منذ عدة أيام عاد أحد أصدقائى من إحدى الدول العربية .. قابلته فى مقهى زهرة البستان ، شربنا الشاى وتبادلنا أطراف الحديث حتى وصلنا للكلام عن حال بلدنا .. فجأة وجدته حزيناً يشعر بضيق ثم انتفض وقال شكلنا وحش قوى بره وصورتنا الذهنية زى الزفت وفى مرة إتخانقت مع زميل هناك فقال لى بعلو صوته : إنتو لاقيين تاكلوا فى بلادكم روح شوف طوابير العيش ولا العشوائيات اللى فيها كذا وكذا عند هذا الحد سكت صديقى عن الكلام المباح أما الحديث فقد أخجلنى وأثار فى نفسى شجوناً كثيرة حيث كان صديقى صريحاً فى نقل الصورة التى لدى العالم الخارجى عنا وهى صورة نعرفها جميعاً .. فالعالم لم يعد يرى من مصر سوى ثالوث الجوع والفقر والمرض الذى ينهش فى الضمير وفى الحماس وفى الإرادة قبل أن ينهش فى الجسد وقبل يجفف ماء الوجه .. لم نعد نرى العظمة المصرية فى السينما التى باتت تتعايش على ثالوث الرزق المصرى المقدس( العشوائيات، الجنس، الخيانة) حتى فى صحافتنا المانشيت المفرقع هو فقط المانشت الذى يطعن إما فى رموزنا أو فى ظروفنا .. لا يمكن أبداً أن تكون ظروف أى مجتمع مصدراً للإرتزاق كما يحدث فى بلادنا ..إننا تناسينا المشروعات القومية وتناسينا الحماس الذى كان يدفع الأجيال للنهوض. فعلى ما يبدو يا سادة أننا دخلنا بمصر إلى عصر الثلاجة! ممكن بعض الناس يقولون أن هذه هى حقيقة ظروفنا وأنا متفق معهم إلى حد ما ولكن المشكلة تكمن فى كيفية تناول هذه الحقيقة بحيث يتم وضعها فى إطارها المناسب خاصة وأنه ليس كل المعارف حقائق فالمعرفة شىء والحقيقة شىء آخر، وفى ظنى أن من أهم أسباب خلق هذه الصورة السلبية هو الخلط بين المعرفة والحقيقة فى القيم الإعلامية لفضائياتنا بشكل خاص وقد بات الطعن والتغريب والسباب هو الطريق السلطانى للوصول للجمهور وللحصول على ما فى جيوب المعلنين .. إننى أدعوكم من خلال هذه السطور لأن تعودوا لترون كيف كانوا يكتبون عن مصر فى أحلك فترات تاريخها قبل الثورة حيث الفساد والاستبداد والاحتلال هناك لم يكن يجرؤ أحد أن يشتم مصر أو يتهجم على تاريخها ولم تكن ظروفها مصدراً للتشويه والإرتزاق وإنما كان مصدر الإرتزاق هنا هو طرح الأمل ومناصرة الحقوق والدعوة للحرية والعدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية كانت قضايا التعليم والمرأة والعدالة والاصلاح والقيم والأخلاق والحرية والجمال والثقافة والآداب هى مصدر الكتابة الراقية الدافعة للأمام ولم يكن مسموحاً للضعفاء والمرضى والموتى بأن يكتبوا أو يتباكوا على اللبن المسكوب كما هو الحال الآن .. مصر تنادى عمن يكتب عنها بإيمان ويرفع عنها الزيف والغشاوة كما تبحث عن ريشة فنان يرسم لها " بورتريه " جميلاً يحمل إشراقاً فى مدلولاته التعبيرية كما تبحث أيضاً عن كاميرا تنقل عنها بثاً مباشراً من مواضع عظمتها كما أنها تعلن عن وظيفة بمرتب مغرى لشخص عبقرى فى تسويق الصورة الذهنية الإيجابية لها. المهم أننى بعد أن أنهيت حديثى مع صديقى العائد من بلاد الفلوس عدت إلى منزلى وأحضرت أحد الكتب التاريخية القديمة حتى أستعيد الثقة ببلادى .. وها أنا ذا فى حضرة واحد من أعظم من اهتموا بالتأريخ لمصر إنه الطبيب وعالم المصريات الراحل الشهير إيليوت سميث الذى عشق الحضارة المصرية وظل يبحث فى فضلها وفى أصلها وفصلها وتأثيرها حتى أثبت بالدليل أن مصر أم الدنيا بالفعل وأن حضارتنا نقلت العلم والعمران لجميع أنحاء العالم القديم فالفراعنة قاموا بتصدير فكرة التحنيط لأمريكا حيث وصل المصرى القديم لأمريكا فقد وجدت فى أمريكا جثث محنطة على الطريقة المصرية فكما يقول لنا إيليوت سميث أن التحنيط كان قاطرة التقدم الحضارى والسر فى ذلك أنه كان يعتمد على مواد تحتاج لسفريات بعيدة فى أفريقيا والهند وأمريكا وعندما كان يسافر المصريون كانوا ينقلون معهم معالمهم الحضارية .. ففى السودان هناك أشكال هرمية على الطريقة المصرية.. ففى شمال العاصمة الخرطوم يوجد نحو 50 هرماً لم تنل بعد اهتماماً كافياً من السائحين كما أن هناك ما يسمى بعلم البراميديكا أو علم الهرميات وهو علم هندسى يُستخدم فى العمارة ويعتمد على ما تركه الفراعنة من قوانين وفى حضارة الأزتيك التى انتشرت فى أمريكا بها ما يسمى بأهرامات الشمس المدرجة التى تتخذ كثيراً من ملامح الحضارة المصرية.. وفى عدد من اللغات الأوروبية توجد بعض المفردات والكلمات الهيروغليفية .. المصريون أيضاً وصلوا للصين ووصلوا للهند عبر البحار وتركوا انطباعات عظيمة لدى سكانها ... أفلاطون نفسه حضر إلى مصر وأشاد بها وقال أن كل علم أخذه كان عن كهنة مصر فقد كانوا أهل العلم والحكمة حيث عاش فى مصر سنوات عديدة من عمره بعد إعدام سقراط، وفى مصر، أيضاً الحضارة المصرية هى التى قدمت للعلم الكيمياء .. فكلمة كيمياء هى فى الأصل كلمة مصرية تعنى الأرض السوداء . وقد ترك لنا إيليوت سميث نظرية سميت بنظرية الإنتشار الحضارى المصرى ليؤكد من خلالها مدى المكانة التى تمتعت بها مصر فى التاريخ حتى صار تاريخنا علماً يدرس فى أوروبا وأمريكا .. هذه الحضارة الخالدة تضع على كواهلنا مسئولية عظيمة إذ أننا يجب أن نحترم تاريخنا ومقدساتنا كما يجب أن نعمل على تدعيم وغرس هذه الصورة فى العالم وهناك دول تأكل وتعيش وتجتذب الاستثمارات بناءً على صورتها الذهنية فى أدمغة الدول الأخرى فهناك من يتعايش على التاريخ ويأكل على قفا التاريخ ونحن بإمكاننا أن نأكل شهداً على قفا هذا التاريخ كما يمكننا أن نعزز من مكانتنا العالمية بما نمكله من مقومات هذا التاريخ من أجل محو هذه الصورة الملوثة التى لم نتحرك لتغييرها . إننا يجب أن نحرص دائماً على تقديم التاريخ المشرق الذى عاشته الأجيال الماضية كما نحرص أيضاً على تصدير النماذج الإيجابية التى عاشت بيننا وأخيراً الأمم لا تتقدم ولا تتحسن صورتها إلا بدورها وإذا كان التاريخ يؤكد زعامتنا فإن الحاضر لابد أن نعمل له بالإنتاج والاكتفاء.