هناك بيوت ومنازل قديمة فى القاهرة لا يزال يسكنها التاريخ .. ففى حارة مونجى المجاورة لمسجد السيدة زينب بالقاهرة يقع بيت السنارى الذى كان فى يوم من الأيام مقرا لعلماء وفنانى الحملة الفرنسية على مصر . تخيلوا أن هذا المكان كان ساحة للتفانين وورشة ابداعية لرسم ملامح وآثار ومعالم المحروسة وتسجيل العادات والتقاليد والحكايات المصرية فى هذه الفترة .. باختصار هنا وضع علماء الحملة الفرنسية كتاب " وصف مصر " الذى يعد أشمل وأقيم موسوعة تحدثت عن بلدنا فى التاريخ الحديث ، فعندما جاء نابليون بونابارت على رأس حملته إلى مصر وقع اختياره على هذا البيت ليكون مقرا للمجمع العلمى الذى سعى لانشاءه . هذا البيت أسسه إبراهيم كتخدا السنارى عام 1794 وكان هذا الرجل من أعيان القاهرة وقد شغل منصب وكيل الوالى ثم هرب من القاهرة بعد قدوم الفرنسيين ، وبعد أن استولى نابليون علي البيت حوله لخلية نحل لوضع كتاب "وصف مصر " الذى تم تأليفه بطريقة عبقرية ، حيث اعتمد على الوصف المكتوب والمرسوم ولهذا ضم بين مجلداته الأحد عشر لوحات فى غاية الروعة وبحوث قصيرة شيقة فى غاية الدقة وشارك في إعداده 150 عالما وأكثر من 2000 متخصص من الفنانين والرسامين، والنسخة الأصلية منه موجودة فى مكتبة البلدية بالأسكندرية ،ولهذا السبب يتمتع بيت السنارى بأهمية تاريخية غيرعادية فقد كان مبعثا لنهضة علمية وثقافية عظيمة وجرت فيه أول محاولة للكتابة عن مصر بشكل علمى من خلال علماء الحملة ، وبعد جلاء الفرنسيين عن مصر آلت ملكية هذا البيت للأوقاف والتى قامت بتأجيره لإحدى السيدات من أهالى المنطقة ولم تدرك هذه السيدة مدى أهمية المكان بل على العكس باعت الكثير من نوافذه وأبوابه كما أجرته بالباطن لعدد كبير من الأهالى . لكن الأغرب ما روته مجلة الهلال فى عدد مايو من عام 1925 حيث أجرت تحقيقا طريفا عن البيت وقد أطلقت عليه اسم " متحف نابليون " وكشفت المجلة أن هذا البيت يضم تركة فنية وابداعية عظيمة خلفتها الحملة الفرنسية .. وقالت " التفت إلى البيت مسيو ديكروا وزاره مع شارل جالياردو بك .. وسعيا لدى ناظر الأوقاف حتى أخرجا المستأجرة من البيت فأدخلته لجنة الآثار العربية فى عداد الآثار وأجرته نظير قرش صاغ لجلياردو فأنشأ فيه متحف ومكتبة بونابرت .. وذكرت المجلة أن المكتبة تحتوى على عشرة آلاف كتاب من الكتب النادرة .. حيث يبدأ الزائر بغرفة صغيرة تحتوى على مجموعة صور لوقائع بونابرت الحربية فى مصر مثل نزول العسكر ميناء تولون وواقعة الأهرام لمصورين مختلفين وموقعة أبو كبير وأسلحة فرنسية وتركية وصور ولوحات لثورات المصريين على الفرنسيين ، أما الغرفة الثانية فتضم دهليز موصل إلى الغرفة الثالثة وتحتوى على لوحات وصور لبعض الإنجليز المهمين فى هذا الوقت ورسوم كاريكاتورية وعدد آخر من الكتب ، والغرفة الثالثة تضم أيضا رسوماً تجسد الصناعات والحرف اليدوية المصرية وميداليات من أيام بونارت وقطع رخام وخزف من الفسطاط ، أما الغرفة الرابعة فكانت عبارة عن قاعة كبيرة فيها نافورة تعلوها مشربية مطلة على الحوش وأهم محتوياتها مجموعة نفيسة من الكتب عن الحملة الفرنسية ومنشورات فرنسية وحجج ملكية وصور مختلفة لبونابرت وهو فى "فسحة "عند الأهرام ، ونسخة مخطوطة من تاريخ الجبرتى وكتاب لم يطبع منه سوى خمسمائة نسخة تحكى عن محاكمة سليمان الحلبى بالفرنسية والعربية والتركية ، وصورة من حجر رشيد أهداها المتحف البريطانى إلى جالياردو ولوحة زيتية ملونة عن مدينة رشيد ولوحة تذكارية عليها تاريخ انشاء المتحف أشير فيها إلى من سكنوا البيت من العلماء والفنانين الفرنسيين كما جمع جالياردو الكثير من مقتنيات وآثار نابليون ورجاله تخليدا لذكراهم .. أما الغرفة الخامسة فيوجد بداخلها قاعة كبرى تضم كتباً فى العلوم والنباتات ونماذج من المعادن الثمينة وبجوارها كانت توجد مكتبة خاصة بجالياردو تحتوى على مئات المستندات وعدد من مؤلفات مؤرخى مصر القديمة مثل هيرودوت وديدرو ومطبوعات دار الآثار المصرية .. عند هذا الحد توقف وصف مجلة الهلال لهذا المتحف العجيب .. لكن ما حدث بعد ذلك للبيت لا يعرفه أحد .. حيث اختفت منه كل هذه المقتنيات وصار بيتا مهجورا لا يسكنه أحد فقد يكون المتحف قد تعرض للسرقة والسطو بعد وفاة جالياردو وربما تكون هيئة الآثار قد جمعت هذه المقتنيات ثم احتفظت بها ..ولكن على كل حال اختفى المتحف تماما بما يضمه من كنوز ، وقد زار ويب " الشباب " البيت ووجدناه محتفظا بجدرانه القديمة ولا تزال هناك نافورة باقية فى ساحته كما توجد به بعض المشربيات العتيقة ولكنه من الخارج يبدو فى هيئة تدعو للرثاء ، وقد ذكر حارسه لنا أنه لم يعد ملكا للمجلس الأعلى للآثار وإنما يخضع حاليا لاشراف مكتبة الأسكندرية وسوف يتم البدء فى ترميمه خلال الفترة القادمة .