطئة لعيوب في الناس , وليست لعيوب في الأوضاع , فنحن لا نقول : إن الشوارع امتلأت بالمطبات لأن هناك مطبات عقلية في رءوس الناس , وإلا رجعنا مرة أخري إلي العصور الوسطي التي اتهمت العالم الفلكي جاليليو بوجود بقع علي عينيه , لأنه رأي بقعا سوداء في قرص الشمس , فالسواد في عينيه وليس في الشمس !
وانما هناك قدر من الشعور بخيبة الأمل في كل عصر . وخيبة الأمل سببها أن الناس يريدون الكثير , فلا يحصلون إلا علي القليل .. فيكون سخطهم نتيجة لشعورهم بالفشل ..
وهذا الشعور يلازم الإنسان في كل مراحل حياته والشباب خصوصا .
فالذي يتمناه كثير .. والذي يقدر عليه قليل . وفجأة يشعر الشاب : أن الحيوية لا ثمن لها . وأن التعليم لا معني له . وأن الذكاء لا سعر له . فليس الإنسان في حاجة إلي كل هذه المؤهلات ليكون غنيا أو قويا .. فبين الأغنياء مرضي .. وبين الأقوياء لصوص !!
ويزداد شعور الشبان بالقلق في المجتمعات غير المستقرة .. تماما كما يمشي أحد الركاب علي ظهر سفينة في بحر هائج .. هو يهتز والسفينة تهتز .
وربما كان عدم الشعور بالاستقرار عند الشبان أكثر في المجتمعات التي تتغير ببطء .. فالمجتمع الذي يتغير ببطء يهتز .. ولكن المجتمع الذي يتغير بعنف , يثبت بعنف أيضا .
والناس يقلقون في مجتمعات السلام أكثر من قلقهم في مجتمعات التعبئة الحربية .. فأثناء الحروب تقل الجرائم وترتفع نسبة الزواج .. فالمجتمع كله قد ذاب في صبغة واحدة , وهدف واحد .. وتقارب الناس أكثر وأحس الناس بالموت يهدد الجميع , فأقبل الناس علي الحياة , كآخر تحدياتهم للضياع والفناء . فارتفعت نسبة الزواج .
ولم يكن من المصادفة أننا عندما كنا نرفع أنقاض البيوت بعد الغارات الجوية , نجد الأزواج متعانقين تحت التراب ..
بينما في ظل السلام يتباعد الناس , ويتراخي المجتمع وتظهر الخلافات وترتفع نسبة الطلاق .. ويزداد الشعور بالقلق , وتقوي الرغبة في الانطلاق بعد الكبت الشديد .
وفي كل مرة يكون القمع صغيرا أو متواضعا يكون التحدي له أكبر .. فالمجتمع الذي يواجه العنف بتوجيه اللوم , مجتمع لا يعرف معني الحركات التحتية , للغضب وينابيع الثورة التي تتواري تحت الأرض , إلي أن تجد نقطة ضعيفة في الأرض فتنفجر كالينابيع أو كالبراكين والزلازل .
ثم إن القمع الصغير يؤكد جهل الدولة بحجم الغضب .. وهذا الجهل يغري الغاضبين بمزيد من التحفز والتربص .. ثم إن هذا القمع الصغير يكشف الدولة .. لأن الغاضبين لم يكونوا يعرفون بوضوح رد فعل قوات الأمن , فكلما كان القمع صغيرا , جاء ذلك دليلا علي أن هذا هو الحد الأقصي .. أو الاجراء الأعنف أو آخر ما في قدرة الدولة أن تفعله !!
إذن لقد انكشفت الدولة , وهان أمرها علي هؤلاء الساخطين .. ثم إن هؤلاء الساخطين المتعلمين قد اختبروا أجهزة الدولة وامتحنوها , ورصدوا عيوبها وعرفوا مداخلها .. فلا تجانس ولا وحدة بين كل أفراد أجهزة الأمن .. بينما هم لهم خطة واحدة وهدف واحد وعقيدة واحدة , فهم أكثر تماسكا وأشد تقاربا .
ولا تزال نصيحة الحكيم بوذا أعظم النصائح .. فقد وجد عددا من تلامذته يثقبون جبلا في عشرين موضعا مختلفا .. كل واحد منهم أمسك مسمارا وراح يحفر في جانب من الجبل , فضحك قائلا : بل اجعلوا المسامير واحدا . ودقوا علي رأسه معا !
ولم يكن بوذا رسول السلام النفسي يعرف انه قدم نصيحة خالدة لكل المنظمات في العالم : ان يتحدوا حول مسمار واحد ليدقوا رأسه في وقت واحد .. فذلك : أوجع وأوقع !
وكذلك فعلوا ويفعلون !
ولما حاول العالم الإيطالي شيزاره لمبروزو أن يفسر للقرن التاسع ولنا أيضا اسباب هذا الاضطراب الوطني والإرهاب العالمي .. فاتجه الي الصفات الوراثية في الاسرة واتجه أيضا إلي الملامح الجسمية وخاصة قسمات الوجه .
ولكن أطرف ما اهتدي اليه هو ان معظم أعمال العنف كانت في دول أوروبا الشرقية .. ولم يجد تشابها بين هذه الدول لا في الوجه ولا في الطبقة ولا في اللغة ولا في المقومات التاريخية ولكن وجد سببا وحيدا اقتنع به هو ان هذه الشعوب تعاني نقصا في الفيتامين .. وان بعض الثوار كانوا مصابين بالبلاجرا .. ( والقاموس الطبي لعلي محمود عويضة يعرف هذا المرض : بانه خشونة في الجلد بسبب نقص فيتامين ب )!
ولكن لماذا يعانون هذا النقص؟ كانت اجابة لمبروزو انهم أبناء شعوب تأكل الذرة ولاتأكل دقيق القمح !
فأدت خشونة بشرتهم إلي خشونة ايديهم وطباعهم واختلال ميزان الحيوية في أجسامهم وعقولهم أيضا !
ولم يضحك احد لهذا التفسير في ذلك الوقت .
بل ان أحد القياصرة الروس قد أمر بمضاعفة تناول عجائن القمح في القصر وعند كل الأمراء وراح يتجسس عليهم فاذا عرف أن احدا بسبب الامساك قد امتنع عن تناول القمح هدده بالطرد أو بالسجن لان الامتناع عن أكل دقيق القمح هو استعداد للقيام بعمل إرهابي ضد القيصر !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.